عزيزي مالك، اطّلعتُ على مقالك المنشور في مجلّة الآداب. وبعد أن أنهيتُ قراءته تبسّمتُ وقلتُ في نفسي: "جميلٌ هذا الاهتمام منك بتاريخ الحركة العمّاليّة اللبنانيّة، وسامحكَ اللهُ على ما قذفتَني به من تهمٍ ونعوت، وعلى ما ارتكبتَ من هفواتٍ وتسرّعٍ في إطلاق بعض الأحكام، ليس في حقّي فقط بل ما طاول أيضًا أشخاصًا غيري، وطاول بعضَ المحطات في مسار إضراب معمل الغندور."
1 ــــ الحرب خيار السلطة
أسارع بدايةً إلى إعلان التوافق معك في "أنّ الحرب لم تكن خيارَ عمّال لبنان ومزراعيه الأوحدَ، وإنّما الخيارَ الأنسبَ للسلطة الحاكمة وللفئة الاجتماعيّة التي تُمثّلها... وقلّة هي الدراسات التي أشارت إلى عجز النظام اللبنانيّ عن معالجة الأزمات الاجتماعيّة المتفاقمة، بحيث بدت الحربُ بالنسبة إليه ضرورةً لا مناصَ منها."
غير أنّ هذه الخلاصة لا تعفي أحزابَ اليسار، ولا تعفينا، من القراءة النقديّة لمسار انخراطه في الحرب الأهليّة، التي لا أعْتبرُها الخيارَ الأوحدَ أو الصائب. ولي عودة إلى هذه المسألة، لكنْ سأبدأ بما يتعلّق بمقالك.
2 ــــ في إعداد الفيلم
تقول في مقالك: "جاء فيلمُ سابا حصيلةً لعملٍ بحثيٍّ دؤوب قامت به... كذلك حاول الفيلم، في قسمه الأخير، أن يفسح المجالَ لبعض المناضلين والمناضلات الذين أدّوْا أدوارًا قياديّةً في إضراب معمل غندور من أجل مراجعة عملهم وتوقّعاتهم وأهدافهم خلال ذلك الإضراب..."
أودّ أن أستعيد هنا بعضًا ممّا قرأتَه في مقالي عن دوري في إنتاج الفيلم. وخلاصتُه أنّ دوري دام ثلاثَ سنوات، تخلّلها عقدُ لقاءاتٍ مطوّلة مع المخرجة (ماري جرمانوس سابا)، وجلسات تصوير عديدة حول أوضاع تلك المرحلة وحركة الأحزاب واليسار والحركة النقابيّة. وصُوِّرتْ حلقاتٌ في منزلي القديم في الشيّاح، الذي شهد اجتماعاتِ عمّال الغندور ولجان الإضراب. وأمّنتُ للمخرجة التواصلَ مع أحمد الشعلان، عضوِ منظّمة العمل الشيوعيّ سابقًا ورئيسِ لجنة الإضراب. وذهبتُ وإيّاها إلى لقائه في بلدته العبّاسيّة. وسهّلتُ لها التواصلَ مع أهل الشهيد يوسف العطّار في بلدة شعث البقاعيّة. كما أمّنتُ لها جلسةَ تصويرٍ مع وليم صادر، وكان صاحبَ دور جوهريّ إلى جانب الشعلان في قيادة الإضراب، وتولّى المفاوضاتِ معه إلى جانب قيادات الحركة النقابيّة آنذاك. لكنْ للأسف غاب وليم عن الفيلم، ولم أعرف السبب.
إضافةً إلى ذلك، فقد أمّنتُ للمخرجة مشاركةَ أعضاء أساسيين من لجنة الإضراب في جلسة التصوير الأخيرة، ومنهم: الصديق عصام العرب (من بلدة شعث)، وأحمد الشعلان، وزوجته سنيّة سويدان، ومحمد شريم. وحاولتُ تأمينَ مشاركة كامل اليمن، عضوِ لجنة الإضراب والعضو في الحزب الشيوعيّ من صيدا؛ والصديق عصام الجردي، الصحفيّ والخبير الاقتصاديّ (العضو في الحزب الشيوعيّ آنذاك)، وقد نال حصّةً كبيرةً من الضرب المبرِّح على يد رجال الدرك خلال اعتقاله، وقد اعتذر أيضًا عن حضور اللقاء. وبالطبع كانت بيننا الرفيقة والصديقة "وردة" (نادين عاقوري) التي تواصلتْ معها المخرجة.
أستعيد هذه الوقائع لأقول إنّ عمل المخرجة البحثيّ، الذي تشير إليه أنت، لم يكن ليستقيم من دون هذه الجهود التي بذلتُها، وخلافًا لما قد يوحي به كلامك ("حاول الفيلم، في قسمه الأخير، أن يفسح المجالَ لبعض المناضلين والمناضلات...") وكأنه منّة وحسنة تكرّمتْ بهما المخرجة! فلولا مشاركتُنا لم يكن لرواية المخرجة عن الإضراب أن تكتمل.
لقطة من فيلم "شعور أكبر من حب" لماري جرمانوس سابا
3 ــــ الذكوريّة، والنظرة الدونيّة إلى المرأة، والحديث عن فاطمة خواجة
تقول في مقالك: "أمّا عن الهويّة الحزبيّة للشهيدة فاطمة خواجة، فيزعم القائدُ اليساريّ عينُه، الرفيق أحمد ديراني، أنّ خواجة لم تكن تعمل أصلًا في معمل غندور، بل كانت ’تنشر الغسيل‘ (!) عندما أصابتها رصاصةٌ طائشةٌ أثناء قمع الشرطة المضربين والمضربات." عزيزي مالك، أنا لا "أزعم،" بل أجزم بأنّها لم تكن تعمل في معمل غندور. ثم إنّ كلام "نشر الغسيل" أتى على لسان أهلها في الفيلم، وليس كلامي أنا.
وتستكمل كلامَكَ قائلًا: "ويتابع ديراني تشكيكَه في رواية الفيلم، فيقول إنّ الشهيدة خواجة لم تكن يومًا عضوًا في الحزب الشيوعيّ اللبنانيّ، وذلك خلافًا لتأكيد القياديّة في الحزب، ماري الدبس." عزيزي مالك، هذا التشكيك صدر عن الأهل والأقارب وورد في الفيلم على لسانهم حين قالوا: "فاطمة لم تكن تتجاوز سنّ الـ16 أو 17 سنةً، ولا تزال تلميذةً في الصف الثالث، أيْ ما دون الشهادة المتوسّطة. لم تكن فاطمة لا نقابيّةً ولا حزبيّة." وأنا أضيف أنّني أميل إلى رواية الأهل لأنّني عايشتُ تلك الفترة. ويشاركني هذه القناعةَ رفاقٌ وأصدقاءُ سابقون من الحزب الشيوعيّ ــــ منهم القائدُ النقابيّ والمسؤولُ العمّاليّ في تلك الفترة، الرفيق أديب بوحبيب ــــ كانوا هم المعنيين والمشاركين آنذاك، لا ماري الدبس.
وينطبق على فاطمة الخواجة ما ورد في مقال سابق لك في مجلة الآداب عن إضراب عمّال الريجي واستشهاد المناضلة العمّاليّة وردة بطرس إبراهيم، إذ ورد في وصفك للمجزرة ما يلي: "كانت مجزرةً حقيقيّةً (إضافة إلى استشهاد العاملة وردة بطرس إبراهيم) جُرح فيها أيضًا ١٢ عاملًا وعاملةً، وثلاثةُ أشخاص من المارّة لا ناقة لهم ولا جمل." فاطمة، يا عزيزي، كانت من المارّة بعيدًا عن المعمل وساحة المواجهة، "لا ناقة لها ولا جمل"!
وتستكمل حديثك ردًّا عليّ: "وكان المرء يتوقّع من قادةٍ ’ثوريّين‘ أن يكونوا قد تخلّصوا من النظرة الدونيّة إلى المرأة، خصوصًا حين تحتلّ موقعًا شبيهًا بموقع الرجل... هذا إضافةً إلى الكشف عن سيادة المفاهيم الذكوريّة في النظرة إلى دور المرأة في العمل السياسيّ أو المعمل (وهو ما لم يختفِ حتى اللحظة مع الأسف الشديد، بدليل تركيز الرفيق ديراني ’نقدَه‘ للفيلم على المناضلتيْن ماري الدبس وليندا مطر)."
عزيزي مالك، أنا لا أمارس نقدًا لموقفٍ عبّرتْ عنه ماري الدبس وليندا مطر، بل أسجّل وقائعَ لأكرّر أنّ كلامَهما غير صحيح. ولستُ "غيْران" من الرفيقة ماري لكونها قياديّةً في حزبها (مثلما كنتُ أنا في منظّمة العمل الشيوعيّ)، وليس لأنّها امرأة، بل تمامًا لأنّها قياديّة ويجب ــــ من ثمّ ــــ أن تكون صادقةً وأمينةً للوقائع. وينطبق ذلك على الرفيقة، التي أحترم، ليندا مطر، ولا أعرف كيف جرى توريطُها بالكلام الآتي: "كنتُ ألتقي فاطمة بالمعمل وأزور العاملات في المعامل." فالحقّ أنّ فاطمة لم تكن في معمل غندور، ولا كانت المعاملُ "هايد بارك" يدخل المناضلون إليها للقاء العمال وتنظيمهم!
بعد هذه التفاصيل، هل مطلوب منّي أن أوافق على رواياتٍ غير صحيحة، وأن أشاركَ في تزوير الوقائع، كي لا أكون "ذكوريًّا،" أو كي لا تكون لديّ "نظرةٌ دونيّةٌ إلى المرأة"؟
وتستكمل لتقول: "فأن تكون الشهيدة فاطمة خواجة مناضلةً بولشفيّةً أو لا تكون، فذلك لا يُغْني النقاشَ الذي يثيره الفيلم. بل يمكن اعتبارُ التشكيك في هويّتها الحزبيّة مجرّدَ ’قنبلةٍ دخانيّة‘ لإخفاء النقطة الجوهريّة في الفيلم، ألا وهي: دورُ النساء ليس فقط في العمل والإنتاج، بل في النشاط الحزبيّ أيضًا، والعمل السياسيّ عمومًا."
عزيزي مالك، بعد التوضيحات الواردة أعلاه، ألا تعتقد أنّ كلامك ينطبق عليه المثلُ اللبنانيّ "عم تخْلط عبّاس بدبّاس،" وأنّك أنت مَن يطلق القنابلَ الدخانيّة والفراغيّة؟
وأودّ أن أسألَكَ: ما الحكمة من تغييب [المخرجة] لاستشهاد العامل في معمل غندور يوسف العطّار، عضوِ اللجان العمّاليّة، في المواجهة التي دارت مع الدرك اللبنانيّ أمام بوّابة المعمل في الشيّاح؟ وهل إعطاءُ استشهاده حقَّه من الحديث ينتقص من "دور النساء في العمل والإنتاج، بل في النشاط الحزبيّ،" علمًا أنّ المخرجة (كما سبق الذكر) ذهبتْ إلى قرية شعث والتقت أهلَه وأقرباءه وصوَرتْ وسجّلتْ معهم؟ هل ترى هذا التغييبَ لمن سقط شهيدًا أمام المعمل في المواجهة، واستبدالَه بالحديث عمّن "لا ناقةَ لها ولا جمل،" مصادفةً وسهوَ بال؟ أجزم بأنّ لديكَ من الخبرة والتجربة والذكاء لمعرفة معنى ذلك، وسيتضح هذا المعنى في المقطع التالي.
وفي مقالكَ غاب عنك اعتراضي الأساس على أن تكون ماري الدبس هي من يتحدّث عن إضراب معمل غندور، وذلك ليس لأنّها "المرأة" ماري الدبس، بل بصفتها القياديّة في الحزب الشيوعيّ اللبنانيّ، الذي لم تكن له علاقةٌ بالتحضير لإضراب معمل غندور، بل اعتبَرَه إضرابًا غيرَ شرعيّ. فقد شكّل الإضرابُ محطّةً أساسيّةً في الممارسة العمّاليّة القاعديّة لمنظّمة العمل الشيوعيّ عبر تنظيمها العمّاليّ (تجمّع اللجان العمّاليّة)، الذي تصادم حينها مع الخطّ النقابيّ "الإصلاحيّ" للحزب الشيوعيّ، المهادنِ "لليمين النقابيّ" في الاتحاد العمّالي العامّ. وألفت نظرَكَ مرّةً ثانية إلى استشهاد عضو اللجان العمّاليّة يوسف العطّار؛ وكان يجب أن يتحدّث عن ذلك أيُّ قياديٍّ من منظّمة العمل الشيوعيّ، صاحبةِ التجربة وصاحبةِ ذلك النهج العمّاليّ القاعديّ ــ ــ وهو نهجٌ لا أمانع في أن يَخضع للتقويم والنقد، بدلًا من التعمية على أصحاب التجربة و"استدعاء" ماري الدبس لتزوير الوقائع. وقد أتت اتهاماتُكَ لي بـ"الذكوريّة" و"النظرة الدونيّة إلى المرأة" بمثابة قنابل دخانيّة للتعمية على ادّعاءات الدبس. ومسؤوليّة ذلك لا تقع على الدبس وحدها، بل تتحمّل مسؤوليّتَها أوّلًا "المخرجةُ الفذّة."
4 ــــ سيرة الإضراب، نتائج و"نصائح" العزيز مالك
تقول في مقالك إنّ الإضراب "انتهى إلى فشلٍ ذريعٍ تمثَّلَ في إقفال المعمل نهائيًّا وصرفِ العمّال والعاملات أجمعين." وتضيف:
"أخذ بعضُ المشاركين في الفيلم، ممّن تبوّأوا مراكزَ قياديّةً في حينه، في الدفاع عمّا قاموا به في سياق التحضير للإضراب وخلاله. بل ذهب أحدُهم، ممّن نكنّ له احترامًا خاصًّا نظرًا إلى دوره النضاليّ والأكاديميّ، إلى إنّ ماركس هو الذي أخطأ (الدقيقة 1:30:59 من الفيلم) لا منظّمة العمل الشيوعيّ التي طرحتْ نفسَها بديلًا من الحزب الشيوعيّ اللبنانيّ… لكنْ هل كان ماركس هو الذي قاد الإضرابَ؟ وهل ماركس هو المسؤول عن عدم تقدير القيادة ’الثوريّة‘ لمسار الإضراب ومعرفةِ اللحظة التي كان ينبغي فيها التراجعُ عن تحقيق المطالب، أو جزءٍ منها...؟ وهل كان ماركس هو المسؤول عن عنادٍ لا ينفع سوى في الظهور في مظهر ’الثوريّ‘ الذي لا يساوِم؟ ومن قال إنّ المساومة في المفاوضات بين العمّال وأرباب العمل معدومةٌ في قاموس تاريخ الحركات العمّاليّة؟"
وتختم مقالَكَ بسؤالي: "ألم يكن فهمُكم للماركسيّة بمثابة إسقاطاتٍ و’مسبَّقاتٍ‘ على إضراب معمل غندور؟"
عزيزي مالك، الإضراب لم ينتهِ إلى الفشل الذريع، ولم يُصرَف العمّالُ والعاملات، كما تدّعي. ما حصل هو الآتي:
بعد الإضراب الأوّل وعودة جميع العمّال، وضمنهم أعضاءُ لجنة الإضراب، أُطلق سراحُ المعتقلين (وكان ذلك من بين المَطالب)، وأُعطي العمّال مطلبَ التعويض من غلاء المعيشة. وبعد أسبوع تقريبًا، أقدم أصحابُ المعمل على توقيف قائد الإضراب واللجنة، الرفيق أحمد الشعلان، وصرفِه. وهذا ما دفع العمّالَ، عفويًّا، إلى الإضراب. فتدخّلنا، كقيادة حزبيّة، مع العمّال، ومع الرفيق أحمد، وطرحنا الاكتفاءَ بوقفةٍ احتجاجيّة بدلًا من الإضراب المفتوح. بمعنًى آخر، اخترنا المساومةَ و"عدم تكبير الراس."
غير أنّ خطّةَ أبناء غندور كانت أبعدَ من ذلك بكثير، وهي تنظيمُ هجوم معاكس للتخلّص من لجنة الإضراب والناشطين فيه. فبادروا إلى "مناورة" تقضي بإقفال معاملهم، ثم أعادوا فتحها بعد أيّام بسبب تزايد ردود الفعل السياسيّة والنقابيّة والعماليّة. وبسبب استعدادنا نحن والعمّال للمساومة، تمّ "تمرير" فصل الأعضاء البارزين في لجنة الإضراب وبعض الناشطين. وهذه كانت خسارةً وانتكاسةً للعّمال، وقد عادوا الى عملهم، ولم يُصرَفوا كما تقول. ورافق ذلك قبولُ أصحاب المعمل تأسيسَ نقابةٍ لعمّال المعمل,
وأضيفُ إلى النتائج الإيجابيّة غير المباشرة للإضراب ما سبق أن ذكرتُه في مقالي:
"من دروس ونتائج الإضراب توسّعُ التحرّكات العمّاليّة القاعديّة لتطال مناطقَ عمّاليّة عدّة، منها مناطقُ المتن الشماليّ والدكوانة وتلّ الزعتر والمكلّس، التي نفّذتْ إضرابًا عمّاليًّا بدعوة من تجمّع اللجان العمّاليّة، عامَ 1973، لكسر قرار الاتحاد العمّاليّ بإلغاء إضرابٍ عامّ كان قد قرّره سابقًا. أدّى كلُّ هذا إلى تقليص هيمنة اليمين النقابيّ على قيادة الاتحاد العمّاليّ العام، وكسر التوازن لصالح دور وموقع اليسار النقابيّ الذي مثّله الحزبُ الشيوعيّ. وهو دورٌ تطوّر بفعل الحركات العمّاليّة القاعديّة. ومن النتائج، أيضًا، تحقيقُ أوّل تعديل كبير ومهمّ لقانون العمل، تمثّل في تعديلاتٍ تُقيِّد المادّة 50 من القانون التي كانت تتيح حريّةَ الصرف من العمل، وتمَّ فرضُ تعويض للصرف التعسفيّ وفترة إنذار."
إضراب معمل غندور عام 1972
5 – الحوار والموقف من ماركس
هنا أستعيد ما سبق أن قرأتَه في مقالي حول "كمين الفيلم،" وأعجب كيف سمحتَ لنفسك بأن تقول ما قلتَه:
"خلال جلسة التصوير الأخيرة من الفيلم، رويْنا مجتمعين بعضَ محطّات الإضراب وكيفيّة بناء التنظيم العمّاليّ في المعمل. وقبل انتهاء التصوير، تقريبًا في ربع الساعة الأخيرة، طرحت المخرجةُ علينا أسئلةً لتقييم المرحلة والتحرّك. وتمّ الإدلاءُ ببعض الآراء والملاحظات السريعة. وكان الاتفاقُ معها أنّ ما حصل غيرُ كافٍ، على أن تُنظَّم جلسةُ تصويرٍ خاصّةٌ للحوار حول المرحلة وطرح الأسئلة والتقييم وتسجيل الدروس. وهذا ما لم يحصل. وغابت بالتالي إمكانيّةُ تسجيل تقييم متكامل لتجربتنا في معمل غندور والتجربة العمّاليّة بشكل عامّ، وغابت دروسٌ عامّة كبيرة."
أمّا الحديث عن ماركس، والقول إنّه "هو الذي أخطأ (الدقيقة 1:30:59 من الفيلم) لا منظّمة العمل الشيوعيّ،" فقد ورد في سياق كلام عامّ، هو ردّي على البعض بأنّ المنظّمة أخطأت: "مش بس المنظّمة غلطت، ما هو الماركسيّة وماركس كمان غلط." وهذا الاختزال في كلامي تتحمّل مسؤوليّتَه "المخرجةُ الفذّة" (بحسب تعبيرك)، التي لها سلطةُ اقتطاع ما تريده خلال المونتاج والإبقاء على ما تريده. ومن ثم، فإنّ العديد من التشويهات يعود إلى المخرجة.
وأمّا التقويم الذي تطالب به، عزيزي مالك، فلقد حصل عبر ساعاتٍ مطوَلةٍ من التصوير والتسجيل معي. ولكنّ المخرجة لم تعرضه.
ويا عزيزي مالك، ليس ماركس "هو الذي قاد الإضراب،" بل تجمّع اللجان العماليّة وعمّالُ المعمل، وبالذات يوسف الفليطي من عرسال، الذي ثار لكرامته ردًّا على إهانات شفيق غندور للعمّال. فقد قادهم الفليطي إلى خارج الباحة ــ ــ وهذا مذكور في الفيلم وفي مقالي. وأما بالنسبة إلى فهمنا للماركسيّة، وإلى "الإسقاطات" التي تشير إليها، فذلك حصل فعلًا، وهو لا يطاول التجربةَ العمّاليّةَ وحدها، بل مجملَ التجربة السياسيّة والنضاليّة أيضًا، وكلَّ ما يتعلّق بفهم المجتمع اللبنانيّ ومُعضلاته.
كما يمكن، بل يجب، قولُ الكثير عن الماركسيّة واللينينيّة وأخطائها الفكريّة والإيديولوجيّة، كي لا نصبح كالمسلمين القائلين: "الإسلام صحّ بس المسلمين ما عرفوا طبّقوه!"
ثم إنّك تظلم لجنةَ الإضراب حين تقول: "إنّ القارئ ليَعْجَبُ كيف فات الرفيقَ إجراءُ تقويم مماثل لأعضاء اللجنة العمّاليّة التي قادت الإضرابَ المذكور، وبعضُهم (لا كلُّهم طبعًا) بات أقربَ الى الليبراليّة الفكريّة، والتصرّفات الاستهلاكيّة، من تاريخه اليساريّ السابق."
عزيزي مالك، ليتكَ تسمّي لي بالاسم ماذا حلّ بأعضاء اللجنة، لأنني شخصيًّا لا أعرف ماذا حلّ بهم جميعًا. ولكنّي ألفت نظرَك إلى أنّ معظمهم لم ينخرطْ في عمل حزبيّ أو سياسيّ. ومَن استمرّ ممّن أعرفهم هم:
ــــ أحمد الشعلان، وكان عضوًا في منظّمة العمل الشيوعيّ، وغادرها عند مغادرته السكنَ في الشيّاح إلى بلدته العباسيّة. عاش حياتَه كادحًا، يعمل في تلبيس الحجر، وأحيانًا في الزراعة، ولم يلتحقْ بأحد.
ــــ وليم صادر، من بلدة مارون الراس، وكان حينها عضوًا في "بعث الراية،"وعاش أيضًا من عمله ولعائلته.
ــــ الرفيق راجي بحوث، ابن بلدة الحدث، وقد عمل قبل الحرب الأهليّة معي في معملٍ للقطن في منطقة دير يسوع الملك، وانقطعت الصلاتُ بيننا خلال الحرب، لنعود ونلتقي بعد الحرب الأهليّة. ولم يستمرّ في عمل سياسيّ أو شأن عامّ.
أما باقي أعضاء اللجنة، وهم نحو 10 أو 12 شخصًا، فقد عملوا في معامل متعددة وانقطعتْ أخبارُهم لاحقًا.
وأختم بالحديث عن تجربة منظّمة العمل الشيوعيّ، التي غادرتُها في العام 1993. من المؤكّد أنّنا ارتكبنا العديدَ من الأخطاء في تجربتنا العماليّة، لكنّ النضال النقابيّ والمطلبيّ والاجتماعيّ والديمقراطيّ هو الخيار الصحيح دائمًا. والخطأ الكبير لدى "المنظّمة،" وسائرِ أحزاب اليسار، كان انخراطَها في الحرب الأهليّة اللبنانيّة، متوهّمةً أنها ممرُّها إلى التغيير الديمقراطيّ. وبهذا المعنى تحدَّث محسن إبراهيم، في ذكرى أربعين جورج حاوي، عن خطأين كبيرين: توهُّم تحقيق التغيير الديمقراطيّ عبر الحرب الأهليّة، وتحميل الحركة الوطنيّة لبنانَ فوق طاقته من عبء الثورة الفلسطينيّة.
عزيزي مالك، أتمنى أن تتلقّى ردّي وملاحظاتي برحابة صدر، وآمل أن نلتقي عندما تزور البلد.
بيروت