"داخل الموساد": تطبيعٌ احترافيّ
04-07-2019

 

ربّما كان في ما يقولونه شيء حقيقيّ، وربما لا؛ فهم في النهاية عملاءُ ميدانيّون للموساد، وأكثرُ ما يُتقنونه "فنُّ الخداع". في وثائقيّ داخل الموساد (Inside the Mossad)، الصادر  سنة 2018 عن ثلاثيّ دوكي درور (مخرج أفلام من أصول عراقيّة درس السينما والمسرح في جامعة كاليفورنيا) ويوسي ميلمان (الكاتب الصحافيّ الأقرب إلى الموساد والمؤسّسة الأمنيّة الإسرائيليّة) وتشن شيلاش (كاتب بريطانيّ - إسرائيليّ)،[1] ثمة الكثيرُ ممّا لا مناصَ من خضوعه للجنة رقابيّة ما.

داخل الموساد سلسلة وثائقية تتألّف من أربع حلقات، يتحدّث فيها العديدُ من ضبّاط الموساد المتقاعدين، منهم: تزيفي زمير، وشبتاي شافيت، ورافي إيتان (الذي اشتُهر بقيادته عمليّةً خاصّةً في الأرجنتين سنة 1960 لاعتقال أحد المسؤولين النازيين الرئيسين، أدولف آيخمان).[2] يعرض الوثائقيّ العمليّات التي شارك فيها الموساد، ومن خلالها يعرض بعضَ تكتيكات عمل هذا الجهاز، ككيفيّة تجنيد المخبرين والعملاء. ثمّ يعرِّج على جملةٍ من القضايا الملتبسة: كقضيّة أشرف مروان وتجنيدِه، ومحاولة استعادة رفات بعض الصهاينة من متحف غنائم في القاهرة.

تمّت صناعةُ هذا الوثائقيّ بحِرَفيّة عالية، وبأسلوبٍ مشوِّق، منذ لحظات السلسلة الأولى وحتّى النهاية.

على أنّ هذا الوثائقيّ، شأنه شأن أيّ فيلم عن الموساد، له أهدافُه وضوابطُه التي لا بدّ من أن يلتزمَ بها. فكلُّ رواية عن الموساد إنّما هي جزءٌ من عمله أو صورته؛ وفي الأمن يُقال: "الصورة قبل كلّ شيء ومعه وبعده."[3] وإذا ما التفتنا إلى كون الفيلم موجَّهًا بشكل رئيس إلى الداخل الإسرائيليّ، فلا بد من أن نشتبه في أنّ ثمة أهدافًا مضافةً، وضوابط أكثر صرامة، ستؤطّر عملَ منتجيه.

***

نحن أمام جهاز استخباريّ نشأ لضروراتٍ أمنيّة، كما يدّعي الإسرائيليون. لكنّ منتجيه يُغْفلون الأسسَ المرجعيّة الأخلاقيّة لمثل هذا الجهاز. ففي الأساس، يُعتبر الموساد جهازًا لمجموعةٍ من القتلة الذين أَوْكلتْ إليهم حكومتُهم مهمّةَ تصفية رموز مجتمعٍ ما فتئ يقاوم كيانًا أجنبيًّا استوطن أرضَه غصبًا. أمّا أدواتُ عمل هذا الجهاز، فبعضُهم "خونة" أغرّتهم الأموالُ التي يمكن أن يحوزوها من تسريب معلوماتٍ هنا أو هناك.

السياق الذي يمضى به داخل الموساد يحاول أنْ يصنع نوعًا من الإبهار عن الفيلم. الضيوف يسألون المُخرج عن معدّات التصوير؛ فهم شكّاكون في كلّ شيء، بل يشكّون في أنْ يكون صانعُ الفيلم إيرانيًّا. يحقن المخرجُ أورادَك بالشكّ والريبة من اللحظة الأولى، ثم يُلقي عليك ظلالًا من الحيرة طوال مراحل مشاهدتك الفيلم. ثمّة عجز عن تمييز الكلام المُحقّ من عدمه، ستستشعره مع الوقت. تمرّ أمام عينيك الحقيقةُ المصطنعة، متجمّلةً ومخادعةً، مثلها في ذلك مثل بيانات الأجهزة الاستخباريّة إنْ نقلتْ إليك تفاصيلَ حادثٍ لم تشهده.

 

"داخل الموساد" وثائقي يتحدّث فيه ضبّاط موساد، بينهم رافي إيتان

 

الصحافة والكاميرا في خدمة رجال الظلّ في تل أبيب. هم يريدونك أن تسلِّم بروايتهم وحدهم، وأن تقابل شهودًا كي يخبروك أنّ ما يدّعُونه صحيح. والسلام على الموضوعيّة والصحافة النزيهة!

بالنسبة إلى المُشاهد الاسرائيليّ، لن يكون سهلًا أن تكذِّب مُسنًّا يخبركَ عن إلقائه طيّارًا إسرائيليًّا في البحر لأنّه سرّب معلوماتٍ عن القوّة الجوّيّة الإسرائيليّة لصالح المخابرات المصريّة؛ فالخائن، في عرف الجميع، يستحقّ القتل، وها هو ذا القاتلُ البطل يجلس أمام عينيك ليخبرك بأنّه عاقب الخائن. لا أهميّة هنا للبعد الإجرائيّ من الأخلاق، ولا لأخلاقيّات المهنة. هو يريد أنْ يخبر المُشاهد أنّهم يُقْدمون على الفعل العادل وإنْ كان قاسيًا في حقّ أنفسهم. هذه كانت الخطوة التالية التي ستأخذك، كمُشاهد، للتسليم بما يقولون، فتتابع بحماسٍ بقيّةَ القصص الجاسوسية المشوّقة في الفيلم.

في الفيلم أيضًا يقول أحدُهم إنّه تسبّب في موت سائح كنديّ يهوديّ عن طريق الخطأ المتعمّد، إذ تركه لأسماك القرش كي تلتهمَه. تهمةُ ذاك السائح أنّه عرّض إحدى "قنوات" تهريب يهود أثيوبيا للكشف الأمنيّ. هكذا، يريد الراوي تقديمَ نفسه على أنّه أحد الإسرائيليين الذين يُرغمون أنفسَهم على ارتكاب أبشع الجرائم دفاعًا عن "مبادئهم." لكنْ، يا لوقاحته: إنّه يريد إخبارنا أنّه قتل يهوديًّا... لحماية أمن الصهيونيّة!

الغوص في تفاصيل المحتوى لن يكون مجديًا. يكفي التنبّهُ إلى ما للأفلام الوثائقيّة من منطق سرديّ خاصّ. في الوثائقيّ يريد المخرج أن يدعوك إلى الإطلال على العالم من زاويته هو. والنصّ في الوثائقيّ، مهما كان حياديًّا أو موضوعيًّا، يطلب إليك أن تنظر من هذه الزاوية فحسب.

أما الهدف من صناعة هذا الفيلم، فالأمر قد يبدو واضحًا. لقد أراد الموساد أن يبرّئ اسمَه، ويلمّع صورتَه، وينظّف سُوحَ جرائمه، بحجّة الدفاع عن النفس أمام "المعتدين" الظالمين الذين جالوا العالمَ لـ"تهديدنا في أرضنا،" على ما يقول كاتبُ السيناريو.

في هذا الفيلم يحترف الموسادُ تطبيعَ فكرة وجوده وعمله بيننا باحترافيّة. فلنكن، إذًا، صادقين مع أنفسنا ولنعترفْ: لقد لقي هذا العملُ صداه بيننا، إذ جاء يخبرنا، بالعبرية الطلقة، عن معارك الظلال التي كبرنا ونحن نسمع أصداءها المتقطّعة بين الألسن مشافهةً.  

الموساد في صورة الفيلم البصريّة يتّخذ سريعًا موضعَه في خانة الهجوم المعلوماتيّ، محاولًا تزويرَ انطباعاتنا. المشكلة أنّنا، حين نردّ عليه، يكون ردُّنا مرفقًا بهزّة رأس خفيفة وبضع امتعاضات. إنّ ردّنا الإعلاميّ، على المستوى العربيّ بأسره، بارد إنْ لم نقل غائبًا بشكل كلّي. وفيلم مثل فيلم الموساد هذا قد يمرّ على آلاف العرب مرورَ الكرام.

لنْ أكذب عليكم: لقد استمتعتُ بمشاهدة هذه السلسلة الوثائقيّة، وأدعو كلَّ مهتمّ بشؤون الصراع مع العدوّ كي يشاهدَها بعين حذقة، ووعي مشكِّكٍ في كلّ كلمة تخرج من أفواه الممثّلين. فهؤلاء الصهاينة لن نراهم بصورة لمّاعة مهما اجتهدوا في "فرك" أعيُننا.

لقد قالها فيكتور اوستروفسكي في كتابه، عن طريق الخداع: "إنّ هذا الجهاز [الموساد] ليس أكثرَ من مجموعة قتلة مأجورين يخدمون مصالحَ مادّيّةً متطابقة مع الغرض من وجود الدولة الإسرائيليّة بالأساس." ومهما اجتهد الإسرائيليون في تقديم أنفسهم أبطالًا مضحّين، فإنّنا لن نراهم غيرَ مغتصبين للأرض، وسنعمل على إجلائهم عن أرض فلسطين بلا رجعة.

بيروت


[3] عبد المحسن بدوي محمد أحمد، العلاقات العامّة في الأجهزة الأمنيّة ودعم تنسيقها مع وسائل الإعلام (الرياض: جامعة نايف العربيّة للعلوم الأمنيّة، 2006)، ص 60.

جعفر نور الدين

مخرج لبنانيّ.