التمهيد والإشكاليّة
شكّلت القضايا الاجتماعيّة محورَ المعالجات في إطار الأدب والفلسفة والدين والسياسة، والمادّةَ الأولى لِما أصبح يُدعى "علم الاجتماع" بعد تطوّر مناهج التفكير واستقلالِ كلّ علمٍ في مجال خاصّ (شاوول، 2016). والصراع العربيّ - الإسرائيليّ هو من أهمّ العوامل التي طبعتْ سياقَ الأحداث في الشرق الأوسط منذ النصف الثاني من القرن العشرين. ولا بدّ من أنْ تحاكي مادّةُ علم الاجتماع، شأنَ موادَّ أخرى كالتاريخ والجغرافيا والتربية، الواقعَ المَعيشَ في ضوء الأوضاع السياسيّة والاجتماعيّة القائمة، وما يترافق مع ذلك من صراعاتٍ مختلفةٍ تنعكس على عناصر المنهج (أو تغيَّب عنه نتيجةً لاتفاقٍ أو مساومة).
تهتمّ هذه الورقةُ باستطلاعِ ما تحتويه مادّةُ علم الاجتماع في المنهاج اللبنانيّ من مواضيعَ سياسيّة، ومدى تغطية هذه المواضيع للصراع المذكور، بغية تسليط الضوء على عناصر التنشئة السياسيّة المحقَّقة في تلك المادّة، وذلك لناحية كفاية هذه العناصر أو قصورها في ما يخصّ وعيَ الخطر الصهيونيّ ومناهضة التطبيع تحديدًا.
الخلفيّة النظريّة: بين المنهج والسياسات التربويّة والسياسة بشكل عامّ
في إطار توجّهٍ عامٍّ في علم الاجتماع، كرّس دوركهايم (1938) أهمّيّةً قصوى للشرائع والقوانين مصدرًا رئيسًا للمعطيات المحسوسة التي تلائم القواعدَ المنهجيّة (عبد الله إبراهيم، 2010). وفي هذا الإطار، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ لبنان يحظِّر التعاملَ مع "إسرائيل،" وذلك بموجب "قانون مقاطعة إسرائيل" الصادر سنة 1955. غير أنّ النصوص القانونيّة (والرسميّة عمومًا) غيرُ كافية لفهم محتوى المناهج التعليميّة وتحليلها. لذا، تصبح دراسةُ هذا المحتوى أكثرَ دلالةً من القوانين على التوجّهات العامّة، السياسيّةِ والتربويّة، التي سبقتْ إعدادَ تلك المناهج، وذلك لكون هذه الأخيرة تعكس الصراعاتِ والتسوياتِ التي أدّت إلى وضعها (موراتي 2013). وهذه الصراعات والتسويات تشمل الاتفاقَ (أو الاختلاف) على المعرفة التي سيجري تضمينُها في المنهج (أو تغييبُها عنه).
الدلالة الوطنيّة لتحليل المناهج
يؤمّن الوعيُ السياسيّ الأرضيّةَ لإدراك الأفراد واقعَ مجتمعِهم ومحيطِهم الإقليميّ والدوليّ، والقوى المؤثّرة في صناعة القرار. وهذا الوعي يساندهم في مواجهة ذلك الواقع وتجاوزِ مشكلاته. ومن هنا جاءت أهمّيّةُ منهج علم الاجتماع في المرحلة الثانويّة من التعليم: فهو يقف بالطلّاب أمام ذلك الواقع، ويُسهم في تحليله تحليلًا علميًّا وموضوعيًّا، من أجل أن يقترحوا بأنفسهم الحلولَ الملائمةَ لمواضيعَ عديدةٍ تدخل في صلب علم الاجتماع، كالطائفيّة.
وهذا ما نريده في تعليم منهج علم الاجتماع: إكساب المتعلّمين رؤيةً شاملةً إلى البيئة الاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة، الوطنيّة والعالميّة، وتحسيسهم بالمسؤوليّة، التي يكون جوهرُها الالتزامَ بالثوابت الإيجابيّة الاجتماعيّة القيميّة والوطنيّة، بالإضافة الى تعزيز الرغبة في التغيير.
الأسئلة البحثيّة
تطرح هذه الورقة الأسئلةَ الآتية: أولًا: ماذا تتضمّن مناهجُ التعليم العامّ في علم الاجتماع من محاور وفصول؟ ثانيًا: ما النسبةُ التي يشغلها الموضوعُ السياسيُّ في هذه المناهج؟ وما هو الوعيُ السياسيّ الذي يعمل على بنائه؟ ثالثًا: ماذا تتضمّن محاورُ الموضوع السياسيّ وفصولُه، وماذا غاب عنها، لجهة وعي الصراع العربيّ - الإسرائيليّ بكافّة أبعاده؟
الإطار الإجرائيّ
تقدّم دراسةُ محتوى مادّة علم الاجتماع في المنهاج اللبنانيّ عرضًا لعناوين المحاور والفصول التي تضمّنها، وذلك في الصفوف الآتية: الأوّل ثانويّ (غير منقسم إلى فروع)، والثاني ثانويّ (فرع الإنسانيّات لكونه يتضمّن المحاورَ كافّةً)، والثالث ثانويّ (فرع الاقتصاد والاجتماع لكونه الوحيدَ الذي يستمرّ في تقديم مادّة علم الاجتماع إلى المتعلميّن).
بعد ذكر عناوين المحاور والفصول، سيتمّ تصنيفُها وفق اللائحة الآتية لتوزيع مواضيع علم الاجتماع: علم الاجتماع السياسيّ، علم الاجتماع التربويّ، علم اجتماع المعرفة، علم اجتماع التنمية، علم النفس الاجتماعيّ، الأنتروبولوجيا. وقد جاءت النتائج على الشكل الآتي:
جدول 1: المحاور والفصول التي تضمّنها منهجُ مادّة علم الاجتماع في الأوّل ثانويّ
جدول 2: المحاور والفصول التي تضمّنها منهجُ مادّة علم الاجتماع في الثاني ثانويّ (فرع الإنسانيّات)
جدول 3: المحاور والفصول التي تضمّنها منهجُ مادّة علم الاجتماع في الثالث ثانويّ (فرع الاقتصاد والاجتماع)
في قراءة أوّليّة للجداول أعلاه، يتبيّن أنّ المواضيع السياسيّة التي يشملها منهجُ مادّة علم الاجتماع متعدّدة. ويتبيّن أنّ هذه المواضيع لا تشير إلى وعي الخطر الصهيونيّ ومناهضة التطبيع لا من قريب ولا من بعيد. ولكنْ كان يُمكن تضمينُه فيها نظرًا إلى ما تقدّمه مساحةُ المواضيع السياسيّة في منهج مادّة علم الاجتماع، لا سيّما في أبواب: المشاركة الاجتماعيّة، التنظيمات الحزبيّة، منظّمات المجتمع المدنيّ، الجماعة السياسيّة، عوامل التغيير والتمكين.
ولكنْ، هل كانت هذه المساحة المخصّصة للمواضيع السياسيّة كافية نوعًا ما؟
جدول 4: العناصر السياسيّة في منهج مادّة علم الاجتماع بحسب المحاور والفصول
|
علم اجتماع سياسيّ
|
علم اجتماع المعرفة
|
علم اجتماع العائلة
|
علم اجتماع التنمية
|
علم اجتماع التربية
|
الأنتروبولوجيا
|
المجموع العامّ
|
التعداد بحسب المحاور
|
5
|
2
|
2
|
1
|
1
|
2
|
13
|
%
|
38
|
15
|
15
|
7
|
7
|
15
|
100
|
التعداد بحسب الفصول
|
31
|
6
|
7
|
1
|
1
|
7
|
53
|
%
|
58
|
11
|
13
|
1
|
1
|
13
|
100
|
نلاحظ أنّ علم الاجتماع السياسيّ يشكّل النسبة العالية من المحاور (38%) التي يمكن أن تتضمّن عناصرَ غاب عنها وعيُ الخطر الصهيونيّ. بينما نجد أنّ علم اجتماع التنمية، وعلم اجتماع التربية، يأخذان النسبةَ الأقلّ من المحاور في منهج علم الاجتماع (7%). أمّا بالنسبة إلى الفصول فإنّنا نجد أيضًا أنّ علم الإجتماع السياسيّ يأخذ 58% من النسب، وأنّ هذه الفصول لا تتضمّن هي أيضًا وعيَ الخطر الصهيونيّ ومناهضة التطبيع في المنهج!
خاتمة
قدّمتْ هذه الورقة استطلاعًا عمّا تحتويه المحاورُ والفصولُ في مادّة علم الاجتماع من مواضيع سياسيّة، ولم تغطّ هذه المواضيع أكثرَ من 13% من المحاور، و53% من الفصول.
ولم تتعرّض المواضيعُ السياسيّة، في حدّ ذاتها، للصراع العربيّ - الإسرائيليّ بكافّة أبعاده. وبذلك تكون عناصرُ عمليّة التنشئة السياسيّة المحقّقة من خلال منهج مادّة علم الاجتماع مقصِّرةً في ما يخصّ وعيَ الخطر الصهيونيّ تحديدًا ومناهضة التطبيع.
إنّ معالجة الثغَر بغيةَ مساعدة المتعلِّمين تدفع باتجاه تحقيق الوظيفة العلميّة والوطنيّة المتوخّاة للمادّة في منطلقات المناهج والبرامج ومبادئها وأهدافها، ومن ثمّ تحقيق الهدف من وضعها في منهاج التعليم الثانويّ، ألا وهو: مساعدةُ المتعلّم على فهم الواقع الاجتماعيّ والاقتصاديّ والسياسيّ والثقافيّ (المحلّي، والإقليميّ، والدوليّ)، المعقَّد والمركَّب، وتفسيره، من خلال تزويده بمصطلحاتٍ ومفاهيمَ وآليّاتٍ علميّة، وذلك كي يستطيع الدفعَ في اتجاه تغيير هذا الواقع نحو الأفضل من خلال مواقفَ واعيةٍ وحرَّةٍ تجاه القضايا المطروحة على المستويات المختلفة، لا سيّما القضيّة الفلسطينيّة ومقاومة الاحتلال، وعلى قاعدة الانسجام مع انتمائه الوطنيّ ومقتضيات الحقّ والعدالة.
بيروت
لائحة المصادر
ملحم شاوول، المجتمع بنية وحركة (بيروت: المركز التربويّ للبحوث والإنماء، مكتبة لبنان ناشرون، ط 5، 2016).
إسماعيل سعد، دراسات في المجتمع والسياسة (بيروت: دار النهضة العربيّة، 1988).
عبد الكريم بكار، تجديد الوعي (دمشق: دار القلم، 2000).
عبد الله إبراهيم، الاتجاهات والمدارس في علم الاجتماع: دراسة في فلسفة العلم (الإبستمولوجيا) (المغرب: المركز الثقافيّ العربيّ، ط 2، 2010).
B. Bernstein, «A propos du curriculum,» in : J.-C. Forquin, Les sociologues de l’éducation américains et britanniques : présentation et choix de textes (Bruxelles : De Boeck, 1997), p 165 -171
B. Bernstein, Pédagogie, contrôle symbolique et identité : théorie, recherche, critique. Traduction de G. Ramognino-Le Dérof, et P. Vitale (PUL, 2007).
E. Durkheim, L’évolution pédagogique en France (Paris : P.U.F, 1938)
J. C Forquin, Ecole et culture : le point de vue des sociologues britanniques (Bruxelles: De Boeck, 1996)
J. C Forquin, Sociologie du curriculum (Rennes: P.U.R, 2008)
C. Murati, «L’écriture des programmes scolaires et ses enjeux en France : l’exemple des sciences économiques et sociales,» Les dossiers des sciences de l’éducation, 29, 2013.