تمار
30-06-2020

 

أسيرُ على الحافَّةِ فاتحًا ذراعيَّ كراقصٍ مستمتعٍ بتوازنه. عينايَ مغمضتان. أنا الآن سمكةٌ ترقصُ مع مجموعتِها في المحيط، وتَسْعد بدفءِ الرِّفقة.

إخوتي يصرخون: "إنزلْ، سوف تقع!" ترتفعُ أيديهم كأنّها تريدُ جذبي من البعيد. عيونُهم خزّانات رعبٍ طافت بالدموع. فوقَ أصواتِهم يرتفعُ صوتُ تمار، رقيقًا عذبًا. تمار - ضحكةُ السماءِ - تقولُ لي: "تابِعْ!" وتقودُني كي أعرفَ الطّريق، فأشعرُ بأنَّني "حرٌّ وحرٌّ وحرُّ." خلعتُ عنّي خَوفي، واتَّحدتُ مع الهواء.

تمار صديقتي الأبديّة، وربّما "الأزليّة،" لطالما وجدتْني حينَ احتجتُها.

يومَ تطلَّق والداي، سافرتْ أمّي بعيدًا، ولم يَبْقَ لي من وجهِها سوى جانبِه الأيمن الظاهر في صورة عائليّة. اصطحبَني والدي إلى القرية لمّا لم يكن قادرًا على الاعتناء بي. قَضَيْنا يوميْن في منزل جدّتي، ثمّ تركني في عهدتِها ورحل. كُنّا، كلَّ يومٍ، نأكلُ أرُزًّا ولَبَنًا، أو بيضًا مقليًّا على سبيل التغيير؛ فجدَّتي لم تَكُن من محبّي الطبخ، ولم أتأفّفْ يومًا مع أنّني كنتُ أشتهي صنوفَ الطعام.

في المدرسةِ كنتُ وحيدًا. لستُ انعزاليًّا بطبْعي، لكنّني خجول. أردتُ أن يقتربَ الآخرون منّي، فنتشاركَ اللهو. لكنّ ذلك لم يحصل. لا ألومُهم، وكيف ألومُهم إنْ كانت أمّي نفسُها أعرَضَتْ عنّي؟ لكنّ الأمور لم تقفْ عندَ عدم رغبتِهم في صحبتي، بل صاروا يسخرون منّي باستمرار، حتّى بِتُّ كلّما نظرتُ إلى المرآةِ رأيتُ مقعدًا فارغًا.

شكوتُ مرَّةً إلى جدَّتي سخريةَ زميلي في المدرسة منّي، وكيف أنّه شدّ ياقةَ قميصي وصَبّ فيه الماء، فغضِبتْ. شَدّتني من يدي وأخذتْني إلى منزله، ووبَّختْه ووالدَه حتّى ملأَ صراخُها الحيَّ. في اليوم التالي، كان الطّلابُ في الملعب ينظرون إليّ، يتهامسونَ ويضحكون. وكنتُ أدفعُ الأرضَ بقدميَّ وأجرُّهما ثقيلتيْن كي أتمكّنَ من السيرِ بعيدًا.

يومَها، ظَهَرَتْ تمار. ويطيبُ لي، وأنا أستعيدُ تلك الذكرى، أن أضيفَ إليها جناحيْن أبيضيْن. تمار انتشلتْني من حفرةٍ سوداءَ عميقةٍ كانت تتّسعُ في جوفي وتتآكلني.

تلك الفترةُ الممتدَّةُ على سنتين كانت أجملَ أوقاتي. بل إنّني كنتُ حينَها أُفضِّلُ البقاءَ في القرية خلال العطل على أن أنزلَ مع والدي إلى المدينة - - وكان في حينه قد تزوَّج.

غير أنّ السعادة لا تدومُ طويلًا. والحفرةُ التي ظننتُها رُدِمتْ في داخلي، اكتشفتُ أنّني نَجَوتُ منها فقط، لكنّني ما زلتُ واقفًا بجانبِها، وعادت تجذِبُني إليها يومَ دَقَّتْ ساعةُ رحيلِ تمار - ـ التي غادرتْ مع أهلها إلى بلادٍ غير بلادِنا.

رَحلتْ تمار مع سربِها وبقيتُ وحيدًا كدُبٍّ قطبيّ. بكيتُ طوالَ الليل تحتَ اللّحاف، حتّى صارت حنجرتي علقمًا. لكنّني حين فتحتُ عينيَّ، فوجئتُ بها تجلسُ في زاوية الغرفة. لقد عادت تمار لأجلي، وصارت ظلّي الذي لا يَعرفُ ميعادًا.

حين رُزِقَ أبي بأبناءٍ، أراد اصطحابي إلى المدينة كي أعيشَ في كَنَفِه معهم. لكنّ جدّتي رفضتْ ذلك، وقالت إنّني أؤنِسُ وحدتَها - - والحقُّ أنّ كلًّا منّا كان غارقًا في وحدة الآخر. لم يرغب أبي في كسر خاطرها، فصرتُ أزورُه في آخر الأسبوع، فأصعدُ مع إخوتي إلى سطح المبنى الذي كنتُ أسكنُ فيهِ يوماً مَع أمّي وأبي، وكانَ إخوتي قد علَّموني لعبةَ "الحجر والمربَّع"، فنرسمُ مربَّعاتٍ نقفزُ في داخلِها بعد أن نرمي الحجر. أحببتُ البقاءَ معهم، لكنّني كنتُ أشعرُ بأنّ بيني وبينهم جدارًا غيرَ مرئيّ، وأنّني مجرّدُ ضيفٍ تعاملُه والدتُهم بكثيرٍ من الرسميّة.

في ذلك اليوم، على السَّطح، كانت تمار معي للمرّة الأولى. ساعدتني على الصعود إلى الحافّة. كانت تحدِّثُني وأحدِّثُها. سألني إخوتي، أثناء صراخهم، مع من أتحدَّث؛ قالوا انْ لا وجود لأحدٍ هنا. أردتُ أن أشيرَ إلى تمار كي يَروْها، لكنّني فقدتُ توازني، وتعَثّرتْ خُطاي، وحَلَّ الظلام.

 

بيروت

فاطمة علي فقيه

كاتبة وإعلاميّة لبنانيّة.