من مفارقات الزمن العربيّ الجديد أن يعمدَ المعارضون تقليديًّا لعبد الناصر وللبعث (في صيغتيْه الصدّاميّة العراقيّة والممانعة السوريّة) إلى الضرب بسيفِ العروبة، متناسين أنّ ضرباتِ هذا السيف طاولتْهم، هم أنفسهم، في زمنٍ عربيٍّ أسبق.
في الماضي القريب كان بعضُ مَن يضربون بسيفِ العروبة اليومَ يواجهون عروبيّي الأمس بشتّى العقائدِ والمفاهيم. في دولِ الخليجِ العربيّ، مثلًا، كان الإسلامُ هو السرديّةَ الأبرزَ في مناهضة "القومجيّين"، الذين جَرَتْ مماهاتُهم أحيانًا بالعَلمانية والإلحاد (بتأثيرٍ من "اشتراكيّةِ" غالبيّةِ القوميين والأنظمةِ العربيّةِ المتحالفةِ مع المعسكرِ السوفييتيّ).
في مصر تصدّت للعروبة وللقوميّةِ العربيّةِ سرديّةٌ هويّاتيّةٌ بارزةٌ أخرى، هي الفرعونيّة، التي نظّر لها عشراتُ الكتّابِ المصريّين، ومنهم لويس عوض. ومع "انفتاحِ" مصرَ الساداتيّةِ على الغرب الرأسماليّ، وتوقيعِها معاهدةَ كمب دايفيد مع الكيان الصهيونيّ صيفَ العام 1978، اشتدَّ عداءُ بعضِ الأوساط المصريّةِ للعروبة، وتعالت الدعواتُ إلى حصر الاهتمام بمصرَ وحدها، بعد أن "أفنتْ" شبابَها واقتصادَها وخيراتِها طوال عقودٍ على مذبح فلسطين والعروبة والعربِ "الآخرين" (وكأنّ العدوانَ الثلاثيّ، الفرنسيّ ـــ البريطانيّ ـــ الإسرائيليّ، سنة 1956، على مصر، مثلًا، كان بسبب فلسطين والعرب "الآخرين"... فقط!).
وفي بلاد الشام وقفتْ في مواجهةِ العروبة سرديّاتٌ أخرى، لا تستندُ إلى الإسلام، أبرزُها النزعاتُ الفينيقيّةُ، واللبنانويّةُ، والقوميّةُ السوريّة (ولاسيّما في لحظةِ احتدامِ الصراع، في نهاية الخمسينيّات وبدايةِ الستينيّات، بين نظام عبد الناصر والحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ). بل وجدْنا بعضَ القوميين العرب أنفسهم وقد تماهوْا مع حضاراتِ ما قبل ظهورِ الإسلام وتشكُّلِ القوميّةِ العربيّةِ الحديثة، وخصوصًا أثناء الحرب العراقيّة ـــ الإيرانيّة، حين أُعلِيَ من شأنِ ملوكِ بابل على سبيل المثال.
وفي العقود الأربعةِ الأخيرة بشكلٍ خاصّ، ولاسيّما مع بدايات تضعضعِ المشروع القوميّ (عقب رحيل عبد الناصر سنة 1970) وهزيمةِ المقاومةِ الفلسطينيّة في بيروت (صيفَ العام 1982)، سادت الساحةَ العربيّةَ "هويّةُ المصلحة القطْريّة": لبنان أولًا، الأردنّ أولًا،... وصار كلُّ مَن يودُّ التقرّبَ من الولاياتِ المتحدة، أو الحصولَ على فتاتِ الاستثماراتِ الغربيّة، يلقي باللوْم على "العروبة" (وفلسطين). لقد تعمّمت الساداتيّةُ الانعزاليّةُ وتجذّرتْ، ولكنّها غُلّفتْ على امتداد العقود الأربعة المذكورة بسرديّةِ "الحداثة،" متمثِّلةً في الديمقراطيّة وحقوقِ الإنسان. الجديرُ ذكرُه أنّ التخلّي عن العروبة (وفلسطين) ترافق مع المزيد من الاستبداد وانتهاك حقوق الإنسان في الوطن العربيّ!
أمّا اليوم، ومع تفاقمِ الصراعِ في المنطقة ـــ على خلفيّة الحربِ في اليمن (وعليها)، والحربِ في سوريا (وعليها)، وإعدامِ الشيخ نمر النمر، وما نجم عنه من إحراق السفارة السعوديّة في طهران وتأزُّمِ العلاقاتِ الخليجيّة مع لبنان ـــ عاد مصطلحُ "العروبة" إلى البروز. لكنّ العروبة اليوم يريد لها البعضُ أن تنحصرَ في تعريفٍ واحدٍ لا غير، هو العداءُ لإيران ولسياستِها في المنطقة. وتَرافَقَ ذلك مع إثارةِ نزعاتٍ شوفينيّةٍ ومذهبيّة، ومع استحضارِ أحداثٍ تاريخيّةٍ، لا تمتُّ كثيرًا (أو قليلًا) إلى حقيقةِ الصراعِ الراهن؛ وهو صراعٌ سياسيٌّ واقتصاديٌّ في الأساس. وبات كلُّ مَن ليس ضدّ الإيرانيّين "الشعوبيّين الصفويّين المجوسِ الشيعة" (كي لا نذْكرَ ما هو أقبحُ من ذلك من نعوتٍ أخلاقيّةٍ وجنسيّة!)، وضدَّ حلفاءِ إيران، أمثال حزبِ الله والنظامِ السوريّ والحشدِ الشعبيِّ العراقيّ، ضدَّ العروبة نفسها، ويستوجِبُ العزلَ والنبذَ والعقابَ الصارم!
وفي المقابل لم تخلُ بعضُ الردود "القوميّة" من عنصريّةٍ وشوفينيّةٍ مقيتتيْن، بل من هجومٍ على العروبة نفسِها، وإلصاقِها بـ "قيم" الصحراء والتخلّفِ والاستنقاع. وكأنّ دولَ الخليج، بشعوبِها وأنظمتِها كلِّها، كتلةٌ واحدةٌ متراصّةٌ، ولا تزْخرُ بالمبدعين والمثقفين الوطنيين، بل بطليعةِ القوميين واليساريين والمناصرين لفلسطين أيضًا. وفي ذلك خان بعضُ "غلاةِ القوميّة" مفهومَ العروبةِ من أساسِه، حين حصروه في إقاليمَ معيّنةٍ، وحين غَلّبوا عليه الطابعَ المدينيَّ والمشرقيّ، وحين أغفلوا أهميّةَ بعضِ الخليجيين في معركةِ فلسطين نفسِها.
وبالمناسبة: هل يَعْلم هؤلاء الغلاةُ أنّ اثنين من أهمّ إنجازات مقاطعة العدوّ الإسرائيلي في الوطن العربيّ جاءا من منطقة الخليج؟ أمّا الإنجازُ الأوّل فهو من الكويت، حين ألغت بلديّةُ الكويت صيفَ العام 2014، وعلى أثر مناشدة اللجنة الوطنيّة للمقاطعة في فلسطين، عقدًا مع شركة "فيوليا" الفرنسيّة، لمعالجة النفايات الصلبة، بقيمة 750 مليون دولار، بسبب تورّط هذه الشركة في مشاريعَ إسرائيليّةٍ "تُخالفُ القانونَ الدوليّ،" بما في ذلك مشروعُ "ترام القدس" الذي يَربط المستعمراتِ الصهيونيّةَ بمدينة القدس.(1) وهل يَعْلم أولئك الغلاةُ أنّ السعوديّة نفسَها ألغت المرحلةَ الثانيةَ من عقدٍ ضخم، هو "مشروعُ سكّة الحرميْن،" مع شركة آلستوم، ويقدَّرُ بـ 10 بلايين دولار، بعد مناشدة حركة BDS (حركة مقاطعة إسرائيل وسحبِ الاستثمارات منها وفرضِ العقوبات عليها) بسبب عملها (أيْ آلستوم) في "ترام القدس" هي أيضًا؟(2)
على أنّ للصراع بأسْرِهِ خلفيّاتٍ وأبعادًا تتعدّى، أحيانًا، العقائدَ والسرديّاتِ الكُبرى والصُغرى، بل تتعدّى المصالحَ الإستراتيجيّةَ ذاتَها، لتطغى عليها مصالحُ بعض الأفراد فقط. ثمّة مِنْ هؤلاء مَن لا تهمُّه "العروبةُ" إلّا بمقدارِ ما تزيدُ أرباحَه، وتُراكِمُ ممتلكاتِه، وتقوّي مشاريعَه الاقتصاديّةَ (وبعضُها ذو طابعٍ ثقافيٍّ وأكاديميٍّ وتربويّ). وثمّة، في المقابل، مَن لا يهمُّه "الإسلامُ" ولا "المقاومةُ" إلّا للأسبابِ الشخصيّةِ عينِها، بل لا يتورّعُ عن التعاملِ التجاريّ مع الإسرائيليين في الخارج.
إنّ العروبة ليست، أو ينبغي ألّا تكون، دوغما ثابتةً، بل ينبغي أن تكونَ مشروعًا عمليًّا للحياة وللوجود، وللوقوفِ أمام التكتّلاتِ العالميّةِ الكبرى (التي قد لا يَجمع بين مكوّناتها إلّا أقلُّ بكثيرٍ ممّا يَجْمع بين العرب أنفسِهم، لغةً وتراثًا وحضارةً ومطامحَ وعدوًّا مشتركًا). العروبة مشروعٌ ينبغي ألّا ينحصرَ في مذهبٍ أو طائفةٍ أو أقلّيّةٍ قوميّةٍ تعيش في الوطن العربيّ، وينبغي ألّا ينحصرَ أيضًا في قطْرٍ معيّن، وإنْ قادَهُ في زمنٍ ما "إقليمٌ ـ قاعدةٌ" هو مصرُ الناصريّة. العروبة مشروعٌ ينبغي أن يَقْطع مع كلّ مشروعٍ إقليميٍّ يتحالفُ مع "إسرائيل" مثلًا، ومن ثمّ لا بدّ من أن يتقاطعَ مع أيّ مشروعٍ يعاديها. العروبة مشروعٌ لجمع العرب، وغيرِ العرب ممّن يعيشون وينتجون في الوطن العربيّ ويتزاوجون مع أبنائه وبناتِه، على أسسٍ ثقافيّةٍ واقتصاديّةٍ وسياسيّةٍ مشتركة، لا مشروعٌ لتفريقِهم بين مسلمين ومسيحيين وسنّةٍ وشيعةٍ ودروزٍ ومشارقةٍ ومغاربةٍ وعربٍ وكردٍ وأمازيغَ وأهلِ مدنٍ وأهلِ بادية...
هل العروبةُ في أزمة؟
بالتأكيد. وكيف لا تكون في أزمةٍ ما دام العربُ أنفسُهم في أزمة؟! غير أنّه لا خروجَ من الأزمة إلّا بتجديدِ الفكرة العربيّة، وبتفكيك الألغامِ المنصوبةِ في طريقها، وبالعمل على بناءِ اللبِناتِ الأولى لمشروعٍ سياسيٍّ اقتصاديّ اجتماعيّ ثقافيّ ديمقراطيّ يَلْحظ نقاطَ الصدام واللقاءِ مع المشاريع الإقليميّة والدوليّة الأخرى.
بيروت
1- http://www.maannews.net/Content.aspx?id=729927
2- http://bdsmovement.net/2011/alstom-loses-saudi-haramain-8253
طبعًا حركةُ المقاطعة تطالبُ دولَ الخليج، والدولَ العربيّةَ عامّةً، بأكثر من ذلك بكثير، إذ لا تزال أكثرُ الشركاتِ تورّطًا في الاحتلالِ الإسرائيليّ وانتهاكِ حقوقِ الشعب الفلسطينيّ، كشركة G4S، تكسب عقودًا مجزيةً منّا، حتى في موسم الحجّ.