كنتُ طفلًا صغيرًا أُمسكُ بطرف ثوب أمّي، وأمشي بجانبها بعد أن يُنزلنا "الميكرو" القادمُ من حي المشلب، في الجهة المقابلة لحديقة البستان، وسطَ مدينة الرقّة السوريّة. ندلف إلى شارع أبي جعفر المنصور، باني مدينةِ الرافقة الأثريّة. نقصد بيتَ جدّي، حيث يواجهنا بناءٌ أثريٌّ قديم، بُني من الآجرّ المشويّ الذي اشتُهرتْ به محافظةُ الرقّة منذ العصر العباسيّ. فوق بابه المقنطرِ لوحةٌ حجريّةٌ بيضاء، محفورٌ عليها بخطٍّ أسودَ جميلٍ: "متحف الرقّة." إلى يسار المتحف محلٌّ صغير، عُلّقتْ على واجهته صحفٌ ومجلّاتٌ متنوّعة بواسطة ملاقطِ غسيلٍ خشبيّة. يجلس داخله، بين رفوف الكتب، رجلٌ أبيضُ البشرة والشعر، يقدّم القهوة العربيّة المرّة إلى كلّ مَن يدخل إلى "دكّانه." كانت أمّي تسلّم بلطفٍ على عمّها أحمد الخابور، الرجلِ الستينيّ، وتسأله عن صحّته، وحالِ أهل بيته إنْ كان وحيدًا ـــ وهذا شبه مستحيل. أمّا إذا كان دكّانُه مزدحمًا كالعادة، فإنّنا نَمضي من دون أن نلتفت إلى يسارنا أبدًا.
كبرتُ قليلًا وصرتُ أجيد التهجئةَ والقراءة. أدركتُ آنذاك أنّ العم أحمد لا يملك "دكّانًا،" بل مكتبة! وانتبهتُ إلى لوحةٍ معدنيّةٍ سوداء مُعلّقة فوق بابها، مكتوب عليها باللون الأبيض: "مكتبة بورسعيد،" وأسفلَ الجملة الأولى: "تأسّستْ في عام ١٩٥٧." لم أعِ ما قرأتُه وقتها؛ فهذا التاريخ قديم بالنسبة إلى عمري. ولا أنكر أنّني حسبتُه خطأَ كاتبِ اللوحة؛ فلربّما قصد عام ١٩٧٥ لكنّه أخطأ (إذ هل يُعقل أن تكون هذه المكتبة أكبرَ من عمر أبي؟).
|
أحمد الخابور صاحب مكتبة "بورسعيد" |
عرفتُ لاحقًا أنّها أقدمُ مكتبةٍ عامرةٍ في محافظة الرقّة، وأنّها الثانية بعد "مكتبة حقّي إخوان" التي لم تستمرّ إلّا قليلًا بعد افتتاحها، بعكس مكتبة "بورسعيد" التي أنشئتْ إثر العدوان الثلاثيّ على مصر. كان الألمُ العربيُّ واحدًا آنذاك، والدمُ العربيُّ واحدًا يضخّ من شريان النيل إلى وريديْه، الفرات ودجلة، في دورةٍ متكاملةٍ تحمل حلمًا قديمًا، كاد أن يتحقّق في مشروع "الجمهوريّة المتّحدة" الذي فشل.
شهدتْ جدرانُ مكتبة بورسعيد إصداراتِ حقبٍ زمنيّةٍ وأحداثٍ مهمّة على مختلف الصعد السياسيّة والأدبيّة والثقافيّة والاجتماعيّة؛ ترتبط بالعدوان الثلاثيّ على مصر كما ذكرنا، وما تبعه من أحداث الوحدة بين مصر وسورية ثمّ الانفصال. ثمّ واكبتْ نكسةَ حزيران، وأيلول الأسود، والاستقرارَ السياسيّ في سورية، وحربَ أكتوبر التي سطّر الجيشان السوريّ والمصريّ فيها ملاحمَ البطولة، واجتياحَ لبنان، وتطوّر الحَراك الأدبيّ والثقافيّ في العالم العربيّ.
آمن العمّ أحمد الخابور ــــ "صديقُ الثقافة" كما يُطلق عليه أهلُ الرقّة ــــ بالثقافة، وبدورها الحيويّ في ترسيخ البناء المعرفيّ في مدينةٍ لم تكن تصلها الصحفُ إلّا بعد صدورها بحوالى أسبوع أو أسبوعين؛ فلم يَعرفْ أهلُ الرقّة مثلًا بجلاء المستعمر الفرنسيّ عن سورية إلّا بعد مضيّ أيّام. وحرص الخابور على رفد أبناء الرقّة بأهمّ الإصدارات الأدبيّة والثقافيّة والتاريخيّة، ولو متأخّرةً بعض الشيء، لكنْ لا يمكنك أن تطلب كتابًا إلّا وتجده في زوايا تلك المكتبة، أو في مستودعها الذي يزدحم بحروف اللغة والتاريخ والجغرافية والفلسفة والعقيدة. يوصيه بعضُ المهتمين على كتبٍ بعينها، فيسعى جاهدًا إلى تأمينها. وتشجيعًا للقراءة كان ينصح روّادَ مكتبته باستعارة كتب وقراءتها لقيمتها ومكانة كتّابها، بعيدًا عن الديماغوجيّة الزائفة، ويشترط عليهم إرجاعَها وعدم دفع ثمنها واقتنائها إنْ لم تعجبهم.
أصبحت مكتبة بورسعيد منتدًى ثقافيًّا لأهل الشأن والمهتمّين بالثقافة. أمّا أنا، فقد فاتني لصغر سنّي وسوء حظّي أن أعرف، عن قربٍ، الأعلامَ الذين كانت تكتظّ بهم المكتبة حينها، وأذكر منهم: الأديب الراحل الدكتور عبد السلام العجيلي، والأديب الراحل خليل جاسم الحميدي، والدكتور إبراهيم الجرادي. وقد قال الدكتور العجيلي: "حين أكون في الرقّة، هناك مكانان إنْ لم أزرهما يوميًا، لا أعتبر أنّني عشت يومًا طبيعيًّا: هما مكتبة بورسعيد وجسر الرقّة القديم."
رحل الكبار، وبقيتْ كتبُهم في مكتبة بورسعيد نتقفّى أخبارَهم منها، وننهل من إرثهم الثقافيّ والأدبيّ. إلى أن رحلت المكتبة هي الأخرى سنة 2013، بعد أكثر من نصف قرن من العطاء المنقطع النظير. فقد دخل برابرةُ الليل، أصحابُ اللحى الشعثاء والقلوب السوداء والوجوه الكلحاء، إلى المكتبة، وإلى مستودعها الكبير، وأخرجوا كلّ ما في بطنها من دُرر، وكدّسوها أمام متحف الرقّة المنهوب المحروق، كأنّهم تقصّدوا ذلك ليكتمل المشهد، وطلبوا من العم أحمد أن يحرقها بنفسه. وحين عجز عن ذلك، فعلها ولده خوفًا عليه من بطشهم. وطار الدخانُ في السماء يرسم حروفًا سوداء كتلك التي ارتسمتْ على سطح دجلة والفرات حين دمر المغولُ بغداد!
لم يبقٓ من إرث مكتبة بورسعيد سوى الذكريات، وبعضِ قصصٍ نتداولها علّها تطفئ الجمر المشتعل تحت رماد قلوبنا، حزنًا على مدينةٍ كانت في ما مضى أحدَ منازل الدنيا الأربعة، الرقّة العباسيّة حاضرة هارون الرشيد.
بروكسل