نحتُ الخاشْكار
10-09-2019

 

عائدٌ من الحرب. جنديٌّ يحتفلُ مع رفاقه. يشربون نخبَ الانتصار في حانةٍ صغيرةٍ تقعُ خلف بعض شوارع المدينة التي تعجُّ بالمارّة، تَصلُ إليها بعد أنْ تتُوهَ في أزقّتها الملتوية. أمّا هو، فيحفظُها جيِّدًا كعدد القتلى الذين خلّفهم سلاحُه.

غيرَ مبالٍ بمنْ حوله، كان ماركْ يتبجّحُ ببطولتِه في آخر معركةٍ خاضها، وكيف جلب النّصرَ لبلده. ومع كُلِّ كأس يشربُها كانت ثرثرتُه تزيد، فيُدخل الأحاديثَ بعضَها في بعض، ويبدأُ في التهجّم على هذا، ويضربُ ذاك، ثمّ يضمُّ صديقَه جونْ ويتنفّس باكيًا؛ فلا يملك هذا إلّا أنْ يواسيه ـــ فهو أقربُ النّاس إليه، ورفيقُه في خطِّ النّار.

لم تمُرَّ خمسُ دقائقَ حتّى هدأ ماركْ وعاد إلى مزاجه الأوّل. لكنّه، هذه المرّة، راح يشربُ في سَكينةٍ، وكأنّ شيئًا لم يكن. اعتاد أصحابُه سلوكَه الهمجيَّ هذا، ولحظاتِ الجزع التي تعتريه كُلّما عاقر هاته الكؤوسَ، لكنّهم في داخلهم يعرفون ذلك الرّجلَ المُحاربَ الذي يُدافع عنهم ويفديهم بكلِّ ما يملك.

* * *

كانت آخرُ رسالةٍ تلقّاها منها منذ سنتين، وقالت له في آخرها: "كنْ بخير لأجلي؛ فأنا وقلبي لم نعُدْ نقوى على البُعد!"

كان يقرأُ كلماتِها متفرِّسًا الشوقَ فيها، ويستحضرُها بكلّ تفاصيلها أمامه: لونَ شعرها الذي يميلُ إلى الحُمرة كأنّه حقلُ سنابلَ يودِّع شمسَ الغروب؛ نظراتِها الدافئةَ العميقة؛ عينيْها اللتين تشبهان حبّتيْ فُستقٍ اختارتا الهروبَ من العُنقود للمكوثِ هنا؛ رقبتَها المنحوتةَ بدقّةٍ؛ الشامات التي تزيد تلك الرقبةَ فتنةً؛ جسدَها العذبَ المتناسِقَ الذي لن يرتوِيَ منه أبدًا.

منذُ سنتين لم يحتضنْها كعادته عندما يُوصِلُها أمام منزلها ويظلُّ واقفًا حتى تغيب عن ناظريْه. وتذكّر حين أهداها قلادةً تحمل الحرفيْنالأوّليْن من اسميْهما. واستحضرَ الدموعَ التي نزلتْ فرحًا من عينيْها عندما قال لها "أُحبّكِ." كانت تنتظرُ تلك الكلمة كأنّها طفلةٌ تنتظر هديّةَ عيد الميلاد. وتذكّر كيف كانا يعشقان السّيرَ تحت المطر، وكيف كان يُراقِصُها على أنغامِ زخّاته عندما ترتطِمُ بالطريقِ العتيق. وتذكّر كيف كانا يجلسان في على ذلك الكرسيّ الذي خلّد قصصَ عُشّاقٍ قبلهُم، وقد نُقشتْ عليه بعضُ العبارات الرومنسيّة، وفوقَه فانوسٌ خافتٌ يُنيرُ لياليَهما العاشقة. وتذكّر كيف كان يتخدّر بصوتها الشجيّ حين تُسْمِعه أغانيَ قديمةً تَحفظُها، خصوصًا عندما تُكرِّر تلك الأغنيةَ مُدندنةً: "ألفُ عامٍ من هواكَ، قضّيتُها كالعينِ تطرُفُ في دُجى الجبلِ السحيقْ، قضّيتُها قلبًا يئنُّ مع الظلامِ بلا رفيقْ!" تصمُت، وتحمرُّ وجنتاها، لكنّه يُصرّ عليها بأنْ تُكمل، فتستجيبُ له: "قضَّيتُها روحًا تثنّتْ وانحنتْ... في أرضِ حُبِّك وفقَما سار الطريقْ!"

هربتْ به الذاكرةُ إلى أوّل لقاء، عندما جاءت عابرةً الحدودَ الألمانيّةَ من أرمينيا. كان وقتَها جنديًّا يحرُس الحدود. لكنّه نسي حُدودَ قلبه، فاحتلّتْه بكلّ سحرها.

***

"كنتُفي العشرين. لم أستطع المكوثَ مع عائلتي في أرمينيا بسبب سياسة الترحيل، وخوفًا من الإبادة الجماعيّة التي كادت تَلْحقُ بي، لولا هروبي من بلدٍ إلى آخر. حتّى وطِئتْ قدمايَ تُرابَ ألمانيا.

بعد مدّة، تأقلمتُ مع الوضع هناك، وتعلّمتُ قليلًا من الألمانيّة لأستطيع العيشَ ومجابهةَ التعصّب النازيّ؛ فلا بلدي رحمني، ولا الملجأ الذي حللتُ به آمنةً. احتضنتْني عائلةٌ أشفقتْ على حالي واعتبرتني مثلَ ابنتِهم. كهلٌ وزوجتُه المسنّة، لا رفيقَ لهما، يبكيان ابنَهما، الذي عذّبه النازيون حتى الموت بسبب معارضته. لم أشأ أنْ أكون عبئًا ثقيلًا عليهما، فرُحتُ أبحثُ عن عمل يُساعدني على تلبية احتياجاتي، ولأخرُج من رُوتين اليوم المملِّ بين جدران ذلك المنزل.

***

دَخل ماركْ محلًّا ليشتري عُلبة سجائر، فخطفتْ أنظارَهُ برقّتها. "إنّها هي التي عَبرت الحُدودَ ذلك اليوم،" حاور نفسَه، "وكيف لي أن أنْساها وذاكرتي لا تعُجُّ إلّا بِها؟"

بقي مُتسمّرًا في مكانه إلى أن سألتْه والابتسامةُ تكشف عن ثغرها: "كيف وصلتَ إليّ؟"

أجابها: "أنا الذي قلبُه مثل سفينة نوح، يبحثُ عن جبل أراراتَ المقدّس[1]في عينيك، من يوم أخذني الطوفانُ. وها قد وجدتُ المستقَرّ."

***

- جدّتي لماذا انقطعت رسائلُكِ كلّ تلك المدّة؟ وما الذي حصل بعد ذلك؟" سألتْها حفيدتُها.

تابعت الجدّة ضاحكةً: "كنتُ مُستمتعةً بعملي. وفي أوقات الرّاحة أخُطُّ لمارك أحداثَ يومي. وكلّ أسبوع تصلُني رسالةٌ منه، فأتفرّس فيها حُبَّه الذي كان يعطيني دافعًا قويًّا للبقاء في أرضٍ غير أرضي. وكنتُ بدوري أراسله. حتّى..."

- حتى ماذا؟ سألتْ حفيدتُها.

- حتّى جيء إليّ برُفاتٍ وقيل لي: "هذا رُفاتُ مارك." خارت قواي وانهرتُ باكيةً. لم أعد أعرفُ ماذا أفعلُ، وأنّى لي ملجأٌ وقتها. في داخلي كنتُ مؤمنةً أنّه على قيد الحياة، لكنّي كنتُ ضعيفةً ووحيدةً، كصرحٍ تهاوت أحجارُه بعد أن عُمّر لقرون، لا تسكنهُ إلّا أطيافُ الذكريات، مستأنسًا الفراغَ كلحنٍ حزينٍ يُعزفُ على آلة الدُودُوك.[2]حملتُ كلّ ما يُذكِّرُني به وهربتُ إلى مدينة أخرى. أختلي بقلبي فيها وأرعى مشاعري تجاه ماركْ، كجنينبقي في رحمي ولم يشأْ الانعتاق من داخل أعماقي.

- وبعد يا جدّتي؟

- لم أجد إلّا أنْ أشتغلً راقصةً، وأتحمّلَ تحرّشَ الثمِلين، وكبْتَهم الذي يفيضُ مع الكؤوس. لكنّني واصلتُ كتابةَ الرّسائل، محتفظةً بها لنفسي، ومقتنعةً بأنّ القدر سيجمعني بمارك مرّةً أخرى؛ فهي حُجّتي الوحيدةُ أمام جونْ، صديقه الحميم، الذي كان يلاحقني ويتودّد إليّ ولا يتركني وشأني."

***

شرب ماركْ كأسًا ثانية، وبدا مُستمتعًا بالعرض الشرقيّ أمامه. كانت الراقصة تُغطّي وجهَها برداء، كاشفةً عينيْها فقط. الجسدُ والحركاتُ نفسها. لونُ الشعر الذي تلحّف بجدائله. العينان اللتان استقرّت فيهما سفينتُه ذات يوم. تملّكتْه الاسئلة: "أيُعقلُ أن تكون هي؟ لماذا ابتعدتْ عنّي كلّ هذه المدّة؟ لقد تزوّجت وعادت إلى موطنها كما قِيل لي."

كانت تقتربُ منه، والدموعُ تنهمر من عينيها. وفجأةً ارتمت بين ذراعيه. وكان ذلك آخرَ ما تتذكَّرُه ليلتها.

- جدّتي، ماذا حصل بعد ذلك؟

- حبٌّ نُحتَ بقلبيْنا كما يُنحتُ حجرُ الخاشكار؛[3]أبديٌّ ولا يُمكن أن يموت.

تونس


[1] جبل أرارات: رمزُ دولة أرمينيا، ودلالة على الأرض المقدّسة، حيث استقرّت سفينةُ نوح بعد 150 يومًا من الطوفان، وفق ما جاء في الكتاب المقدّس.

[2] آلة عزف أرمنيّة.

[3] رمز الثقافة الوطنيّة في أرمينيا هوالخاشكار، أو فنّ نحتالصليب في الحجر، ويمارسه الأرمن منذ القرن الرابع، بعيْد أنْ اعتنقت البلادُ الديانةَ المسيحيّةَ، وكانت الأولى في اعتناقها هذه الديانةَ في التاريخ.

عزّ شويّة

كاتب تونسيّ، متحصّل على الماجستير في الأنظمة الميكاترونيكيّ.