قبل أربعة أعوام قدّمتُ مداخلةً في بيروت عن السياسة في أدب الأطفال والناشئة العرب.(1) اليوم، وأنا على أبوابِ إصدارِ قصّةٍ جديدةٍ للأطفال بعنوان الشُّبّاك، أشعرُ بميْلٍ شديدٍ إلى العودة إلى هذا الموضوع الذي قلّما شغل العاملين في مجال هذا الأدب.
في مداخلتي السابقة ركّزتُ على محوريْن هما: اللغة، وتزييفُ الواقع أو الهروبُ منه. واليوم، أرغب في أن أطوّر هذين المحوريْن وأضيفَ إليهما أبعادًا ومحاورَ أخرى.
كنتُ قد عبّرتُ عن فكرةٍ مفادُها أنّ قرارَ كتابتي للأطفال والناشئة باللغة الفصحى المبسَّطة، والمنفتحةِ على الأمثال الشعبيّة والكلماتِ المعرَّبة والأجنبيّةِ والعامّيّةِ والمفصَّحة، قرارٌ سياسيٌّ بامتياز. واليوم، مع استشراء أخطار الأصوليّة والسلفيّة والداعشيّة، أضيف أنّ هذه النزعات، بالمعنى العميق للكلمة، لا تقتصر على الموقفِ من الدين ومظاهرِ الحياةِ الاجتماعيّة (من لباسٍ وطقوسٍ وطعامٍ وشراب...)، بل تمتدّ إلى اللغة وأساليبِ التخاطب. وقد لا أغالي في القول إنّ كيفيّةَ استخدامِ اللغة هي محكٌّ فعليٌّ لمعرفة سياسة الكاتب الحقيقيّة من كلّ همٍّ اجتماعيٍّ وسياسيٍّ مطروقٍ في كلّ زمن. وأزيد تحديدًا: لا يمكن أن تكونَ تقدّميًّا (بالمعنى العميق والواسع للكلمة) وأنت تشمئزُّ من كلّ عاميّةٍ وكأنّها وباءٌ أو شرٌّ مستطير، أو ترفضُ "التجسيرَ" بينها وبين الفصحى، أو تتعاملُ بـ"استجنابيّة" (نزعة كرْه الأجانب) مع كلّ لفظٍ "دخيلٍ" على العربيّة "المقدَّسة." فالحال أنّ حرصَنا الحقيقيَّ على الفصحى ينبغي أن يترافقَ مع حرصنا الفعليّ على تجديد دورتِها الدمويّة، وإشراعِ نوافذِها أمام الحياة اليوميّة والتفاعلِ مع العالم من حولنا.
وفي إطارٍ مشابه، ينبغي التشديدُ على أنّ الهروبَ من موضوعات الحاضر المَعيش باتجاه "الاقتباس" عن الآداب الأجنبيّة، أو عن التراثِ العربيّ ــــ الإسلاميّ، تعبيرٌ آخرُ عن أصوليّةٍ فكريّة. نعم، هناك مبالغةٌ في استكانةِ بعضِ كتّابنا العرب إلى ما سبق أن كُتِبَ هنا أو هناك. وهذا، عدا عن كونه انعكاسًا لكسلهم أو تكاسلهم، يزيدُ من تعميق مشاعر اغترابِ أطفالِنا عن محيطِهم المباشر، ويزيِّنُ لهم الانشدادَ إلى الخارج ــــ أكان "غربَ الأنوار الساحرةِ" أو "شرقَ السلَفِ الصالحِ."
ليس الانعتاقُ من محدِّدات اللغة والموضوع بالأمر السهل. ففي مواجهةِ كلِّ مسعًى تحرّريّ منشود، ثمّة مَن يقف محذِّرًا، ومنبِّهًا، ومهدِّدًا. وتُوازي التحذيرَ والتنبيهَ والتهديدَ خطورةً محاولاتُ الترغيبِ المتزايدةُ، التي تحثّ على الحفاظ على الالتزامات التقليديّة في مجالات الحياة والفكر. ذلك أنّ المدرسة والأهلَ والرقاباتِ العربيّة لا تحبِّذ المغامرةَ إلّا إذا كانت "محسوبةً" بدقّة، أيْ بما يعزِّز تجديدَ النظام التقليديّ لنفسِه. وموضوعاتٌ مثلُ الطائفيّة والمذهبيّة والجنس والمِثْليّة والخيانةِ الزوجيّة (وإنْ تلميحًا) تكاد تكون ملغاةً تمامًا في مكتبةِ الأطفال واليافعين العرب.
الأسوأ أنّه تمّ، قبل أعوامٍ، استحداثُ جوائزَ عربيّةٍ ضخمةٍ لأدبِ الأطفال والناشئة العرب، وصار كثيرٌ من الكتّاب والناشرين والرسّامين والمصمِّمين العرب يتسابقون على نيْلها، محاذرين أن يُثيروا "حفيظةَ" أيٍّ كان من السلطات الضاغطة، دينيّةً أو اجتماعيّةً أو سياسيّةً بشكلٍ خاصّ. وهكذا تحوّلت "الستّ حفيظة،" بجوائزها التي يسيل لها اللعابُ، إلى كابحٍ إضافيّ من كوابح التجديد في أدب الأطفال واليافعين العرب، بدلًا من أن تكون حافزًا على التجديد الحقيقيّ والجذريّ فيه.
هناك مَن سيقفزُ الآن ليقول إنّ السوقَ العربيّة قد شهدتِ انفجارًا جديدًا في أدب الأطفال والناشئة العرب في العقد الأخير. لستُ من أنصار هذا القول إلّا في ما يخصُّ مجالَ الرسوم والطباعة والتصميم بشكلٍ رئيس. فمن حيث المضامينُ والأساليبُ، ما زال هذا الأدبُ، بشكلٍ عامّ، أسيرَ التقليدِ والاقتباس؛ فضلًا عن أنّه لم يتخلَّ ــــ في جزءٍ كبيرٍ منه ــــ عن منزلقات الوعظِ الأبويّة، وعن إقحام العِبَرِ إقحامًا وكأنّها ملاعقُ من الطعام يودّ الكتّابُ "دحشَها" في أفواه الأطفال الهُزالى! إنّنا، والحالُ هذه، أقربُ إلى أن نكونَ اليومَ في قلب مرحلةٍ "نيوتقليديّة" أو "نيوكلاسيكيّة" أو "نصف تجديديّة" في مجال هذا الأدب: نلغو بالتجديد أكثرَ ممّا نمارسُه؛ ونحاصرُه أو نحصرُه حين نباشرُ كتابتَه أو نشرَه فعليًّا.
المفارقة اللافتة هنا أنّ مدارسَنا، "حارسةَ الأخلاقِ القويمة،" لا تمانعُ أحيانًا كثيرةً في أن يَقرأ أولادُنا ما يتخطّى هذه المحدِّدات إذا كان باللغات الأجنبيّة، لكنها ترفضُه وتحاربُه بشدّةٍ إذا كُتب بقلمٍ عربيّ! فلماذا "التسامحُ" مع الكتّاب الآخرين، والتشدّدُ مع الكتّابِ العرب؟ أيكون ذلك لأنّ مجتمع الآخرين أقلُّ "أخلاقًا" من مجتمعـ"ـنا" مثلًا؟ وإذا كان الأمرُ كذلك، فلماذا التهافتُ على ترجمة أدبهم، والاستشهادُ به طولًا وعرضًا؟
طبعًا المجدِّدون الحقيقيّون في أدب الأطفال والناشئة العرب لن ينتصروا بقوّتهم الذاتيّة وحدها، وقد يكون عليهم ــــ شأنَ الناشطين السياسيّين المخلصين ــــ أن يَحشدوا "حلفاءَهم" الظرفيّين والإستراتيجيّين؛ ومن هؤلاء: بعضُ الأساتذة والمدراء المنفتحين، وبعضُ الناشرين الذين لا يَهجسون بالربحِ المادّيِّ وحده (رغم تقلّص أسواق النشر العربيّة منذ أعوام). وقد يكون عليهم أيضًا أن يمارسوا الدهاءَ السياسيَّ والتكتيكَ السياسيّ لكي يُمرّروا، ولو على جرعاتٍ، شيئًا من مشروعهم التجديديّ؛ فهم، في حقيقة الأمر، جزءٌ لا يتجزّأ من ورشة التحرير السياسيّة والفكريّة والاجتماعيّة العربيّة الكبرى.
بيروت