نهاية عصر "النضال" المنبري 
18-09-2018

 

"قانون القوميّة" الجديد، الذي سنّه الكنيست، قال بكلّ وضوح إنّ على هذه الأرض، بين البحر والنهر، شعبًا واحدًا فقط يحقّ له العيشُ، وتحقّ له "العودةُ" من أيّ مكانٍ جاء، وهو "الشعب اليهوديّ." وقال بكلّ وضوح أيضًا إنّ على غير اليهود أن يُذعنوا لهذا الشعب، وأن يُقرّوا بأنّهم في درجةٍ أدنى منه، ليس بمقتضى التوراة وحدها، وإنّما بمقتضى مادّةٍ يضمنها القانونُ البشريُّ أيضًا.

بهذا القانون، أعلنتْ دولةُ الاحتلال وجودَ صنفيْن مختلفيْن من البشر:

ــــ الصنف الأول يهودٌ مواطنون.

ـــــ والصنف الثاني غير يهود. هؤلاء فائضٌ بشريّ، غيرُ مرغوبٍ فيه، بالنسبة إلى الفريق الأول. وعليهم أن ينحسروا، أو يتبخّروا، بإرادتهم أو رغمًا عنهم، وذلك سعيًا إلى تطابق الواقع مع "القانون الأساس" الذي يقضي بأن تكون الأكثريّةُ البشريّةُ يهوديّةً لتَطْبع المكانَ بهذه الهويّة الدينيّة.

بمعنًى آخر، ينبغي وضعُ حدٍّ لتكاثر غير اليهود وتوسُّعِهم. وهو ما قد يوجِب، في مرحلةٍ ما، تهجيرَ نسبةٍ منهم، بالاتفاق مع أطرافٍ إقليميّةٍ ودوليّةٍ أخرى. وهذا ليس تفكيرَ الطُغمة الإسرائيليّة الحاكمة وحدها، بل إنّ كلّ الاستبيانات تشير إلى أكثريّةٍ يهوديّةٍ واضحة تؤيِّد كلَّ القوانين المعادية للعرب، وتعتبرُهم زوائدَ لحميّةً، وتراهم غرباءَ ما بين النهر والبحر.

عمليًّا، باتت خططُ التهجير جاهزةً، وتنتظر الفرصةَ السانحة لتطبيقها. وسنشهد، نتيجةً ذلك، تضييقًا أكبرَ على العرب، وخصوصًا في مجال الإسكان. فحين يُحال بين الشباب الفلسطينيّ والحصول على رخصِ بناء، أو حين تتكثّف عمليّاتُ هدم منازل الفلسطينيين بغطاءٍ "قانونيّ،" أو تُرفع الغرامات، فذلك سيُرهق الأُسرَ العربيّة مادّيًّا ونفسيًّا، وسيُرغِم آلافًا من الشباب على الهجرة. وهذا ما حصل فعلًا؛ ففي العقود الأخيرة تضاعفتْ أعدادُ المهاجرين الفلسطينيين إلى أمريكا وأستراليا وكندا وأوروبا.

***

أعاد "قانونُ القوميّة" طرحَ السؤال القديم من جديد:

هل يَخدم وجودُ نوّاب عرب في الكنيست الصهيونيّ الجماهيرَ العربيّةَ داخل فلسطين 48 بشكل خاصّ، والشعبَ الفلسطينيَّ عمومًا؟

لقد كان واضحًا لدى الكثيرين، منذ سنين طويلة، أنّ الكنيست لن يسنّ قوانينَ تمنح العربَ المساواةَ الكاملة، ولن يَسمح أيضًا بحلٍّ يتضمّن الحدَّ الأدنى من العدالة للقضيّة الفلسطينيّة. غير أنّ التصعيد القانونيّ الأخير، المتعلّقَ بالأرض والاستيطان وإنشاءِ المدن والقرى والتجمّعات السكنيّة اليهوديّة، تجاهل حقوقَ العرب تمامًا، وعاملهم كأعداء يُمنعون من التكاثر. وهذا التصعيد ألقى بمطالب "الحقوق اليوميّة" جانبًا، وأظهر بوضوحٍ نوايا إسرائيل في القضاء على الوجود العربيّ في فلسطين من جذوره ــ ــ بشرًا وثقافةً ولغةً.

لقد أعاد "قانونُ القوميّة" القضيّة برمّتها إلى المربّع الأول، وهو أنّ الكيان الصهيونيّ قام أساسًا على احتلال الأرض، وانتهاكِ حقوق غير اليهود. وكانت قوننةُ منع بيع "أراضي الدولة" إلى العرب طريقةً للتحكّم بالوجود الفلسطينيّ ومنع ِتمدّده.

ليس بإمكان الكنيست الصهيونيّ أن يمنحَ العربَ حقوقًا أساسيّةً وجوهريّة. فأيُّ اقتراحِ قانونٍ يمسّ بالعصب الأساس للقضيّة الجوهريّة يجري إحباطُه، على الرغم من وصول العرب في البرلمان إلى ضعفِ ما كانوا عليه في السابق. وستُسنّ قوانينُ أخرى تَمنع الأعضاءَ العربَ من التصويت على قضايا تُعتبر مساسًا  بيهوديّة الدولة ــ ــ  كالانسحاب من أراضٍ، أو التخلّي عن مستوطنات، أو منح العرب أرضًا لبناء مدينةٍ جديدة، أو مساواتِهم في فرص كاملة في مختلف جوانب الحياة.

عمليًّا، انحصر تأثيرُ النوّاب العرب في اقتراح/سنّ قوانين هامشيّة جدًّا، وفي تقديم اعتراضاتٍ لا يلتفت إليها أحد. وبهذا ينتهي عصرُ "النضال" المنبريّ من داخل الكنيست.

على الفلسطينيين العرب إعادةُ تنظيم أنفسهم، واستئنافُ النضال وتعميقُه. وهذا يتطلّب تحوّلًا جذريًّا في رؤيتهم إلى الكنيست، واعتبارَه مركزَ تشريعٍ معاديًا لهم، والإقرارَ بأنّ وجودَهم فيه بات مصدرَ "تنفيس" لا غير، بل مصدرَ إضعافٍ لقوتهم وتأثيرهم أيضًا، وورقةَ توتٍ تغطّي عنصريّةَ الكيان المفضوح عالميًّا. وعليه، فالمطلوب من النوّاب العرب الرحيلُ عن الكنيست، وعدمُ انتظاره كي يحدِّد نسبتَهم من مجموع الأعضاء وكي يَحصر المواضيعَ التي "يُسمح" لهم بالتأثير فيها.

إنّ وجودَنا في الكنسيت يشبه ذلك الرجل في كليلة ودمنة المتعلّقَ بخشبةٍ على فوّهة بئر، يقرِضُها فأران، والتنينُ تحته بانتظار سقوطه، بينما هو لاهٍ بلحس قرصِ عسلٍ أمامه، غافلًا عمّا ينتظره.

فما قيمةُ المساواة في دخل الفرد مثلًا إذا كان ممنوعًا من اقتناء أرضٍ لأنّها مخصّصة لليهود فقط؟

وما قيمةُ تحسين الشوارع وخدمةِ البريد ما دمنا عاجزين عن بناء مدينة أو قرية جديدة للعرب، المختنقين في قراهم ومدنهم، مقابل مئات القرى والمدن اليهوديّة الجديدة؟

وما قيمةُ تحسينٍ ضريبيّ، بينما نحن نعيش منذ النكبة على المساحة ذاتها؟ بل ليتنا بقينا على المساحة ذاتها؛ فقد تضاءلتْ كثيرًا بعد المصادرات الكثيرة، علمًا أننا تضاعفنا عدديًّا عشرَ مرّات، وصرنا في حاجة ملحّة إلى مكانٍ أوسع نقف ونتحرّك فيه ونهجع إليه.

نواب فلسطينيون داخل الكنيست يحتجون على قرار إعلان القدس عاصمة لإسرائيل

ومع ذلك فإنّ "قانون القوميّة،" الذي وضع الفلسطينيين في مكانةٍ أدنى من اليهود، سيؤدّي بالضرورة إلى وحدة النضال الفلسطينيّ ضدّ نظام الأبرتهايد القائم، وهو نضالٌ سيحتدّ ويحتدم مع مرور الوقت. هذا النضال يُفترض أن يفرز قياداتٍ ومؤسّساتٍ جديدةً لعرب الداخل، تنسِّق مع كلّ القيادات الوطنيّة الفلسطينيّة ما بين البحر والنهر. وبالتأكيد لن يكون الكنسيت جزءًا من هذه الجبهة!

لا شكّ في أنّ سلطات النظام العنصريّ ستقاوم هذه المؤسّسات والقيادات الجديدة، وسوف تتصدّى لها بقوانينها العنصريّة، وستَمنع التنظيمات التي تتناقض مع "قانون القوميّة" وستعلنها خارج القانون. وهذا يعني أنّ القيادة الفلسطينيّة المستقبليّة لعرب الداخل ستجد نفسها في اختبارٍ صعب. وقد يجد المُخلصون أنفسَهم في السجون، أومستهدفين خارجها.

***

النضال واضحُ الهدف، وهو إقامةُ دولة واحدة ديمقراطيّة على كامل الحيّز المكانيّ بين نهر الأردن والبحر المتوسّط، يعيش فيه الجميعُ بمساواةٍ واحترامٍ متبادل. هذا الهدف سيعيد الأملَ إلى الشعب الفلسطينيّ، وكذلك إلى اليهود العاقلين. وسوف ينصهر أنصارُ هذا الحلّ، حيثما وُجدوا، في عملٍ كفاحيٍّ مُوحَّدٍ وطويلِ الأمد. وسيكون هذا الحلّ خلاصًا للفلسطينيين ولليهود، وسيُخرجهم من مأزق الحروب المستمرّة، ليعيشوا باحترام ووئام معًا على أسس الحقوق والواجبات المتساوية.

قد يستغرق تنفيذُ هذا الحلّ عقودًا طويلةً أو قليلة، مَن يدري، وسيحتِّم حصولَ تضحيات جِسام. إلّا أنّه الحلّ الأمثّل.

مجد الكروم (فلسطين)

 

سهيل كيوان

وُلد في قرية مجد الكروم، في الجليل الغربيّ، قضاء عكّا. يكتب المقالة، والقصّةَ القصيرة، والرواية، وقصصَ الأطفال، والمسرحيّة. يشارك، منذ نعومة أظفاره، في النشاطات الاحتجاجيّة للجماهير العربيّة داخل فلسطين 48 في مواجهة سياسة التمييز العنصريّ والاحتلال الكولونياليّ. يكتب في صحيفة القدس العربيّ (لندن) مقالةً أسبوعيّةً منذ سنوات، وكذلك في موقع عرب 48 من حيفا.