مستقبل الإسلام السياسيّ على مائدة إفطار!
02-05-2019

 

حدث هذا قبل ثلاث سنوات. أتذكّر جيّدًا أنّنا كنّا نجلس مع مجموعة من الأصدقاء، من جماعة الإخوان المسلمين المصريّة، لتناول الإفطار في شهر رمضان في مدينة اسطنبول. في أحد تلك اللقاءات، دار حديثٌ مطوّل عن التجربة التركيّة. كان البعض يعتبرها براغماتيّةً، بغضّ النظر عن  مدى تحقيقها لـ"الخصائص الإسلاميّة." كما اعتبر أنّ قيادةَ العلاقات الاقتصاديّة مع "إسرائيل،" وتنميةَ الاقتصاد الرأسماليّ الحرّ، وتوسيعَ البنوك الأوروبيّة وغيرها، من علامات تلك البراغماتيّة. أمّا البعض الآخر، فرأى أنّ أداءَ أردوغان "إسلاميّ" فعلًا، وأنّ السلوكيّات الظاهريّة "الخاطئة" تقتضيها المصلحةُ، وهي من ضروريّات مراعاة "سيادة الدولة" ــ التي كانت لعقودٍ من الزمن في يد "العَلمانيين الذين يعملون ضدّنا."

على الفطور أيضًا، دار الحديثُ عن الحركة الإسلاميّة في تونس التي "تتماشى مع الليبراليين، مخالفةً أوّليّاتِ المبادئ الإسلاميّة." وهو ما أثار، مرّةً أخرى، المواقفَ نفسَها على مائدة الإفطار: إنّها "المصلحة" و"انتهاك المبادئ" بسبب "الضعف والخيانة"!

بالنسبة إليّ شخصيًّا، كانت السنواتُ الماضية مريرةً فعلًا. كنتُ أرى آلافَ الشباب الإسلاميين مشرَّدين في تركيا والدول الأخرى. وكانت تصل من مصر، يوميًّا، أخبارٌ عن سَجن العشرات وتعذيبهم. فكّرتُ: لو كنتُ مكانَ شابّ مصريّ في ظروف مطلبيّة وقانونيّة مماثلة، فهل كنتُ سأجلس في الزاوية وأبقى صامتًا، أمْ كنتُ سأتبنّى خياراتٍ ليس آخرَها العملُ المسلّح ولو كان بدعوةٍ من أناسٍ لا أعرفهم؟

في أحايينَ مختلفة، كنتُ أرى نفسي واحدًا من الجهاديين الذين جلس البعضُ يراقبهم عن بعد، أو من أولئك الذين تصوّرْنا أنّهم تكفيريّون. وأقول لنفسي مرّاتٍ إنّ هؤلاء الشباب شجعان ومستعدّون للتعرّض للاضطهاد في مواجهة الديكتاتوريّة! ولكنّني في مرّاتٍ أخرى أقول: ربّما إذا انفرجت الأجواءُ السياسيّة قليلًا، وكانت ثمّة إمكانيّةٌ للحَراك السياسيّ السلميّ، فسأمضي في طريق الإصلاح؛ سأدعو الناسَ إلى الاحتجاج؛ سأقوم بخطوات نحو مستقبل أكثر إشراقًا لبلادي.

ما سبق هو بالضبط شرحٌ لمستقبل الإسلامويّة في منطقتنا.

إنّ الإسلام السياسيّ ــ بسبب ظروف الدهر، والتخطيطِ الجيّد الذي تقوم به الإمبرياليّة، واستمرار هيمنة الديكتاتوريّات العميلة للغرب في منطقتنا ــ لا سبيلَ له إلى السلطة، أو إلى البقاء في السلطة على أقلّ تقدير. وهذا ما يجعله في كلّ آونةٍ عرضةً لأمريْن: أن يدخل في مرحلة "مسامحة" الغرب المستعمِر، بما يتخطّى مبادئَه؛ أو أن يقع في هاوية الحركات المتطرّفة والمسلّحة.

أتذكر أنّني، في الإفطار نفسه، قلتُ لذلك الجمع: "حسنٌ، في النهاية يجب على تلك الحركة التي تدّعي الإسلاميّة أنْ تحدِّدَ خطوطًا حمْرًا لا تتجاوزُها تحت أيّ ظرف، وإلّا فما الفرقُ بينها وبين الآخرين؟" وضربتُ إيران مثالًا في عدم اعترافها بـ"إسرائيل،" وأنّها تحمّلتْ نتائجَ ذلك على الرغم من ضغوط التيّارات المتغرّبة دخل البلاد، والتهديد بالعقوبات من خارجها.

 

في أحايينَ مختلفة، كنتُ أرى نفسي واحدًا من الجهاديين الذين جلس البعضُ يراقبهم عن بعد

 

أحدُ الحاضرين أقرّ بأنّ نموذجَ إيران هو أحدُ النماذج المتاحة للدراسة، على الرغم من اعتباره أنّ الإيرانيين هم المذنبون الأوائل في حقّ ثورتهم:

"إنّ سببَ عدم معرفتنا النموذجَ السياسيَّ الإسلاميَّ الإيرانيّ جيّدًا هم الإيرانيّون أنفسهم. إنّ التيّار الإسلاميّ في العالم العربيّ منقسمٌ بين المنفعة والأصوليّة، وبين الإغراق في المثاليّة والإغداق بالآنيّة والواقعيّة المنهزمة. وهذان الخياران، دائمًا وأبدًا، كانا مصداقَ السيّئ والأسوأ. هكذا فوّتنا، نحن الإسلاميين، إمكانيّةَ دراسة تجربةٍ تجمع بين المثاليّة والواقعيّة، وهي لا تزال مستمرّةً إلى اليوم على شكل تجربة حكم جمهوريّ ــ إسلاميّ."

***

هل يدعونا كلُّ ما ذكرنا إلى البتّ بمصير التجربة الإسلاميّة في العالم العربيّ، تساءلتُ أنا والحاضرون؟

على الرغم من كلّ ما قلتُه، فإنّني في الظروف الحاليّة متفائلٌ بما أسمّيه "الإسلام السياسيّ المنفتح،" وذلك لعدّة أسباب:

أ) التجارب الفاشلة للتيّارات المتطرّفة. فقد قام تنظيمُ "الدولة الإسلاميّة في العراق والشام" (داعش) بتقويض أيّ إمكانيّةٍ لإيجاد تجربة سياسية للتطرّف الإسلاميّ. وعلاوةً على وجود عدّة إشارات إلى عمالة هذه التيّارات، فإنّ نموذجَهم القمعيّ العنيف همّش نموذجَ "الإسلام السياسيّ الجهاديّ" في أيّ تجربةٍ مقبلة.

ب) النموذج الفاشل للإسلام الملكيّ. يُظهر نمطُ الإسلام السياسيّ الملكيّ هذه الأيّام، أكثرَ من أيّ وقتٍ مضى، افتقارَه إلى الأصالة الداخليّة، وتبرُّؤَ قياداته من سُنّة السلف، في مقابل انجرافهم خلف "سُنّة" صانعيه: الغرب الإمبرياليّ. لقد أثبت محمّد بن سلمان، الذي بدأ بنقل النموذج الإماراتيّ إلى السعوديّة، عدمَ صلته بالمنظومة التقليديّة للسلفيّة الملكيّة، تلك التي قامت في السعوديّة منذ قرنين بين آل الشيخ ــ آل سعود.

ج) التجربة الناقصة للإسلام السياسيّ الإخوانيّ. لقد خلق وجودُ جماعة الإخوان في كلٍّ من تونس ومصر وتركيا وبعض الدول الأخرى، في إدارات الدولة، نوعًا من العقلانيّة أو الفهم الواقعيّ للأمور، لدى صفوف المستوى الثاني أو الثالث من هذه الجماعة. كما أعطاهم نظرة أكثر واقعيّة من ذي قبل، وهو ما لم يكن قابلًا للتحقّق في السابق، عندما كانوا مجرّد عنوان لممارسةٍ سياسيّة نظريّة.

إنّ رؤيتي لمستقبل الإسلام السياسيّ تُشبه، إلى حدٍّ بعيد، المشيَ على حدّ السيف: فهذا الإسلام، من ناحية، يمضي متمنّعًا عن أن ينزلقَ نحو الأسهل، أيْ نحو النفعيّة والتعامل مع الإمبرياليّة بأريحيّة؛ وهو، من ناحية أخرى، يحاول التحرّكَ على أساس المبادئ والثبات على القيم، وعدم المصالحة مع العدوّ، والسعي إلى تحقيق الأهداف. "المشي على حدّ السيف" هو خطُّ الأمل بمستقبلٍ أفضل للإسلاميين سياسيًّا. إنّ الإسلام، الذي يحاول الجمعَ بين الدين والدنيا، وبين النموّ الروحيّ والملذّات الدنيويّة، مع الالتفات الدائم إلى المصالح الوطنيّة وتطلّعات الأمّة والحداثة، وعدمِ تضحية أيٍّ منها لصالح الآخر، هو الإسلام المعوَّل عليه، وهو التجربة التي ينبغي للحركة الإسلاميّة أن تصبو إليها. وهذا الأمل معقود على الشباب المنفتح، الذين نتمنّى ألّا يكرّروا تجربةَ الأجيال الماضية.

 

طهران

علي رضا کمیلي

باحث في الفلسفه الإسلاميّة، وناشط في الشؤون المتعلقة بالعالم الإسلاميّ، ومسؤول مؤسّسة "أمّة واحدة" في إيران.