هكذا عرفتُ ماهر اليماني
28-03-2019

 

لا أذْكر تمامًا تاريخَ لقائنا الأول، لكنّه كان في العام 1978، في تظاهرةٍ ضخمةٍ في بيروت، وكان الطقسُ عاصفًا وماطرًا. كنتُ يافعةً، ومتحمّسةً، ومعتدّةً بنفسي. كان علينا توزيعُ بيان في التظاهرة، وكنتُ أركض بين المتظاهرين، ثمّ أشقُّ طريقي بينهم كي أصل إلى الأرصفة، فأوزّع البيانَ على المتمجهرين هناك.

حين عدنا إلى مكتب حزب العمل الاشتراكيّ العربيّ (الجناح اللبنانيّ للجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين)، وقفتُ مقابل مدفأةٍ كهربائيّةٍ محاولةً تنشيفَ ملابسي المبلّلة. دخل أحدُ الرفاق وقال لي: "يعطيكِ العافية رفيقة، كنتِ لافتة للأنظار اليوم." نظرتُ إليه وقلتُ بشيءٍ من التهكّم: "نظر مين بالسلامة؟" قال: "سألني عنّك ماهر اليماني، وقال مين هالصبيّة النشيطة؟" صحتُ: "ماهر اليماني؟ اللي فجّر الطيّارة؟" قال: "هوّي بذاتو." قلت: "الله يخلّيك، بدّك تعرّفني ع ماهر."

كان مكتبُنا في منطقة الكولا يقع تمامًا مقابل مكتب الجبهة الشعبيّة، وكان مكتبُ "المجال الخارجيّ" (وديع حدّاد) لا يبعد سوى بضعة أمتار عنّا. شارع عفيف الطيبي يومها كان يعجّ بالمقاهي والمطاعم، حيث يجتمع الشبابُ والشابات، من فلسطينيّين ولبنانيّين وعرب آخرين وأجانب من جنسيّاتٍ مختلفة، فيتكوّمون حول الطاولات المبعثرة على الأرصفة، يناقشون الأوضاع أو يتسامرون.

وهناك، في أحد هذه المقاهي، التقينا للمرّة الأولى.

كنتُ أحسب أنّني سألتقي رجلًا ضخمًا قويّ البنية، مفتولَ العضلات، ثخينَ الصوت، فظّ الطبع. عجبتُ كثيرًا حين قال لي رفيقي: "هذا ماهر اليماني، انبسطتِ هلّق؟!" وجدتُ رجلًا وسيمًا، أسمرَ اللون، نحيلَ البنية، هادئًا، بشوشًا، منخفضَ الصوت.

وبدأتْ بيننا صداقةٌ استمرّت حتى مساء 21 شباط من هذا العام، يوم غادرنا ماهر.

***

صيفَ العام 1982، بعد الاجتياح الإسرائيليّ للبنان، غادرت الفصائلُ الفلسطينيّةُ بيروت. وبعد فترة، غادرها ماهر الذي لم يكن يفارق الدكتور جورج حبش ذلك العام.

لم نعد نلتقي، ولكنّ السلامات لم تنقطع في ما بيننا، أُرسلُها إليه مع أحد الذاهبين إلى دمشق. بعد ذلك بوقتٍ طويل، بدأ الفلسطينيّون بالعودة تدريجيًّا إلى لبنان، واتّخذوا منطقةَ البقاع ملاذًا لهم. وعلمتُ، في ما بعد، أنّ ماهر أيضًا قد عاد.

ذاتَ مساء من العام 1995، كنتُ قد اتّفقتُ مع أحد الرفاق على اللقاء في إحدى الحانات في شارع الحمرا. جلستُ هناك أنتظر. دخل رفيقي برفقة رجلٍ آخر، يرتدي قميصَ جينز مفتوحَ الأزرار، فوق فانيلّا بيضاء. نظر إليّ والبسمةُ تشعّ من عينيه. تسمّرتْ عيناي على الرجل، ورحتُ أستجمع ذاكرتي لأتذكّر مَن هو. تقدّم إليّ وقال: "كيفك؟" "منيحة" قلت. ثمّ ضحك وقال: "وَلِي أنا ماهر." قبل أن ينهي جملته، كنتُ قد تعلّقتُ برقبته: "ماهر كثير اشتقتلك، عن جدّ منيح إنّك جيت، فرّحتني كثير." مرّت الساعاتُ من دون أن نشعر بها. رحنا نتذكّر الماضي. واعتذرَ منّي لأنّه كان يأتي إلى بيروت في عملٍ ولم يكن لديه الوقتُ الكافي لرؤية الأصدقاء.

منذ تلك الأمسية، صرنا نلتقي باستمرار. يمرّ على المكتب، أو نادي الساحة، أو يزورني في البيت.

كان يمرّ على المكتب ليتابع أمورًا مع الأستاذ نجاح واكيم، حيث كنتُ أعمل. جاء إلينا في العام 1997 ليطرح علينا موضوعَ اليابانيين الخمسة، أبطالِ عمليّة "مطار اللدّ،" وماذا يمكن أن نفعل لأجلهم. وبالفعل أطلقنا حملةً للتضامن معهم، وكان ماهر يتولّى التنسيقَ بيننا وبين الشباب المتضامنين من جهة، والجبهة الشعبيّة من جهةٍ أخرى. وقد نجم عن ذلك إطلاقُ سراح الرفاق، وإصدارُ أوّل بطاقة لاجئ سياسيّ في لبنان للمناضل كوزو أوكاموتو.

 

كان ماهر يتولّى التنسيق معنا من أجل إطلاق سراح كوزو

 

يعمل ماهر دائمًا من خلف الكواليس. لا يتحدّث عن نفسه، ولا عن دوره في أيّ قضيّة. ولولا وجودي في المكتب وعلمي بهذا الأمر، لكان دورُه في هذه القضيّة سيظلّ مجهولًا.

عندما كان يأتي إلى نادي الساحة، وتكون الرفيقاتُ قد تجمّعن، يجلس إلينا، يحدّث هذه، ويمازح تلك، موجّهًا النصائحَ، ومقترحًا بعضَ الأنشطة. مع ماهر كنّا نتحدث في كلّ شيء، فعلًا في كلّ شيء.

وحين يلتقي بالأصدقاء يسألهم: "شو لوين؟" فيقولون له "رايحين عند مجدولين." "عند مجدولين، آ باجي." يأتي، فيملأ الجوَّ حبورًا. كان يحبّ الجلوسَ على الأرض، ويحلو له أن يغنّي "نشيد الجبهة،" فنغنّي معه.

***

لم يكن ماهر فدائيًّا فقط، ولم يكن مقاتلًا ولا مناضلًا فحسب. كان ماهر إنسانًا بكلّ ما تعنيه الكلمة. كان صديقًا، صادقًا، عطوفًا، شفّافًا، محبًّا، وفيًّا. قلّما اجتمعتْ كلُّ هذه الصفات في رجلٍ واحد. وعندما اجتمعتْ معًا، صارت ماهر اليماني.

بيروت

مجدولين درويش

عضو مؤسّس في حركة الشعب وفي حملة مقاطعة داعمي "إسرائيل" في لبنان.