الخروج من الذاكرة
19-06-2016

 

منذ بداياته الباكرة في المدرسة كان يستمع إلى الدرس بإنصات. يحفظ المقرَّر، يؤدّي الواجب، ويحصل على أعلى درجةٍ ممكنةٍ في الامتحانات. كان يحفظ ما سيردّده على زملائه من كلماتٍ لا تستعدي أحدًا ضدّه، ويحفظ ما يقوله لأساتذته ليتجنّب العقاب وليحصل على تشجيعهم ومحبّتهم. حين يصل إلى البيت ينسى هذا كلّه، ويبدأ في برمجة تعامله مع أفراد أسرته، كلٍّ حسب طبيعته. حين التحق بالجامعة، وفقًا لرغبة والديه في الكلّيّة التي اختاراها له، لم يجذبْه أيُّ نشاطٍ طلّابيّ أو توجّهٍ فكريّ في الجامعة التي تمور بالحَراك. بعد أربع سنوات من الدراسة، تخرَّج منها لا يتذكّر سوى إجابات الامتحانات. لم يُكوّن صداقات ولا عداوات. تزوّج من العروس التي رشَّحتها له أمّه، وسكن في بيتٍ صغير وفّره له والده. واصل حياته محايدًا. لا يشغل باله بشيء يفيض عن حاجته.

التحقَ بأوّل مؤسّسةٍ حكوميّةٍ قبلتْ أوراقه. ومع أنّها كانت مختصّة بشؤون النشر والتأليف، فإنّه لم يحاول مرةً الاطّلاعَ على أيٍّ مـن آلاف الكتب التي تمُرّ عليه يوميًّا. ظلَّ يشرب قهوته التي لا يغيّرها، ينتظر الساعي كي يصبّها أمامه، وهو ينظر إليه مستشعرًا العظمةَ والأهمّيّة، ويحلَّ الكلمات المتقاطعة، ثمّ ينتظر الراتب أوّل الشهر.

ضجّ البلدُ بالثورة، فظلَّ يتابعها من خلف زجاج النافذة بعينين مندهشتين من البشر الذين يسيرون في جماعاتٍ غاضبة، كأنّما يسعوْن إلى حتفهم بأنفسهم، متسائلًا عن الذي يدفع إنسانًا إلى المواجهة والموت من تلقاء نفسه. رأى شبابًا ممزّقي الملابس، وآخرين تسيل الدماءُ من وجوههم ، ونساءً يحملن لافتات غاضبة. تأمّلهم يركضون في الهرج والمرج، وسمع دويَّ الرصاص من بعيد. أغلق الستائر وأطفأ الأنوار. وحين كان يقرأ صحفَ اليوم التالي، لم يتوقّف أمام المانشيتات التي تتحدّث عن تغيير النظام، وعددِ الشهداء، وصورِ الجرحى، بل ركضتْ أصابعُه إلى صفحة الكلمات المتقاطعة.

بينما يشاهد التلفاز ذات مساء، دقَّ الباب. نهض ليفتحه. طالعه رجلٌ طويلٌ يبدو عليه الشحوب. أخبره متلعثمًا أنّه جاره، وأنّ ابنه مريض، ويحتاج إلى بعض المساعدة. أخذ يُحدّق فيه من دون فهم، ثم أغلق الباب بهدوء، وعاد إلى مقعده الدافئ.

في السنوات الكثيرة التي مرَّت لاحقًا ظلَّ على موقعه المُطفأ من العالم، لا يعرف سوى طريق البيت والعمل، وأرقامِ الحافلة التي تنقله بين المسارين، وبعضِ المعالم الضروريّة الأخرى التي استقرَّت في ذاكرته المحدودة: موقع المستشفى في حال مرضه أو مرضِ أحد أفراد أسرته، رقم هاتف والديه، ورقمه الوظيفيّ. وحين ضلَّ الطريق في أحد الأيّام لم يحاول أن يوقف سيّارةَ أجرة؛ فهو لم يكن يثق بالسائقين، ولم يستقلَّ التاكسي في حياته. اتّصل بابنه وأخبره بالمكان الذي يقف فيه، طالبًا منه أن يأتي.

في أحد الأيّام، وفي شارعٍ جانبيّ خالٍ، خرج عليه لصٌّ ملثَّم الوجه، وقد شهر سكينًا في وجهه، صائحًا به أن يعطيَه كلّ ما في حوزته. ظلَّ ينظر إليه بعينين متّسعتين. عاود اللصّ تهديده وقد قرَّب السكّينَ من وجهه حتّى لامستْ طرفَ ذقنه. بعد لحظات ابتسم وأخرج حافظته وأعطاها للصّ. أنزل اللصُّ السكّينَ عـن ذقنه مرتبكًا، قبل أن يُفلت قدميه للريح. أكمل الطريق إلى بيته. بعد ساعةٍ كان قد نسيَ اللصَّ والمحفظةَ وكلَّ ما حدث، وجلس في البيت يحلّ الكلمات المتقاطعة.

في اليوم التالي، طبع "طلبَ استرحام،" وقدّمه إلى رئيس المؤسّسة ليوافق على صرف راتب شهر ــــــــ سلفة ـــــــ بدلًا من الذي سُرِق. وقدَّم أيضًا طلب بطاقة عملٍ جديدةً، مُذيّلًا طلبَه برجاء أن يمنحوه إيّاها بالرقم الوظيفيّ نفسه الذي لازمه عشرين عامًا!

عند محطّة الحافلات تشاجر اثنان تحت الشمس الملتهبة. راح يرقب الشجار مستغربًا. بدأ الناسُ يفصلون بينهما، فازدادت دهشته. وبين زحام الواقفين في الحافلة تذكّر أنّه لم يتشاجر مع أحدٍ في حياته.

انتصرت الثورة وتغيّر البلد، فلم ينتبه. تغيّرتْ أنظمةُ العمل في مؤسّسته، فسأل عن المطلوب ليلزَمه. لم يأبه بمناقشة أيٍّ من القوانين الجديدة التي سُنَّت على الموظفين.

حين أخبره ابنه أنّه صار جدًّا بعدما أنجب حفيدَه الأول، ابتسم للحظات، ثمّ طلب منه أن يسمّيَه باسمه، ليتكرّر اسمُ الجدّ في العائلة.

بعد سنواتٍ كان يضع إكليلًا من الورد على قبر زوجته. سار جامد الملامح مع المشيّعين. في اليوم التالي استغرب زملاؤه حين رأوْه يدخل إلى المكتب ويطلب القهوة. فتح الصحيفة وتناول قلمه الأزرق وبدأ يحكُّ جبينه.

ظلَّ يعرف الفصولَ من تغيُّر لون السماء خلف زجاج نافذته. لم ينظر إلى تقويم الحائط المعلَّق في صالة البيت يومًا.

على فراش الموت حاول استعادة أيّ ذكرى سعيدة، أو يومٍ مميّزٍ في حياته، كما قال له الطبيبُ مخفّفًا عنه. لم يتذكر شيئًا. راح يتأمَّل وجوهَ أبنائه الذين يبكون حوله، فانتبه إلى أنه لم يحفظ ملامحهم جيّدًا.

عاد الطبيب يطلب منه أن يستعيد أيَّ ذكرى بهيجةٍ في حياته. لم يجد في ذاكرته سوى فضاءٍ أبيضَ متّسع، لم تلطّخْه ذكرياتٌ بهيجة ولا حزينة.

بينما كان يغادر الحياة أدرك أنّه لم يعشها. لم يحارب من أجل فكرة. لم يخسر لأجل قناعة. مات ولم يمُت.

القاهرة

حمزة قنّاوي

شاعر وكاتب مصريّ. محاضر بجامعة الجزيرة، كليّة الإعلام، دبي. من أعماله: الأسئلة العطشى (2001)، وأكذوبة السعادة المغادرة (2003)، وأغنيات الخريف الأخيرة (2004)، وبحّار النبوءة الزرقاء (2006)، وقصائد لها (2007).وفي الرواية/سيرة ذاتيّة: المثقفون (2009)، من أوراق شاب مصري (2012).