الإضراب عن الطعام: الصراع من أجل الهويّة الوطنيّة المقاوِمة وتجاوزِ الانقسام (ملفّ)
20-05-2017

 

ليس جديدًا أن يخوضَ الأسرى الفلسطينيون إضرابًا مفتوحًا عن الطعام يَقترب ــــ حتّى لحظة نشر هذا المقال ــــ من يومه الرابع والثلاثين؛ فالإضرابات عن الطعام شكّلتِ الأداةَ المركزيّة التي استخدمها الأسرى في صراعهم المديد مع الاحتلال، ممثَّلًا في إدارات السجون. إذ حين تُغلق كلُّ أبواب التفاوض لتحسين الظروف اللاإنسانيّة المفروضة عليهم، تصبح أمعاءؤهم الخاويةُ أداةَ مقاومتهم المركزيّةَ.

يتميّز الإضرابُ الحاليّ في كونه الإضرابَ شبهَ الجماعيّ الأوّلَ منذ العام 2004. وهو يأتي بعد أربعةٍ وعشرين عامًا على توقيع اتفاقيّات أوسلو؛ وإنّها لأعوامٌ عُبِثَ فيها بوحدة المقاومة مع الاحتلال، وتمّ "كَيُّ الوعي الفلسطينيّ" أثناءها (بحسب تعبير الأسير، منذ أكثر من ثلاثين عامًا، وليد دقة). فعاشت الساحةُ الفلسطينيّةُ سنواتٍ عجافًا من تراجع الفعل المقاوِم، تُوِّج بانقسامٍ بين الضفّة وغزّة، وبسلطتيْن تتنافسان على دولةٍ وحكومةٍ ومناصبَ... وهميّةٍ وكرتونيّة.

تاريخيًّا، كانت العلاقةُ تكامليّةً بين الحركة الوطنيّة داخل الأسْر وخارجه، بل شكّلتْ نضالاتُ الحركة الأسيرة رأسَ حربةٍ لتصعيد النضال ضدّ الاحتلال. غير أنّ أوسلو انعكستْ سلبًا عليها؛ فشهدْنا ترهّلًا في الحركة الأسيرة، كان أحدَ مؤشِّراته فشلُ إضراب العام 2004، وهو آخرُ إضرابٍ خاضته الحركةُ الأسيرةُ مجتمعةً قبل اليوم. وفيه، مورستْ كلُّ أنواع المساومات على الأسرى، من السلطة الفلسطينيّة ومن الاحتلال، مجتمعيْن حينًا ومتفرّقيْن حينًا آخر.

أمّا المؤشِّرُ الآخر على ترهّل الحركة الأسيرة، فكان التحوّل إلى الإضراب الفرديّ في العامين الماضييْن، ضدّ سياسات الاعتقال الاداريّ. لكنْ، إذا شكّل الإضرابُ الفرديّ بديلًا من غياب الفعل الجماعيّ، فإنّه حافظ على كونه رافعةً لاستنهاض الشارع الفلسطينيّ من أجل الالتفاف حول الأسرى جميعًا؛ كما كان أداةَ مراكمةٍ نضاليّة، أدّتِ اليوم إلى إضراب أكثر من ألف أسير فلسطينيّ، في فعلٍ وطنيّ عامّ، يعيد الى الذاكرة تاريخَ نضالات الحركة الأسيرة الموحّدة من أجل فرض ظروف أكثر إنسانيّة.

***

من المبكّر الغوصُ في التحليلات، ناهيكم باستخلاص الدروس، من إضرابٍ لم ينتهِ بعدُ، ولم يُتوّجْ بالنصر بعدُ كما نأمل. إلّا أنّه من المهمّ المرور بجردةٍ سريعةٍ لأبرز المظاهر المصاحبة لهذا الإضراب.

أوّلًا، عنوان الإضراب المعلَن مطلبيّ، يهدف إلى تحسين الظروف المعيشيّة للأسرى. ومع ذلك، فإنّ كلَّ ما يحيطه يجعله إضرابًا سياسيًّا بامتياز، خصوصًا أنّه أوّلُ إضرابٍ يخوضه مروان البرغوثي وإخوتُه من حركة فتح منذ العام 2004.(1) فالحقّ أنّ مشاركة هؤلاء اليوم في الإضراب تثير جدلًا واسعًا في الشارع الفلسطينيّ، وتعكس الصراعَ الداخليَّ بين السلطة الفلسطينيّة من جهة وحزبِها (حركة فتح) من جهة ثانية. وهو صراعٌ انعكس في المشاركة البائسة لقيادة "فتح" (ولا سيّما أعضاء لجنتها المركزيّة) في خِيَم التضامن، وفي الشارع، وفي نقاط الاشتباك مع الاحتلال. كما انعكس هذا الصراعُ في محاولات السلطة الحثيثة، وعبر قناة "التنسيق الأمنيّ" مع الاحتلال، إيجادَ "حلٍّ" للإضراب... لا من باب التخفيف عن الأسرى المضربين ونصرتهم، بل لتقدير السلطة أنّ الأمور "الأمنيّة" قد تفلت من الأيدي إنْ واصلت الجماهيرُ وأهالي الأسرى الاشتباكَ مع الاحتلال ــــ وهو ما بدأ يتصاعد تدريجيًّا في الأسبوع الأخير.

وبكلمة، فإنّ هذا الإضراب كشف عمقَ الانقسام الفلسطينيّ عموديًّا وأفقيًّا، في الجغرافيا والتنظيمات والسياسة، وداخل الأسْر وخارجه.

ثانيًا، شهد الشارعُ الفلسطينيّ اتّساعَ رقعة المساندة للإضراب. فانتشرتْ خِيمُ الإسناد، وفيها أهالي الأسرى. وقد حاولت السلطةُ الإبقاءَ على الخيمِ أداةً لكبح أيّ تصعيد في الشارع، وهدفتْ إلى تحويلها إلى حيّزٍ مغلقٍ ومحدودٍ للتضامن. وهذا التوجّه شكّل مصدرَ تجاذب بين أهالي الأسرى والجماهير المساندة من جهة، وبين السلطة وأذرعِها من جهةٍ أخرى. وأمام الضغط، كان لزامًا على اللجنة الوطنيّة المسانِدة للإضراب الخضوعُ لرغبةِ الشارع في التصعيد، فتحوّلت الخِيَم من عنوانٍ للإسناد إلى عنوانٍ للانطلاق نحو نقاط المواجهة؛ وكأنّنا بتنا أمام شعار: "الخيمُ من ورائنا، ونقاطُ الاشتباك والميدانُ كلُّه أمامنا!"

ثالثًا، كشف هذا الإضرابُ أنّ الأسرى ما زالوا عنوانًا جامعًا وموحِّدًا لإرادة الفعل المقاوم، رغم الترهّل والتراجع الفلسطينييْن. وهذا ما جسّده انضمامُ قادة الفصائل، قبل قواعدهم، إلى الإضراب: من الجبهة الشعبيّة وأمينِها العامّ، ومن "حماس،" و"الجهاد،" وتنظيماتٍ أخرى. وهي خطوة رمزيّة لتجاوز الانقسام الداخليّ أمام العدوّ الخارجيّ ــــ الاحتلال.

الإضراب عن الطعام: العنوان الأبرز في المقاومة المستمرّة

شكّل الإضرابُ عن الطعام إحدى أهمّ أدوات تحسين ظروف معيشة الأسرى. لكنّ الأهمّ هو أنّه كان تعبيرًا عن استمرار الصراع من أجل تعزيز الهويّة الوطنيّة، التي تحتدم في الأسر، حيث المستعمِرُ والمُستعمَرُ في مواجهةٍ مباشرةٍ ومستمرّةٍ على مدار الساعة.

يؤكّد بعضُ الأسرى، في كتاب جماعيّ بعنوان السجنُ ليس لنا،(2) أنّ "السجن، أيَّ سجن، لم يكن منذ نشأ، وعلى مدى العصور، سوى أداةِ قمعٍ وقهرٍ وتعطيل"؛ وأنّ السجن:

"لم يمثّلْ، في يوم من الأيّام، أداةً لتطبيق العدالة المجرّدة، بل مثّل الأداةَ التي استخدمتها الصهيونيّةُ لقمع، ومواصلة قمع، مقاومةِ الشعب الفلسطينيّ المحروم من الحقوق الإنسانيّة الأوّليّة، بعد أن نَزعتْ منه روحَه ومصدرَ قوّته وعنوانَ وجوده، [أيْ] أرضَه، ونَفَتْه، ليتيهَ في عالم الشقاء، أو ليقبعَ في الأرض مكبَّلًا بقيود احتلال بغيض." (ص 20)

هذا ويربط الأسرى، بقوّة، بين السجن والرؤيةِ الصهيونيّةِ لفلسطين والفلسطينيين، بحسب القاعدة الصهيونيّة المشهورة: فلسطين "أرضٌ بلا شعب لشعبٍ بلا أرض." وعليه، فإنّهم يَعتبرون أنّ للسجون وظيفةً ممنهجةً وأساسيّة، هي إبادةُ الشعب الفلسطينيّ. وهنا تتجلّى علاقةُ الأسرى بالمكوِّن الوطنيّ للهويّة، وارتباطُهم بالصراع القائم على الأرض؛ ومن ثمّ إصرارُهم على تعريف أنفسهم بـ"الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال الصهيونيّ."

بهذا الإدراك، يتعامل الأسرى الفلسطينيون مع السجن، لا كمقبرةٍ، على ما شاءها السجّان، وإنّما كمدْرسةٍ ثوريّة، وكموقعٍ نضاليٍّ متقدّم، هدفُهما الأساسُ: الحفاظُ على الهويّة، وإدارةُ الصراع، بما يعزِّز الرؤيةَ الوطنيّةَ في المقاومة من أجل الحريّة.

لقد مارستْ إداراتُ السجون، منذ اليوم الأوّل لاحتلال كلّ فلسطين بعد سنة 1967، سياسةَ القمع الممنهج، محاولةً قهرَ الأسير الفلسطينيّ، تمهيدًا لإخضاعه وطنيًّا وإنسانيًّا. واتّبعتْ في سبيل ذلك سلسلةً من السياسات، نذكر منها: سياسةَ الاستنزاف العصبيّ المرهِق، وسياسةَ التجويع النفسيّ والمادّيّ، وسياسةَ الحرمان من ضرورات الحياة الأساسيّة، وسياسة التشويه الوطنيّ، مرورًا بسياسات التجهيل الثقافيّ. وهذا غيضٌ من فيض هذه السياسات التي، على مرّ الزمن، تطوّرتْ، وتفرّعت عنها سياساتٌ جديدة.

 

لماذا الإضراب عن الطعام: معركة الأمعاء الخاوية

لا يزال الإضراب عن الطعام وسيلةً للعمل على تغيير علاقات القوّة بين الحركة الأسيرة الفلسطينيّة وإدارة السجون. ولئن كانت تجربةُ السنوات الأولى قاسيةً، بل قبِل الأسرى الأمرَ الواقعَ أحيانًا، فإنّ التجربة الطويلة أفرزتْ لدى الحركة الأسيرة وعيًا وطنيًّا صلبًا وشاملًا، فابتكرتْ أساليب عدّةً للمواجهة.

كانت العناوين الأساسيّة، منذ الإضراب الأوّل، مطلبيّةً تختصّ بظروف الحياة في السجن. لكنّ الأسرى أضربوا عن الطعام في مناسبات وطنيّة كثيرة، مثل التوقيع على كامب ديفيد، وإضراب شركة كهرباء القدس (1980)، وتضامنًا مع المطران كبوشي. وكانت هناك عناوينُ للإضراب السياسيّ ثابتة، كما في مناسبات الخامس عشر من أيّار (النكبة)، ووعد بلفور، ويوم الأسير.

تخبرنا الأسيرةُ المحرَّرة عائشة عودة عن إضراب ذكرى النكبة: "أرادوا رفعَ علمهم على قِسمنا، وأن يحتفلوا بذكرى نكبتنا. وأبيْنا أن يُرفع علمُهم حتّى لو سقطتْ منّا شهيدات. لقد تحدّيناهم ورفضنا احتفالَهم وزينتَهم وطعامَهم، واكتفينا بالماء والخبز تحدّيًا لهم، فأصبح ذلك تقليدًا في ذكرى النكبة، ثمّ تحوّل إلى يوم إضراب."(3)

وتراكمتْ إنجازاتُ الأسرى، لا على صعيد تحسين ظروف الاعتقال فحسب، بل على مستوى فرض الشخصيّة الوطنيّة للحركة الأسيرة أيضًا. وتمثّلتْ هذه الإنجازات في فرض الأسرى قواعدَ حياتهم الداخليّة وفق ترتيبهم التنظيميّ والوطنيّ، وفي رضوخ إدارة السجون للتعامل معهم عبر ممثّليهم في لجنة الحوار (التي يرأسها معتقل)؛ وهذا تعبيرٌ عن قوّة وندّيّة في الصراع مع الاحتلال، على الرغم من أنّ من يمتلك مفتاحَ السجن هو الاحتلال!

أخيرًا، كانت الإضرابات ــــ وما زالت ــــ معركةً سياسيّةً وطنيّةً بامتياز؛ فهي صراع مباشر ومفتوح مع الاحتلال، والشكلُ الأكثرُ حدّةً في أقسى الظروف المعادية، والمدخلُ الأبرز لبلورة الهويّة. ويأتي هذا الإضراب الأخير في حاضر الانكسار، وتراجُعِ المقاومة الفلسطينيّة، ليشكّل حلقةَ وصلٍ لتاريخ المقاومة في الأسر مع هذا الحاضر، في محاولة للاستنهاض العامّ. ويبقى شعارُ الأسرى مرفوعًا: "النصر أو الشهادة. وأمّا النصر فصبر ساعة."

فلسطين المحتلّة

(1) امتنعتْ "حركة فتح" عن المشاركة في إضراب العامين 2011 و2012، وذلك حين خاضت مجموعةٌ من الأسرى، من الجبهة الشعبيّة و"حماس" وحركة الجهاد الإسلاميّ، إضرابًا لكسر عزل مجموعة من القيادات ــــ ومنهم الأمين العامّ للجبهة الشعبيّة أحمد سعدات، ورفيقه عاهد أبو غلمه، وعبد الله البرغوثي، وعبّاس السيّد، من الصف القياديّ الأوّل لـ"حماس" في السجون.

(2) السجن ليس لنا: كتابٌ عن فلسفة الحياة الاعتقاليّة، وعمليّة الصراع مع إدارة السجون الصهيونيّة. قامت بصياغته مجموعةٌ من الأسرى، من منظّمة الشهيد إسحاق مراغة، التابعة للجبهة الشعبيّة، في سجن نفحة الصحراويّ، وجرى تهريبُه وإعدادُ نسخته النهائيّة وإصدارُها في منتصف الثمانينيّات في القدس المحتلّة.

(3) عائشة عودة: مقابلة أجريتْ معها بتاريخ 23/4/2014، وجرى تسجيلُها بالصوت والصورة لغرض دراسةٍ عن الأسرى والهويّة الوطنيّة.

رلى أبو دحو

أسيرة محرّرة، قضت تسعَ سنوات في سجون الاحتلال. خاضت العشرات من الإضرابات عن الطعام مع الحركة الفلسطينيّة الأسيرة، أهمُّها: الإضراب التاريخيّ والمفصليّ عام 1992. تعمل حاليًّا محاضرةً وباحثةً في معهد دراسات المرأة في جامعة بيرزيت، فلسطين المحتلّة.