أظهرتْ مقابلة أمين معلوف مع المحطّة الإسرائيليّة i24 (مقرُّها قرب مرفأ يافا)(1) جملةً من الردود، التي بيّنتْ أنّ مسألة التطبيع مع الكيان الصهيونيّ مازال يعتريها الالتباسُ (والتشويهُ أحيانًا). وهذه فرصة كي نحاول الخوضَ من جديد في جملةٍ من المبادئ، بعضُها معروفٌ للقرّاء، وبعضُها الآخر استدعتْه الردودُ المدافعةُ عن مقابلة معلوف أو المهاجِمةُ لأنصار مقاطعة "إسرائيل" في لبنان بشكلٍ خاصّ.
أوّلًا، الحوار مع الاحتلال أو الاستعمار. الاحتلال (أو الاستعمار) تواجهُه لغةٌ واحدةٌ، هي المقاومة، بأنواعها المتعدّدة. نعم، قد ينشأ نوعٌ من الحوار أو التفاوض مع الاستعمار أو الاحتلال في ظروفٍ معيّنة، ولكنّ الحوارَ المثمر يجري عادةً في خضمّ المقاومة، ولتحسينِ وضعِ المقاوم على الأرض، لا ليكون بديلًا من المقاومة. فكيف إذا كان الحوارُ يتمّ مع طرفٍ يَفُوقنا قوةً بدرجاتٍ كبيرةٍ، على مستوى التسليح والتمويل والدعمِ الرسميّ الخارجيّ؟ النتيجة ستكون فادحةً بالتأكيد، وهي ماثلةٌ أمامنا اليوم: حيث يبني العدوُّ المزيدَ من المستعمرات، ويقضم المزيدَ من القدس، ويقتل ويُحرق ويُمعن في التطهير العِرقيّ المتدحرج، ويضاعف خروقَه لـ"سيادة" مناطق السلطة الفلسطينيّة، في الوقت الذي "يتحاورُ" فيه مع رجال هذه السلطة، بل "ينسّق أمنيًّا" معهم أيضًا من أجل اعتقال المناضلين الفلسطينيين وإحباطِ المقاومة ــ كلِّ مقاومة.
الحوار مع العدوّ الأقوى في ظل شروطٍ غير متكافئة يعني المزيدَ من الخسارة للطرف الأضعف طبعًا ـــ وهذه من المسلَّمات التي لم نكن نظنّ أنها تحتاج إلى تكرار، أيًّا ما كان "ذكاءُ" المفاوضين و"براعتُهم." ولكنْ يبدو أنّ تمزّقَ الوضع العربيّ، وتشلُّعَ الأحزاب القوميّة العربيّة، وتراجُعَ عمل المقاومة الفلسطينيّة، قد دفعت المتعَبين والانتهازيين إلى الاستكانة إلى خطاب الحوار وأسلوبِ "التفاوض"– وهو أسلوبٌ أقربُ إلى الاستجداء في غياب عناصر القوة والضغط ـــ بديلًا من خطاب المقاومة وأسلوبِ المقاطعة.
استكانتُنا لها أسبابٌ، إذن، وهي ليست قدرًا، ولا هي مؤبّدةٌ. وإخفاقُنا، بعد 68 عامًا، في تحرير فلسطين لا يعودُ إلى فشل "فكرة المقاومة" في ذاتِها، وإنّما يعود إلى عواملَ أخرى، مِن بينها إخفاقَنا كفلسطينيّين وعرب في مراحلَ معيّنةٍ من تاريخنا، نعيش واحدةً منها . لكنْ، كما قال الشهيد غسّان كنفاني، "إذا كنّا مدافعين فاشلين عن القضيّة، فالأجدرُ بنا أن نغيّر المدافعين، لا أن نغيّرَالقضيّة."
وهنا علينا، كناشطين في مجال المقاطعة ـــ وهو شكلٌ من أشكال المقاومة الشعبيّة، وأهمُّ أشكال التضامن العالميّ الحاليّة مع حقوق الشعب الفلسطينيّ غيرِ القابلة للتصرّف ـــ ألّا نعفيَ أنفسَنا من المحاسبة، وأن نعملَ على تطوير أدائنا، ولو ضمن إمكاناتنا المتواضعة، كي يصبحَ خطابُ "مقاطعة العدوّ ومناهضةِ التطبيع" أكثرَ جذبًا وإقناعًا وتداولًا، بعيدًا عن التشنّج والإقصاء.
ثانيًا، الحوار و"الحقيقة."هذه النقطة على تماسّ مباشرٍ مع ما سبق، ومؤدّاها أنّ الحوارَ والتفاوضَ والنقاشَ ليست بالضرورة سبيلَنا إلى الحقيقة. مدارسُنا الحديثة، في غالبيّتها، تربّينا على مراعاة مختلف "وجهات النظر" قبل الحُكْم على الأمور. وهذا أمرٌ سليمٌ من الناحية التعليميّة. لكنّ الخلاصَ من الاحتلال والعنصريّة ليس من الأمور التي تحتمل وجهاتِ نظرٍ مختلفةً. وقضيّةُ فلسطين، بشكلٍ خاصّ، لا تحتمل إلّا سرديّةً واحدة، اسمُها: تحرير كامل فلسطين من الاحتلال والعنصريّة، وإنْ كنّا نشدّد على أنّ سُبُل المقاومة هي التي ينبغي أن تَقْبل النقدَ والسجالَ والتطويرَ بمقتضى المعايير العمليّة والأخلاقيّة.
المؤسف أنّ الفكر "الليبراليّ" (المزيّف) الذي يحضّ على معرفة "مختلف وجهات النظر" في أيّة مسألةٍ (لا من أجل فهم كافّة جوانبها بالضرورة، قبل الوصول إلى صياغة رأيٍ رصينٍ حولها، بل لغاية تحقيق "الموضوعيّة" التربويّة في ذاتها) قد ازداد سطوةً وانتشارًا بفضل الفضائيّات الخليجيّة، حتى كاد بعضُنا يَفقد القدرةَ على اتخاذ الموقف (الفِطْريّ) السليم من الاحتلال قبل أن يَستمع إلى الناطق بلسان الجيش الإسرائيليّ يحدّثنا (بالعربيّة) عن "وجهة نظر إسرائيل"... وكأنّ جيشَه هو المعتدَى عليه، أو كأنّ دولتَه تتساوى في المظلوميّة مع الشعبين الفلسطينيّ واللبنانيّ.
ثالثًا، الحوار ومعرفة العدوّ. معرفةُ العدو لا تستلزم، بالضرورة، "الحوارَ" معه. لقد ذكرنا، في غير مناسبة، أنّ في مقدورنا الاطّلاعَ على كثيرٍ من الأعمال الأدبيّة والسينمائيّة الإسرائيليّة من دون الاضطرار إلى التواصل مع الإسرائيليين، أو التعاملِ التجاريّ معهم، وذلك يتمّ عبر تحميل أعمالهم إلكترونيًّا. أمّا الصحافة الإسرائيليّة فتمتلئ الصحفُ العربيّةُ (جريدة السفير مثلًا) بمقالاتها، وهناك برامجُ تلفزيونيّةٌ عربيّةٌ خاصّة (على "الجديد" و"المنار" مثلًا) تعْرض تقاريرَ كاملةً عن المجتمع الإسرائيليّ منقولةً مباشرةً عن اللغة العبريّة.
ومع ذلك، فإنّ علينا، كعرب، أن نُمأسِس معرفتنا بالعدوّ، وأن نخصّصَ مساقاتٍ جامعيّةً عليا لتدريس إنتاجه على كلّ المستويات. وهذا يتطلّب وعيًا على مستوى إدارات الجامعات الوطنيّة العربيّة، وعلى مستوى الدول العربيّة (أعني، حين تصير لدينا دولٌ عربيّةٌ حقيقيّة، لا مجرّدُ أنظمةِ قمعٍ وفساد).
رابعًا، أسلحة المقاومة. أثناء مقاومة الاحتلال يَستخدم المقاومون أسلحةً متعدّدةً بحسب المكان والزمان. السلاحُ الحربيُّ أبرزُها، لكنّه قد لا يكون متوفّرًا هنا والآن؛ ناهيك بأنّ استخدامَه محصورٌ أساسًا بطليعةٍ شابّةٍ ومقدامة، ولا يَشمل الغالبيّةَ الساحقةَ من المجتمع.(2) من هذه الأسلحة: رفضُ التعامل الطوعيّ مع الاحتلال العسكريّ، ومع كافّة المؤسّسات التي أفرزها.
مقاطعةُ الاحتلال وإفرازاتِه، ومواجهةُ التطبيع معه، إذن، وسيلتان مكمّلتان للمقاومة المسلّحة، لا بديلتان منها. أمّا المعيارُ الأساسُ في اختيار الوسيلة الأجدى للمقاومة فهو معيارُ الزمان والمكان، على اعتبار أنّ كلتا الوسيلتيْن مشروعتان أخلاقيًّا وسياسيًّا (بل إنّ المقاومة العسكريّة نفسَها مشروعةٌ بموجب الأعراف الدوليّة إذا اقتصرتْ على "الأهداف القتاليّة"). وعليه، فحين تنعدم إمكانيّةُ المقاومة المسلّحة ضدّ العدو، كما في دول الشتات، فسيكون أساس المواجهة هو النضال من أجل عزلِ نظام الاستعمار برمتّه، من خلال المقاطعة ومواجهةِ التطبيع، ومن خلال الحربِ القانونيّة والدبلوماسيّة عليه. أمّا حين تتوفّر إمكانيّةُ العمل المسلّح، المدروسِ والإستراتيجيِّ والملتزمِ بالمعايير الوطنيّة والأخلاقيّة، فستكون المقاومة بالكفاح المسلّح بالتأكيد، لكنْ من دون إغفال أشكالِ المقاومةِ المدنيّةِ الأخرى، وعلى رأسها المقاطعة ومواجهةُ التطبيع.
خامسًا، وسائلُ الإعلام الإسرائيليّة والاحتلال. هذه الوسائل جزءٌ لا يتجزّأ من الاحتلال، بل قد لا تقلّ أهميّةً ـــ في بعض الحالات وخصوصًا في الخارج ـــ عن الجيشِ نفسِه، إذا اعتبرنا أنّ الاحتلال ليس عسكرًا فحسب، وإنّما هو "ثقافة" ودعايةٌ وإعلامٌ وفنٌّ وسياحةٌ واقتصادٌ أيضًا. وسائلُ إعلام العدوّ تطمس حقيقة الاحتلال، أو "تبيِّضُ" صفحتَه، لكنّها تفسح مع ذلك هامشًا ضئيلًا لـ"وجهات نظرٍ مخالفة،" دوليّةٍ وإسرائيليّةٍ وعربيّةٍ، بما يعزِّز من ديمقراطيّتها وانفتاحها الكاذبيْن.
لا جدالَ في أنّ بعضَ مَن تحدّثوا إلى هذه الوسائل، مِن أصحاب الرأي والشهرة في العالم، قد طَرَحَ عدالةَ المسألة الفلسطينيّة، وشَجَبَ الاحتلالَ والعنصريّة. لكنْ هل أفلحوا، على أهمّيّةِ ما طرحوه، في "شقّ" الوعي الصهيونيّ أو تصديعِه أو خرقِه، وهو وعيٌ أُتخِمَ على امتداد سبعة عقود بضخّ إعلاميّ صهيونيّ جبّار؟ ألم يُضرّ حضورُهم على وسائل الإعلام الإسرائيليّة بحملاتِ المقاطعة ـــ وبعضُها يواجِه سلطاتِ القمع العربيّةَ و"قوانينَها،" ويتصدّى للتطبيعِ المحمولِ على أجنحة مئاتِ المليارات من الريالات الخليجيّة، الموزّعةِ على المنابر الصحفيّة والمواقعِ الإلكترونيّة والفضائيّاتِ الضخمة؟ هل مقابلة الراحل الكبير إدوارد سعيد مع جريدةٍ إسرائيليّة (ناهيكم بمشروع "الديوان الشرقيّ ـ الغربيّ" الذي أسّسه مع الصهيونيّ "الناعم" دانييل بارينبويم)،(3) كانت في المحصّلة في مصلحة تحرير فلسطين وعودةِ اللاجئين وهزيمةِ الصهيونيّة؛ أمْ أنّها استُخدمتْ لـ"التمريك" على أنصارِ المقاطعة وللاستهانة بخطايا التطبيع؟ وحتى لو وضعنا المبدأ جانبًا، أفلا تفوق الخسارةُ الربحَ في هذه الحالة وشبيهاتِها، إنْ كنّا نقصد ربحَ القضيّة الفلسطينيّة وقضايانا العربيّة أو خسارتَها؟
قد يكون مفيدًا أن يُسمِعَ مثقفٌ تقدّميّ عالميّ جمهورَ الكيان الصهيونيّ، عبر الوسائل الإعلاميّة الإسرائيليّة، صوتَه المعادي "للنازيّة الإسرائيليّة الجديدة" (وإنْ كنتُ أفضّل المقاطعة العالميّة لهذه الوسائل). لكنْ ما معنى أن يقوم مثقفٌ عربيٌّ بذلك؟ أليس الموقف الطبيعيّ، الذي لا يحتاج إلى أدنى جزاءٍ أو شُكور، يقضي بأن يكون المواطنُ/المثقفُ العربيّ ضدّ الاحتلال والإجرام والتهجير؟ أيحتاج المثقفون العرب إلى إثبات ذلك عبر الحوار مع الإعلام الإسرائيليّ؟ أمْ أنّهم يعتقدون أنّ لديهم القدرةَ على تأليب الرأي العامّ الإسرائيليّ ضدّ قيادته؟(4)
الأسوأ أن يتبجّح بعضُ المثقفين العرب بمقابلاتهم اليتيمة مع وسائل الإعلام الصهيونيّة إلى حدّ اتّهام مناهضي التطبيع بالخشبيّة والانعزال والتخلّف، وكأنّ المواطنَ الإسرائيليّ "العاديّ" كان ينتظر أولئك المثقفين كي يَلْفتوا نظرَه إلى ما ترتكبه دولتُه منذ 68 عامًا في حقّ الشعب الفلسطينيّ والعربيّ، متناسين أنّ معظمَ الإسرائيليين والإسرائيليّات يخدمون في جيش الاحتلال لفترات طويلة (ضمن الخدمة الإلزاميّة)، وأنّهم يدركون تمامًا حقيقة الجرائم البشعة التي يرتكبونها في حقّ الشعب الفلسطينيّ يوميًّا.
والأسوأ أن يَدمج أولئك المثقفون العرب كلَّ أعداء الصهيونيّة في سلّةٍ واحدة، متعمّدين الخلطَ بين كافّة الاتجاهات الموجودة في لبنان والساحة العربيّة ضمن كتلةٍ واحدةٍ صمّاءَ "متحجّرة،" متجاهلين الفوارقَ والفويْرقاتِ بين مختلف أشكال العمل الوطنيّ والقوميّ، منزلقين إلى ما اتّهموا به خصومَهم: ممارسة المكارثيّة الفكريّة و"التشبيحِ" الفكريّ. إنّ حملة مقاطعة داعمي "إسرائيل" في لبنان، تحديدًا، لم تُصدِرْ، منذ تأسيسها سنة 2002، أيّ بيانٍ يتخطّى إطارَ مقاطعة "إسرائيل" وداعميها من المؤسّسات والفنّانين وغيرهم، ولم تُصْدرْ أيُّ موقفٍ داعمٍ للاستبداد في أيّ قطْرٍ من أقطار الوطن العربيّ، من المحيط إلى الخليج.
وبالمناسبة، ما هذا المنطق البائس الذي يلوكُه، مرةً بعد مرّة، الفسابكةُ المتذاكون الساخرون من المقاطعة ومناهضةِ التطبيع: كلّما تحدّثنا عن المقاطعة، أو أبرزْنا نجاحًا حققتْه في لبنان أو الأردنّ أو المغرب أو مصر أو النروج أو الولاياتِ المتحدة...، ردّوا علينا: "وشو بخصوص براميل بشّار؟ وشو بخصوص الدبّابة الّي رجّعها بوتين لنتنياهو؟" أيتوهّمون أنّهم، بـ"الحرتقة" على أنصار مقاطعة العدوّ الإسرائيليّ، سيَهزمون الاستبدادَ وداعميه؟
سادسًا، المقاطعة والاعتذار. أن يَطلبَ أنصارُ المقاطعة من أمين معلوف أو غيرِه أن يعتذرَ عن خطوةٍ ما، فذلك ليس أمرًا مَعيبًا لأيٍّ من الطرفين. فعشراتٌ من الفنّانين والعلماء في العالم لم يكونوا يَعْلمون تفاصيلَ ما ترتكبُه "إسرائيل" من انتهاكٍ للقانون الدوليّ بشكلٍ خاصّ، أو أنّهم غضّوا النظرَ عنها في البداية، فلبّوا دعوتَها إلى مهرجانٍ أو تكريمٍ عند أوّلِ اتصال، ثم تراجعوا عن ذلك حين اتّصلت بهم حركةُ المقاطعة العالميّة. العالِم العظيم ستيفان هوكينغ، مثلًا، كان قد وافق قبل أعوامٍ على حضور مؤتمرٍ رئاسيٍّ في الكيان الصهيونيّ، ثم تراجع بعد رسائلَ وجّهتْها إليه الحركةُ وأكاديميّون مؤيِّدون لها.(5) المؤرِّخة النسويّة البريطانيّة كاثرين هول سَحبتْ موافقتَها على تسلّم جائزةٍ من جامعة تل أبيب بعد أن تحدّثتْ إلى عدد من الأشخاص "الضليعين في السياسة هناك" (ومِن بينهم أفرادٌ من حركة المقاطعة العالميّة في بريطانيا).(6) بل إنّ أحدَ الكتّاب اللبنانيين المؤيّدين للمقاومة (فيصل جلّول) اعتذر للملأ، قبل سنوات، عن إجرائه مقابلةً مع المحطّة الإسرائيليّة نفسِها التي أجرت اللقاءَ مع معلوف قبل أسابيع، لأنّه لم يكن يَعْلم هويّتها.
الأرجح (بل المؤكّد) أنّ معلوف كان يَعْلم هويّة المحطّة. لكنّ مطالبتَه بالاعتذار لن تضرَّنا في أيّ حال، بل قد تَفسح أمامه فرصةً للتراجع أمام ضغط أنصار المقاطعة، وستُظْهر هؤلاء قادرين على استيعاب "الخروق" العربيّة كما فعلوا مع الفنّانين الأجانب. ولنتذكّر أنّ هدفَنا، في النهاية، هو وقفُ التطبيع مع العدوّ، لا تمريغُ أنف أحدٍ بالمهانة إذا تراجَعَ عن فعلته .
سابعًا، المقاطعة والجنسيّة. كثر الحديثُ بعد مقابلة معلوف عن وجوب ألّا تطاول معاييرُ المقاطعة أصحابَ الجنسيّات المزدوجة. وقال البعض إنّ معلوف يمتلك جنسيّةً فرنسيّة، وانْ لا معنى في هذه الحالة لمساءلته عن تعامله مع وسيلة إعلامٍ إسرائيليّة.
المقاطعة ليست محصورةً بالعرب؛ على العكس: هناك مواطنون في العالم يَرفضون أيَّ علاقةٍ بالكيان الصهيونيّ، إعلامًا وتكريمًا ومشاركةً، كما سبق الذكْر. غير أنّ معلوف مواطنٌ لبنانيٌّ في الأصل. وفي العام 2013 قلّده رئيسُ الجمهوريّة ميشال سليمان "وسامَ الأرز الوطنيّ من رتبة الوشاح الأكبر،" وهو أرفعُ وسامٍ وطنيّ لبنانيّ، و"أعلن عن طابعٍ بريديٍّ يصدر قريبًا يحمل صورةَ معلوف تكريمًا له ولعطاءاته."(7) ونال معلوف جائزةَ الشيخ زايد للكِتاب (شخصيّة العام الثقافيّة، 2016). ونُشرتْ كتبُه في دُور نشرٍ لبنانيّة ـــ إحداها (دار الفارابي) نَشرتْ له 14 كتابًا حتى الآن في حدّ علمنا، (8) وهي معروفة بمواقفها الجذريّة من العدوّ الإسرائيليّ، وبمناصرتها تحديدًا لجبهة المقاومة الوطنيّة اللبنانيّة. فكيف لا نعاملُه كلبنانيّ وكعربيّ، على الرغم من جنسيّتة الفرنسيّة المستجدّة؟
ثم إنّ "إسرائيل" تحرص كلَّ الحرص على ظهور بعض العرب على وسائل إعلامها أيًّا كانت مواقفُهم، كما أسلفنا، لأنّ ذلك يشرعِن "انفتاحَها" المزيّف على "جيرانها" العرب (لاحظوا، مثلًا، تركيزَ مقدّمة البرنامج في المحطّة الإسرائيليّة على أنّ معلوف "فرانكو ـــ ليبانيه،" لا فرنسيّ فقط). فلماذا نعطي عدوّنا هذا الشرفَ الذي لا يستحقّه؟ لماذا يتطوّعُ عربيٌّ أو عربيٌّ/فرنسيٌّ لمساعدة العدوّ على تظهير نفسه جارًا مسالمًا ومنفتحًا وليبراليًّا، في حين أنّه لا ينفكُّ يحتلّ أرضَ فلسطين ويَقتل "جيرانَه" ويغزو أرضَهم منذ عقود؟
ثامنًا، المقاطعة والاستثناء. هناك حالاتٌ من التعامل مع المحتلّ لا يصحُّ وصفُها بـ"التطبيع الثقافيّ" بسبب حصولها في أماكنَ يُجبَرُ المرءُ فيها على ذلك التعامل. فمثلًا يَصْعب أن تطالبَ مانديلّا بألّا ينخرطَ في كليّة القانون في جامعة واترستاند، أحدِ أشهرِ معاقلِ التمييز العنصريّ في جوهانسبورغ، لأنّه في هذه الحال قد يَخْسر فرصة التعليم الوحيدة المتوفّرة أمام بني جلدتِه، ومن ثمّ سيخسرُ المناضلون ضدّ التمييز العنصريّ صوتًا لامعًا إلى جانبهم. كما أنّك لا تستطيعُ أن تطلب إلى أستاذٍ عربيٍّ في جامعة في بوسطن، مثلًا، أن يرفضَ تصحيحَ ورقةَ طالبه الإسرائيليّ (الأرجح أنّ هذا الطالب خدم سنةً أو أكثر في "جيش الدفاع" بالمناسبة)؛ فهذه علاقةٌ قسريّة، لا يترتّب عليها واجبٌ أخلاقيٌّ في الأغلب. ولكنّك تستطيع، بل عليكَ، أن تلومَ هذا الأستاذَ إذا أجرى مقابلةً مع محطّةٍ أو جريدةٍ إسرائيليّة، أو حضر مؤتمرًا تموّله السفارةُ الإسرائيليّة؛ فهنا نحن إزاء علاقاتٍ طوعيّةٍ تُولِّد مسؤوليّةً أخلاقيّةً، على ما تحاجج حركةُ المقاطعة BDS في معاييرها للمقاطعة ومناهضةِ التطبيع.(9)
***
لن تستطيع السطورُ السابقة أن تستنفدَ كلَّ ما حملته الأيّامُ الماضيةُ من مواقف حول التطبيع والمقاطعة. المهمّ أنّ الموضوع حيّ، ومحطُّ نقاشٍ صاخب. والأهمّ أنّ مسؤوليّتنا، كأنصار مقاطعة، وكناشطين ضدّ التطبيع، ستتضاعف. فعلينا أن نحضِّرَ أنفسَنا للأيّام القادمة، وأن نشبّكَ جهودَنا في مواقعنا كافّةً، عربيًّا وعالميًّا، وأن نخوضَ معاركنا الجديدة ضدّ الصهيونيّة وداعميها، متسلّحين بالجرأةِ وهدوءِ الأعصاب والمعرفةِ وحبِّ فلسطين.
بيروت
1- http://www.al-akhbar.com/node/259303
2- http://boycottcampaign.com/index.php/ar/wathika#w22
3- http://www.al-akhbar.com/node/63194
4- قد يكون مفيدًا هنا ذكرُ موقف الحركة العالميّة للمقاطعة (BDS) من الحوار مع وسائل الإعلام الإسرائيليّة، وهو أقربُ بكثير إلى الموقف الذي تتبنّاه مقالتي هنا من الموقف الذي تزعم بعضُ الأقلام العربيّة أنّه موقفُ الحركة. هذا ما كتبتْه "الحملةُ الفلسطينيّة للمقاطعة الأكاديميّة والثقافيّة لإسرائيل" مؤخّرًا، أترجمُه حرفيًّا عن الإنكليزيّة:
"على الرغم من أنّ BDS لم تدعُ إلى مقاطعة الإعلام الإسرائيليّ المتواطئ (الاستشهادُ به واستخدامُ المعلومات التي يوردُها، مثلًا، لا يقعان بكلّ تأكيدٍ ضمن نطاق الحملة)، فإنّها ترى أنّ المقابلات التي تعطيها الشخصيّاتُ الثقافيّة العربيّةُ إلى الإعلام الإسرائيليّ المتواطئ تسبّب ضررًا يفوق الفائدةَ، بغضّ النظر عن النوايا.
إنّ حركة BDS لم توصّفْ هذه المقابلات عملًا من أعمال التطبيع، لكنّنا نصحْنا بتحليلها على أساس المنفعة ــــ الضرر بما يتماشى مع المبادئ العامة لـ BDS.
بعضُ المثقفين العرب الذين يوافقون على إعطاء مقابلاتٍ لوسائل الإعلام الإسرائيليّة المتواطئة يبرّرون ذلك بأنّه محاولة لـ "تغذية الانشقاق الداخليّ [الإسرائيليّ]" و"الاشتباك" مع الذهنيّة الإسرائيليّة بطرح أفكارٍ "ثوريّةٍ" في شأن حقوق الفلسطينيين. لكنْ، في حين أنّ النيّة قد تكون نبيلةً، فإنّ الحقيقة على الأرض تُظهر أنّ محاولاتهم غيرُ حكيمة، وفي غير مكانها، وغالبًا ما تكون مضرّةً لنضالنا غير العنفيّ من أجل حقوقنا.
إنّ إعطاء مقابلاتٍ لوسائل إعلام إسرائيليّة، تنتمي إلى الخطّ السائد، ومنحازةٍ بشكل كبير، وعنصريّةٍ واستعماريةٍ بشكلٍ عميق، تعطي تلك الوسائلَ، عن غير قصد، طابعَ الشرعيّة الفلسطينيّ/العربيّ التي تثبّت مزاعمَها "الليبراليّة" الزائفة. وهذا بدوره يضفي صدقيّةً على تغطيتها المهيمنة، التي تبقى منحازةً وغيرَ مهنيّةٍ وعنصريّةً. إنّ ذلك لثمنٌ كبيرٌ، على المثقفين الفلسطينيين والعرب أن يدفعوه، وعلى هذا الثمن أن يوازَى [يقارَن] بأيّة مكاسبَ يمكن أن تُجْنى. ولقد تبيّن على الدوام أنّ المكاسب النظريّة بائسة، في أحسن الأحوال، في إثارة "الانشقاق الداخليّ [الإسرائيليّ]."
5- https://www.theguardian.com/science/political-science/2013/may/13/stephen-hawking-boycott-israel-science
6- http://www.haaretz.com/israel-news/1.720909
7- http://www.nna-leb.gov.lb/ar/show-news/62968/nna-leb.gov.lb/ar
8- http://dar-alfarabi.com/authors/%D8%A7%D9%85%D9%8A%D9%86-%D9%85%D8%B9%D9%84%D9%88%D9%81/
9- راجع مثلًا: http://www.pacbi.org/atemplate.php?id=385