عملاء حضاريون
26-07-2018

 

في هذا الزمن الذي ازدادت تعقيداتُه وتشابكتْ مساراتُه، لم يعُد الشكلُ المتعارفُ عليه لـ"سماسرة الفكر،" أي الكذَبَةِ الذين يبيعون معسولَ الكلام إلى حسني النيّة، هو الشكلَ القارَّ في الأذهان. فلقد اتّخذَ هؤلاء اليومَ سمتًا آخر، أكثرَ انسجامًا مع "الحداثة" و"العولمة،" وأكثرَ تماهيًا مع "متطلّبات العصر."

هؤلاء "العملاء الحضاريون،" وبعضُهم يتكلّم غيرَ لغةٍ من لغات العالم "المتقدِّم،" غالبًا ما تجدهم "مستشارين" لمؤسّسات، أو مستشارين لأشخاصٍ اختصروا مؤسّساتٍ ــ ــ ثراءً وجاهًا وادّعاءً فكريًّا. أهمُّ ما يعنيهم هو المال، ولا يخشوْن من أن يذْكرَهم التاريخُ بالخزي وتزييفِ الوعي بعد رحيلهم (الذي لا يَحْسبون له حسابًا).

من نماذج هؤلاء العملاء، الذين لن تَعْدم أن تراهم في المؤسّسات العربيّة والمطبوعات وعلى الشاشات، أساتذةٌ جامعيون، ونقّادٌ "حداثيّون،" لم يتركوا مؤسّسةً ثقافيّةً عربيّةً ثريّةً تقريبًا إلّا وصاروا مستشارين لها، حتى صاروا يملكون ثرواتٍ كبيرةً جدًّا. وعلى الرغم من بلوغ بعضهم من العمر أرذلَه، فإنّهم ما زالوا يُنظِّرون للحداثة، ولليسار ــ ــ اليسارِ الذي لم يعرفوا شيئًا عن عذاباته بسبب تنقّلهم من عاصمةٍ ثريّةٍ إلى أخرى. أسألْ أيَّ واحد من هؤلاء، وهو يقف على أبواب الآخرة: ألم تشتبهْ يومًا في أنّ سيرتَكَ العامرةَ بالتقلّبات ستُعمِّر أطولَ من عمر شيكاتك، وأنّكَ لن تجرؤ على مواجهة مجايليك الذين اعتُقِلَ بعضُهم أو يعاني شظفَ العيش ولكنّه خلّف وراءه سيرةً نقيّةً وتاريخًا ناصعًا لأجيالٍ قادمة؟  

ومثل هؤلاء الأساتذة الجامعيين إعلاميّون بدأوا وطنيين في بلادهم، وحلموا بمؤسّسةٍ وطنيّةٍ إعلاميّةٍ يبنونها وينشرون فيها الفكرَ النضاليَّ لتاريخ بلدهم ومقاومته للاستعمار الطويل. غير أنّهم وجدوا أنّ مراكمةَ الثروة أقربُ وأسلم، فشدّوا الرِّحالَ باتجاه المؤسّسات الثريّة، ليعملوا مستشارين لكلِّ ما هو رجعيٌّ وزائف، أو ليكونوا مسؤولين عن برامجَ لا تفيد الإنسانَ العربيَّ شيئًا: برامجَ تعجّ بالحسناوات، وبالمسابقات، والفوازير، والتقارير الإعلاميّة التافهة. فاستحقّوا أن يكونوا عملاءَ "حضاريين" آخرين في سلسلة الانهيار الحضاريّ العربيّ.

وهناك أيضًا شعراءُ حداثيّون، تُرجِموا هنا وهناك، فراحوا يتواصلون مع المؤسّسات الثقافيّة في الغرب، ويقيمون شراكاتٍ ثقافيّةً بينها وبين المؤسّسات الثقافيّة في بلادهم. وكلُّ ذلك ليس مجّانًا طبعًا: فبخلاف دواوينهم التي تُرجمتْ إلى لغات القارّة العجوز، وبخلاف الجوائز المرصودة لهم، صار اسمُهم يُذكر دومًا إشارةً إلى "الشعر العربيّ" الفاعل هناك. لكنّهم ما لبثوا بعد ذلك أن تناسوْا الحداثةَ وأربابَها، وغدوْا "مُحكِّمين" في مسابقاتٍ ومستشارين لمؤسّساتٍ تتبنّى خطابَ الرجعيّة الفكريّة والجمود الإبداعيّ في كثيرٍ من الأحيانِ .

***

العملاء الحضاريون هم أحدُ أسباب نكبة العرب، وأحدُ أسباب تحديد مسارات فكرنا في أقنيةٍ ضيّقةٍ لا تتجاوز حدودَ مصالحهم الشخصيّة. وهم بدلًا من أن يكونوا صوتَ شعوبهم في وجه محتلّيهم الاستعماريين وجلّاديهم المحلّيين، باتوا صوتَ مموِّليهم وداعميهم.

والعقل العربيّ مازال في ليلهِ الطويل، من محاقٍ إلى آخر.

القاهرة

حمزة قنّاوي

شاعر وكاتب مصريّ. محاضر بجامعة الجزيرة، كليّة الإعلام، دبي. من أعماله: الأسئلة العطشى (2001)، وأكذوبة السعادة المغادرة (2003)، وأغنيات الخريف الأخيرة (2004)، وبحّار النبوءة الزرقاء (2006)، وقصائد لها (2007).وفي الرواية/سيرة ذاتيّة: المثقفون (2009)، من أوراق شاب مصري (2012).