هل تمنحنا ثوراتُنا حريّاتٍ أكثر؟
30-05-2019

 

يتكرّر طرحُ إشكاليّة العلاقة بين الثورة والحريّة على مستوياتٍ مختلفة. من هذه العلاقة يأتي التساؤلُ الآتي: هل الشعوب التي تتمتّع بحريّةٍ نسبيّةٍ أقدرُ على إطلاق الثورات من الشعوب المقموعة؟

ومن هذا التساؤل يأتي تساؤلٌ آخر، عن مستوى الحريّات بعد الثورات: هل يتراجع هذا المستوى، أمْ يزيد؟

في الدول العربيّة، قليلةٌ هي الإحصاءاتُ التي تساعدنا على فهم هذه العلاقة الثنائيّة المتعدّدة المستويات. ولكنّ بعضَ البيانات الصادرة عن الباروميتر العربيّ، وهو "شبكةٌ بحثيّةٌ مستقلّة" تُجري استطلاعاتٍ للرأي العامّ في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا منذ العام 2006، تساعد على التوصّل إلى بعض الخلاصات .فقد أجرى الباروميتر إحصاءاتٍ تغطّي ثلاثَ مراحل زمنيّة بين العاميْن 2010 و2017، في دولٍ عربيّةٍ عدّة، ورصدَ آراءَ أبناء هذه الدول (عبر عيّنةٍ تتألف من 1200 شخص في كلّ دولة، وفي كلّ مرحلةٍ زمنيّة) في قضايا حريّة الصحافة وحريّةِ التعبير عن الرأي، ثمّ نَشر نتائجَه بشكلٍ محايد، من دون ربط الأرقام بالظروف السياسيّة التي تميِّز كلَّ مرحلة.

تأسيسًا على هذه النتائج، سنحاول ربطَ الأرقام بالظرف السياسيّ العربيّ العامّ وبتغيّراته، في محاولةٍ للخروج ببعض الخلاصات حول علاقة الثورة بالحرّيّة. غير أنّنا نتحمّل المسؤوليّةَ الكاملة عن هذه الخلاصات؛ فهي خلاصاتٌ نضعها نحن، لا الباروميتر، الذي نأخذ من عمله الأرقامَ فقط. كما تجدر الإشارةُ إلى أنّ استطلاعاتِ الرأي التي يقدِّم الباروميتر نتائجَها لا تشمل كلَّ الدول العربيّة، وفي بعض الأحيان تشمل دولًا في سنةٍ محدّدةٍ دون سنواتٍ أخرى؛ ما يَحول دون الحديث عن حال كلّ الدول العربيّة، ويَحول دون الخروج بخلاصاتٍ شاملة.

***

انطلقتْ ثوراتُ الربيع العربيّ في نهاية 2010 وبداية 2011. ويمكن اعتبارُ العام 2011 الأكثرَ امتلاءً بالروح الثوريّة وبالرغبة في التغيير، قبل أن تبدأ هذه الروحُ بالخفوت تدريجيًّا، وصولًا إلى عموم موجةٍ من مشاعر الإحباط بدءًا من العام 2014 تقريبًا.

في ذلك العام (2011)، الذي يمثّل ذروةَ المدِّ الثوريّ للربيع العربيّ، نجد رقميْن معبِّرين جدًّا، أحدُهما من مصر والآخرُ من تونس. ففي مصر، اعتبر 93% أنّ حرّيّةَ الصحافة في بلدهم مضمونةٌ إلى درجة كبيرةٍ أو متوسّطة، كما اعتبر 95% أنّ حرّيةَ التعبير عن الرأي مضمونةٌ إلى درجة كبيرة أو متوسّطة؛ وهي نسبةٌ مرتفعةٌ جدًّا، وذلك بحسب استطلاع رأيٍ جرى في يونيو 2011. أمّا في تونس، فقد اعتبر 71% أنّ حرّيةَ الصحافة في بلدهم مضمونةٌ إلى درجة كبيرة أو متوسّطة، كما اعتبر 77% أنّ حرّيّة التعبير عن الرأي مضمونة إلى درجة كبيرة أو متوسّطة؛ وهي أيضًا نسبةٌ مرتفعةٌ جدًّا، وذلك بحسب استطلاع رأيٍ جرى في سبتمبر 2011.

للأسف، لا توجد أرقامٌ تُعبّر عن تقديرات الرأي العامّ للتمتّع بهاتين الحرّيتين قبل مرحلة الربيع العربيّ، ولكنْ يمكن الافتراضُ باطمئنان أنّ النِّسَب ارتفعتْ سنة 2011 بشدّة. والأكيد أنّها كانت الأعلى مقارنةً بالدول العربيّة الأخرى التي شملتْها الاستطلاعاتُ. ونفترض أنّ ارتفاعَ معدّلات الحرّيّة في هذين البلدين كان سببُه ثورةَ الشعبيْن المصريّ والتونسيّ، والضغطَ الذي مارساه على السلطة (القديمة التي سقطتْ، والانتقاليّة التي حكمتْ بعد الثورتيْن) التي تمتلك أدواتِ القمع، ما جعلها تتراجع عن ممارساتها القمعيّة. ومن ثمّ نفترض أنّ الأرقام المذكورة تدلّ على أنّ الحرّيّات يمكن انتزاعُها إنْ طالبت الشعوبُ بها بجديّة، وتحدّت الأنظمةَ القمعيّةَ وواجهتْها.

 

في العام 2011 في تونس، اعتبر 71% أنّ حرّيةَ الصحافة في بلدهم مضمونةٌ إلى درجة كبيرة أو متوسّطة

 

الأرقام الأهمّ ضمن أرقام الباروميتر هي التي تسمح بالمقارنة بين واقع الحال في بدايات الربيع العربيّ (أو قبله بقليل)، وبين واقع الحال في الفترة 2012 - 2014 حين كان خوفُ الأنظمة العربيّة من "تأثير الدومينو" لا يزال قائمًا. في هذه الفترة (2012 - 2014) أحدث خوفُ الأنظمة العربيّة من أن يطولَها تأثيرُ الثورات إرباكًا في تكتيكاتها التقليديّة تجاه شعوبها، إذ تولّد لديها خوفٌ من انتهاج سياساتٍ قمعيّة، فمنحتْ مواطنيها المزيدَ من الحريّات في إطارِ معادلةِ استقرارٍ جديدة. وتحت تأثير الظروف المذكورة، ارتفعتْ نسبةُ المواطنين الذين يعتبرون أنّ حرّيّةَ الصحافة وحرّيةَ التعبير عن الرأي في بلدهم مضمونتان إلى درجةٍ كبيرةٍ أو متوسّطة. وهذا يدلّ على أنّ معدّلات الحريّات ترتفع مع ارتفاع نسبة التهديد الذي يشعر به النظامُ، وعلى أنّ تحقيقَ شعب دولةٍ عربيّةٍ مكاسبَ ما يمكن أنْ ينعكس على حال باقي شعوب الدول العربيّة.

اللافت أنّ تلك المرحلة (2012 - 2014) شهدتْ تدنّي نسبة القائلين بأنّ حرّية الصحافة وحرّية التعبير عن الرأي مضمونتان في مصر، إذ انخفضت من 93% (2011) إلى 63% (2013)، ومن 95% (2011) إلى 66% (2013) على التوالي. ويعود ذلك إلى اكتشاف المصريين أنّ الواقع أضيقُ من أن يتّسعَ لحلمهم الكبير بالحرّيّة، مع العلم أنّ أرقام 2013 تعود إلى مارس 2013، أيْ إلى ما قبل إقصاء الإخوان المسلمين عن الحكم. ومن ثمّ فإنّ المسؤوليّة عن هذا التراجع يتحمّلها كلٌّ من المجلس العسكريّ والإخوان، وهما الجهتان اللتان تعاقبتا على حكم مصر بعد الثورة.

تحدّي الشعوب للأنظمة القمعيّة ومواجهتُها يمنحان المواطنين حريّاتٍ أكبر: هذا ما تدلّ عليه الأرقامُ المعبِّرةُ عن حال حرّيّة الصحافة وحرّيّة التعبير عن الرأي في السنوات الماضية.

كما تُظهر الأرقامُ ارتباطَ مناخ الحرّيّة بعضه ببعض؛ فنحن كمواطنين في دولة عربيّة ما نتأثّر بالأحداث التي تجري في دولة عربيّة أخرى. ولكنّ تأثيرات الثورة المصريّة في باقي الشعوب العربيّة لم تكن قد خفتتْ، وكان المناخ العامّ لا يزال "ربيعيًّا." ومن ذلك يمكن استنتاج أنّ أثر الأحداث ضمن دولةٍ عربيّة ما في شعوب باقي الدول العربيّة قد لا يكون مباشرًا؛ ما يعني أن "تأثيرَ الدومينو" يتطلّب وقتًا (بضعة أشهر) لـ"هضمه".

غير أنّ حالَ السودان تشذّ عن حال باقي الدول العربيّة. وذلك لأنّ نظامَ الرئيس السابق عمر البشير شذّ عن نظرائه في الدول التي شملتها الاستطلاعات، وتمكّن من الاستمرار نتيجةً للقمع الذي مارسه على الإعلام وصنّاع الرأي، إذ لم يتحرّر التلفزيونُ السودانيّ إلّا بعد تدخّل المجلس العسكريّ. من هنا يمكن فهم تراجع نسبة السودانيين القائلين بأنّ حرّيّة الصحافة في بلدهم مضمونة إلى درجة كبيرة أو متوسّطة، من 60% (2011) إلى 46% (2013)؛ كما تراجعتْ نسبةُ القائلين بأنّ حرّيّة التعبير عن الرأي مضمونة إلى درجة كبيرة أو متوسّطة من 53% (2011) إلى 41% (2013).

عودة إلى الوراء: أدّت مجموعةُ الأحداث بين العاميْن 2011 و2019 - من إقصاء الإخوان المسلمين عن السلطة في مصر، وعودةِ الجيش إلى أداء دور واضح في الحياة السياسيّة، وما تبع ذلك من وصول عبد الفتّاح السيسي إلى سدّة الرئاسة، وإصدار مجموعة كبيرة من القوانين المقيِّدة للحرّيّات ولنشاط منظّمات المجتمع المدنيّ، وما سبق ذلك من قمع النظام السوريّ لمعارضيه، واندلاع الحرب السوريّة، ثمّ إفشال الدول الخليجيّة لثورة البحرين بتدخّل عسكريّ مباشر، بالإضافة إلى الفوضى في ليبيا واليمن – أدّى ذلك كلُّه إلى توليد حالة إحباطٍ عربيّة عامّة. ويبدو أنّ الرابح الوحيد من هذا الإحباط كان الأنظمةَ العربيّة التي شعرتْ بأنّ تهديد شعوبها لها قد زال، فعادت إلى ممارساتها القديمة، وعاد القمع، لا بل تُثبتُ الأرقام أنّ ممارساتها القمعيّة زادت.

في هذه المرحلة الجديدة من تاريخ العرب الحديث، جرى الترويجُ لسرديّة تقول "إنّ الثورات تخلق الفوضى." وجرى الإكثارُ من الاستشهاد بالتجربة السوريّة. واقتنع مواطنون عرب كثيرون بذلك. وهذا ما منح السلطةَ مبرِّراتٍ للقمع في سبيل تحقيق الاستقرار الأمنيّ.

 

في هذه المرحلة الجديدة من تاريخ العرب الحديث، جرى الترويجُ لسرديّة تقول "إنّ الثورات تخلق الفوضى"

 

لكنْ على الرغم من التأثير الكبير للمناخات العربيّة العامة على مختلف الشعوب العربيّة، فإنّه لا يمكن إغفالُ خصوصيّات السياقات الوطنيّة. وهذا ما تُظهره أرقامُ الأردن، التي لم تتدنَّ بين العامين 2013 و2016، وكذلك أرقامُ دولٍ أخرى مثل المغرب (56% قالوا إنّ حريّة الصحافة مضمونة إلى درجة كبيرة أو متوسّطة سنة 2013، مقابل 62% سنة 2016، و59% قالوا إنّ حرية التعبير عن الرأي مضمونة إلى درجة كبيرة أو متوسّطة قي العام 2013، مقابل 67% في العام 2016).

ويبدو أنّ أثر الربيع العربيّ على هذه الدول ساهم في إنتاج معادلة بين الشعب والسلطة تقوم على قمعٍ أقلّ. إذ تراجع منسوبُ القمع بشكل أو بآخر فيها، وجرت المحافظةُ على هذه المعادلة بمعزلٍ عن المجريات الإقليميّة؛ ما تطلّب فصلًا للمسارات الوطنيّة عن الظرف العربيّ العامّ وتأثيراته العابرة للحدود. هذا الفصل تُمْكن ملاحظتُه في الحالة المغربيّة مثلًا من خلال تولّي إخوانيّ رئاسةَ الحكومة (عبد الإله بن كيران)، على الرغم من موجة إبعاد الإخوان عن السلطة في العالم العربيّ.

والآن، بعد اندلاع موجة تغييريّة جديدة أطاحت بالرئيس عمر البشير في السودان، وبالرئيس عبد العزيز بوتفليقة في الجزائر، يطرح البعضُ فكرةَ ولادة الربيع العربيّ من جديد، ويرى آخرون أنّ الربيع العربيّ لم ينتهِ أساسًا. فهل هذا صحيح؟

تتطلّب الإجابةُ مراقبةَ الأوضاع العربيّة في الأشهر القادمة ورصدِ أثر الدومينو الذي ستُحْدثه المجرياتُ الجديدة على مستوى تحريك ثوراتٍ عربيّةٍ جديدة وعلى مستوى التأثير في معدّلات الحريّات في دول أخرى.

القيروان (تونس)

 

الهادي غيلوفي

باحث في مركز الدراسات الإسلاميّة بالقيروان، تونس.