لاحت له من بعيدٍ بلونها الرماديّ الحائل. استطاع أن يراها على الرغم من قِصَرها، ووقوفِها في خفرٍ وسط العمارات الحديثة الشاهقة. غذَّ السيرَ في اتجاهها، مدفوعًا بفضولٍ جارفٍ وشوقٍ غامر. وحين اقترب أكثر اكتشف أنّها مهجورة: فحبالُ الغسيل على الشرفات خالية؛ والنوافذُ مخلَّعة، تغطّي بعضَها قِطعٌ من نايلون أزرق ممزَّق، تُنْبئ عن "محتلّين" اتخذوها سكنًا موقّتًا لحين العثور على مكان أفضل.
عبَرتْ شفتيْه ابتسامةٌ إذ شبَّه وقفتَه بوقفة شاعرٍ جاهليّ على الأطلال. تذكّرَ أنّه لم يكتب الشعرَ يومًا. شَعَرَ بالحسرة لعجزه عن كتابة قصيدةٍ واحدةٍ يمجِّد فيها "مسيرةَ البناء،" لا الأطلالَ المهدومة. ولكنْ، أيّ تسهيلات إضافيّة ينتظرها المتموّلون الكبار كي يزيلوا هذه الندبةَ عن وجه المدينة؟ وكيف فوَّتوا على أنفسهم فرصةَ استغلال هذا الموقع الاستراتيجيّ في مشروعٍ رابحٍ لا محالة؟
انتشلتْه من أفكاره بقعةُ دماءٍ لم تجفّ تمامًا عند مدخل البناء، ولكنّه تجاوزها بقفزةٍ سريعةٍمن دون أن يفكّر كثيرًا في مصدرها. وجد نفسَه أمام البوّابة الحديديّة غير المقفلة، فدفعها بيده، ليَصدرَ عنها أزيزٌ خافت، ولتنبعثَ من خلفها رائحةُ رطوبة. أغلق البوّابةَ خلفه، ووقف في البهو الواسع نسبيًّا. هناك، رأى آخِرَ ما كان يتوقّع رؤيتَه في بنايةٍ مهجورة: مكتبةً صغيرةً متخمةً بالكتب، ومقلوبةً على قفاها كصرصارٍ يائس. لكنّ حالة الكتب في جوفها ممتازة.
اقترب منها بلهفة، حامدًا اللهَ على المصادفة التي ساقته إلى هنا، وعلى الهديّة غير المتوقّعة. ساءَه أن لا تكون سيّارتُه معه في موقفٍ كهذا. عليه إذًا أن يختارَ من الكتب ما أمكن حملُه واشتدّت أهميّتُه فقط.
المانيفستو، رأس المال، الحرب والسلم، لوليتا، الكتاب الأحمر، الإخوة كارامازوف، العنبر رقم 6. أطبق يديه على صيده الثمين، وشعر أنّه لم يعد يستطيع حملَ المزيد. فكّر إنْ كان عليه الصعودُ إلى الطوابق العليا أو المغادرةُ راضيًا بالإياب مع هذه الغنيمة. وقبل أن يتّخذ قرارَه، سمع صريرَ بابٍ خلفه. لم يكن قد تنبّه من قبل إلى أنّ البناية ليست مهجورةً تمامًا، وأنّ بابَ غرفة الناطور مقفل، وكذلك شبّاكها الوحيد. وحين التفت، طالعتْه عينان واسعتان لطفلةٍ جميلةٍ تقف بالباب، راسمةً على وجهها ابتسامةً مطمئنّةً ومرحِّبة. وقبل أن تسعفَه الابتسامةُ الطفوليّةُ في تلقّف المفاجأة، أطلّت امرأةٌ ثلاثينيّة، قدّر سريعًا أنّها والدةُ الطفلة لفرط تشابه ملامحهما. غير أنّ الأم لم تستطع تكلّفَ الابتسام إزاء زائرٍ غريبٍ اقتحم معقلَ أسرتها في هذا الصباح الباكر.
فكّر في كلماتٍ تبرّر وقفتَه تلك، ودخولَه من دون استئذان، وسرقتَه الكتبَ. تساءل في نفسه إنْ كانت المكتبة تخصّ هذه العائلةَ فعلًا؛ كما تساءل عن السبب الذي قد يدفعهم إلى وضعها في الخارج هكذا، وعمّا إذا كان ذلك تدبيرًا موقّتًا بداعي الترتيب والتنظيف. وبعد أن مسح قامتيْهما بنظرةٍ سريعة، حسم أمرَه، مقرِّرًا - باستعلاءٍ واضح - أنّ "هذه الأشكال" لن تكون معنيّةً بتلك النفائس في أيّ حالٍ من الأحوال. همّت المرأةُ بفتح فمها لتقول شيئًا ما، ولكنّ صوتَها باغَتَه إذ خرج أقوى كثيرًا وأشدَّ غضبًا ممّا تَوَقَّع.
***
حين شقّت الصرخةُ الأنثويّة الصَّمت، تبِعتها هتافاتٌ جماعيّة لم يفهمْ منها شيئًا. فتح عينيه وعركهما بيديه الخاليتين من كلّ أثرٍ للوليتا ورفاقها. وبعد أن تقلّب في سريره، تذكّر أنّ صديقًا له حذّره بالأمس من مغبّة القرارات الثلاثة التي اتّخذتْها الحكومةُ، باقتراحٍ منه، حول زيادة الضرائب على المحروقات، وإلغاء تصحيح الأجور، وخصخصةِ قطاع الكهرباء. ولكنّه أهمل نصيحةَ صديقه، مفضِّلًا الاستماعَ إلى مستشاريه.
كان عليه أن ينتبه - على الأقلّ - إلى خطورة توقيت هذه القرارات، بعد أيّام معدودة من نشر تحقيقٍ كتبه صحافيٌّ مغرِض عن تضخّم أرصدته في مصارف سويسرا.
وزاد من كدره تذكّرُه تفاصيلَ الحلم الذي استيقظ منه للتوّ. ما الذي أتى بالبناية المشؤومة من أعماق ذاكرته اليوم؟ لعلّ مالكَها الأساسَ كان معجَبًا بسيرة ملكة قرطاج، التي تحدّت البحرَ وبجماليونَ معًا، فسمّاها ألِيسار؛ ولكنّ بعضَ "المثقّفين" من أهل اليمين تظارفوا فسمّوها "بناية ألْيَسار" تيمُّنًا بهويّة الحزب الذي شغل طابقَها الأوّلَ ردحًا طويلًا. أمّا الناس العاديّون، غيرُ المعنيّين بالجِناس وسواه من فنون "الحذلقة،" فقد سلكوا طريقًا مباشرًا، فسمّوها اختصارًا "بناية الشيوعيين،" خصوصًا أنّ طابقَها الثاني كان مقرًّا للصحيفة الصادرة عن الحزب.
كان "نضال" يكاد لا يُرى سوى في هذيْن الطابقين، بصفته عضوًا في الحزب وكاتبًا في الصحيفة. وكانت كتاباتُه الغاضبة، مشفوعةً باسمِه الثلاثيّ، المُحيلِ فورًا على والده المناضلِ الشهيد، تشقّ له طريقًا سريعًا للتحوّل إلى رمزٍ لدى الجماهير التائقة إلى النصر. ولكنّ اقترابَ جيش العدوّ من مشارف العاصمة صيف العام 1982 جعله يحزم أمرَه سريعًا، فيتخلّى عن كلّ شيءٍ ليلتحقَ بزوج والدته في الخارج من أجل إدارة أعماله الكثيرة، بعد سفرٍ مُضنٍ فرضه توقّفُ المطار عن العمل بسبب الغارات الاسرائيليَّة.
ومن هناك، واصل نضال الكتابةَ كهوايةٍ أثيرة، مع تنويعٍ "بسيط" طرأ على قضاياه: كالحديث عن الديمقراطيّة، وحتميّةِ السلْم، وضرورة "الجُنوح" إليه استنادًا إلى النصّ القرآنيّ الواضح، والهجاءِ المطلقِ للسِّلاح، وانتقاد الشموليّة وعقليّة "الأخ الأكبر،" ومديحِ الخصخصة وسياسات الانفتاح.
وحين وضعت الحربُ الأهليّةُ أوزارَها، استُدعيَ إلى البلد "الماشي"(من دون أن يكترث أحدٌ بمعرفة وجهة سيره) كي يشاركَ في العمليّة السياسيّة، فوافق بعد أن انتفت حاجتُه إلى الغربة، ملجأً آمنًا ومكاسبَ ماديّةً، إذ بات الأمران متاحيْن في كنف بلده الأول.
تقلّب نضال في مناصبَ كثيرة، وأبلى فيها كلّها بلاءً حسنًا، فكوفئ أخيرًا بتولّي حقيبتين وزاريّتين وازنتين دفعةً واحدة: الماليّة العامّة، والاقتصاد والتجارة. ولكنّ واقعيّته واتّزانه، في رأي البعض، جعلاه هدفًا لغضبة بعض "الحالمين" ممّن يُتَّهمون بأنّهم يقتاتون على الوهم ويعيشون خارج الزمان.
وحين وصل الكورال المرافقُ لزياد الرحباني، عبر مكبّراتِ الصوت في الخارج، تحت شرفة الوزير الحالي والمناضل السابق، إلى مقطعٍ من أغنية يقول فيها: "كلّ المصاري الّي مضبوبة، اللي ما بتنعدّ وما بتنقاس، أصلها من جياب الناس مسحوبة، ولازم ترجع ع جياب الناس،" ارتفع صراخُ المتظاهرين، "الحالمين" القدامى ذاتِهم، فانتشله من ذكرياته. ومن بين الأصوات المتداخلة برز صوتٌ أنثويٌّ حادّ، في عبارةٍ طويلةٍ لا تشبه الهتافاتِ القصيرةَ المنغّمة والمموسقة، مفادُها أنّ مَن يخُن ليلى يخُن الوطنَ وأهلَه الفقراء.
وعادت إلى ذهنه بقعةُ الدم عند مدخل البناية البيروتيَّة في الحلم. أتكون هي النقطةَ ذاتَها التي سقطتْ فيها ليلى، الحبيبةُ والرفيقةُ، حين واجَهَتْ بصدرها ورشّاشها جنودَ العدوّ؟
صور