تعاني ركيزتَا اليسار اللبنانيّ الرئيستان، أي الحركة النقابيّة والحركة الطلّابّية، ضعفًا وتهميشًا وتطييفًا. ومع تطوّر أزمة النفايات، ملأت فراغَ هذا اليسار مجموعةُ "طلعتْ ريحتكم،" التي يقودها شبابٌ يعمل معظمُهم، أو عمل يومًا، في منظّمات المجتمع المدنيّ، فاستفادوا من خبرات مهمّةٍ، ولاسيّما في مجال تقنيّات المناصرة عبر وسائل التواصل الاجتماعيّ. ولأنّ حراكًا بهذا الحجم يتطلّب روافدَ سياسيّة وشعبيّة ونقابيّة وثقافيّة لا تستطيع تلك المجموعة وغيرها أن توجده، فقد كان ذلك مؤشّرًا منذ البداية على عجز الحراك عن تحقيق أهدافه.
يعود فشلُ الحراك في رأيي إلى الأسباب التالية:
ـ غياب الرؤية والبرنامج: إنّ مشاكل النفايات والكهرباء والمياه والبُنى التحتيّة والخدمات العامّة في لبنان هي من نتائج النظام السياسيّ، المرتكز على الفساد والمحاصصة الطائفيّة. وعوضًا من اختزال المعركة بمسائلَ تقنيّة ــــــ علميّة ــــــ بيئيّة للتخلّص من أزمة النفايات، كان يجب التفكيرُ بعلاج علّة هذا النظام، وبالوسائل والأدوات المناسبة، وأن يكون هذا التفكير من صلب أهداف الحراك. ومع توضّح هذه الرؤية، كان يمكن أن يوضعَ لتنفيذها برنامجٌ متدرّجٌ يأخذ بأهداف الحراك على المديات القصير والمتوسّط والبعيد. إنّ مئات ملفّات الفساد، من مرحلة ما بعد الطائف على الاقّل، بالإضافة إلى عشرات مشاريع القوانين المتعلّقة بمكافحة الفساد وتعزيز الشفافيّة واستقلاليّة القضاء، والعديد من الإصلاحات المنصوص عليها في اتّفاق الطائف، كان يمكن أن تشكّل حدًّا أدنى من برنامجٍ يطرحه الحراك. لكنّ ذلك لم يحدث للأسف، ولم نستطع الحفاظَ على جمهور 29 آب [تاريخ أكبر تظاهرة]، فضيّعْنا فرصة ذهبيّة للبدء بالتغيير.
ـ غياب برنامج العمل: مع غياب رؤية واضحة للحراك، لم يمكن طرحُ برنامج عملٍ واضحٍ يشرح للناس أساليبَ المواجهة وظروفَ استخدامها. في المقابل، جنّد النظامُ من أجل محاربتنا كلَّ طاقاته، ولا سيّما الماكينة الإعلاميّة. فقد عمد إعلامُه المرئيّ والمسموع والمكتوب ـــــــــــ في أوقات مختلفة من عمر الحراك ــــــــــــ إلى تشويه سمعة بعض الناشطين، والتعاطي بسلبيّة مع بعض أحداث الحراك، وتضخيمِ صورة "العنف،" واتّهامنا بأنّنا شلّة من الغوغائيين. أضف إلى ذلك أنّ النظام أطلق ماكينة الدعاية الماليّة ـــــــــــــ البورجوزايّة، التي جسّدها التصريح الشهير لنقولا الشمّاس في الهزء من الأسواق الشعبيّة.
كان ينبغي علينا حينها أن نردّ بهجوم مضادّ، مستفيدين من برنامج عمل (كان يُفترض أن نبلوره)، وأن ننقل الحراك المطلبيّ إلى مختلف المناطق اللبنانيّة. وكان علينا أيضًا تعبئة جميع المتضررين من النظام ـــــــــ وما أكثرهم ــــــــــ وسط الفئات الاجتماعيّة المهمّشة. إلّا أنّ هذا كلّه لم يحدث، لأنّ البرنامج لم يتبلور في الأصل.
ـ غياب التنظيم أو حدِّه الأدنى: لم يكن تعدّدُ المجموعات هو المشكلة كما روّج البعض؛ فالتنوّع ضروريّ لجاذبيّة الحراك الشعبيّ، ولتطوّر أفقه الديمقراطيّ. لكنْ، لا يمكن أن تتطوّر أيُّ حركة بمعزل عن تنظيم، ولذلك وُجدت النظمُ الداخليّة للأحزاب والجمعيّات والمؤسّسات، ووُجد غيرُ ذلك من الأطر. إنّ أسئلة مثل:"كيف ننظّم جمعيّة عامّة أو مجلسًا تنفيذيًّا...،" و"ما هو حدّ التنظيم (مركزيّ، لامركزيّ، مرِن، ...)؟" وغير ذلك من الأسئلة تفرضها متطلّباتُ الحركة الشعبيّة، لا أحجامُ "أفراد" ومجموعاتٍ معيّنة.
في تظاهرة 29 آب فاق حجمُ المشاركة الشعبيّة عددَ الحشود التي شاركتْ يوميْ 22 و23 آب بثلاث مرّات أو أربع، الأمر الذي فرض علينا أن ننظّم الحشد. وفي اعتقادي أنّ الرأي العامّ يطلب أمرين بعد هذه اللحظة المفصليّة: البرنامج (الوارد في النقطة أعلاه) والتنظيم. وقد حفّز تفرّدُ مجموعة "طلعتْ ريحتكم،" وعجزُها عن اللحاق بحركة الشارع، نشوءَ المجموعات الأخرى. وكان على هذه المجموعات أن تؤلّف مجلسًا عامًّا يكون بمثابة الموجِّه للحراك، تَنتدب فيه كلُّ مجموعةٍ شخصًا ليمثّلها ويضمنَ لها حقّ المشاركة في اتّخاذ القرار من خلال صوته. ولو تمّ هذا لاستفدنا من التعدّد الحاصل ضمن الحراك، وأضفيْنا عليه سمة الديمقراطيّة والروح الجماعيّة.
ـ غياب القيادة: تصدرّ مشهدَ الحراك الإعلاميِّ عددٌ من الوجوه الشابّة، كان معظمُها من الناشطين الذين نظّموا في السابق اعتصاماتٍ ومظاهراتٍ وحملات، بعناوين سياسيّة واجتماعيّة واقتصاديّة وثقافيّة مختلفة، وعملوا ضمن أحزابهم أو جمعيّاتهم، إلى جانب شخصيّات سياسيّة وثقافيّة ونقابيّة معارضة للنظام. وقد كانت لهذه الشخصيّات تجاربُ تمْكن الاستفادةُ منها، بغضّ النظر عن التوافق السياسيّ التامّ معها، وكان يمكن أن ندعوها إلى حوار حول الحراك، ومن بعدها يصار إلى تأليف مجلس استشاريّ يَقترح علينا الخططَ والعناوينَ الإصلاحيّة المختلفة. وقد حاولتُ تسويقَ هذه الفكرة ضمن أوساط الحراك، إلّا أّنني أخفقتُ، إذ واجه ذلك الطرحَ "فوبيا أو رُهابُ اليسار،" وهو رُهابٌ هيمن على بعض الأفراد والمجموعات. وثمّة مجموعاتٌ أصرّت على عدم "تسييس المعركة،" ولا أعرف حتّى الآن كيف كان في استطاعتنا أن نخوض معركةً سياسيّةً ضخمةً (أوَليس الفعلُ الاحتجاجيّ في أمر مطلبيّ اجتماعي عامّ فعلًا سياسيًّا؟) من دون أدواتٍ سياسيّة؟!
ـ الانتهازيّة وثوّار الكاميرا: من الطبيعيّ جدًّا وجودُ انتهازيين ضمن أيّ حركةٍ تغييريّةٍ؛ فبعضُ الأفراد لا يستطيعون إخفاءَ مصالحهم الشخصيّة أو أجنداتهم حتّى وهم يناضلون للصالح العامّ. وقياسًا إلى حجم الحراك فقد ظهر عددٌ كبير من الانتهازيين الذين راحوا يهندسون الحراكَ وفق رغباتهم الشخصيّة بدلًا من الاستماع إلى آراء الأفراد المشاركين والمجموعات المشاركة على اختلاف مشاربها. وساهمتْ وسائلُ الإعلام في صنع نجوميّة بعض الأفراد، حتّى خلنا أنّنا أمام ثوّارٍ وقادةٍ على التلفاز، وأمام جماهير على أرض الواقع! ولقد عمّق الإعلامُ الهوّةَ، الموجودةَ في الأساس، بين بعض المجموعات، فأصبحتْ كلُّ وسيلةٍ إعلاميّةٍ ناطقةً بلسان مجموعة من مجموعات الحراك، بل اختارت ما "يناسبُها" من وجوه كي تكون ناطقة رسميّة باسم "الحراك،" مستَبعدةً بعضَ الوجوه (اليساريّة ويا للمصادفة!).
هذه العوامل وغيرُها أسهمتْ في نموّ الروح الفرديّة والاستئثاريّة لدى بعض مكوّنات الحراك، فأقدمتْ على خطواتٍ استعراضيّةٍ تعبّر عن المزايدات التي بدأتْ تنشأ بينها. ويمكن اعتبار خطوة احتلال وزارة البيئة (1 أيلول)، وكانت خطوة فرديّة استئثاريّة من قبل مجموعة "طلعت ريحتكم،" في هذا الإطار؛ أمّا على أرض الواقع، فكانت نتائج هذه الخطوة المزيد من الشرذمة.
***
ساهمت الأمورُ المذكورة أعلاه في خلخلة صفوف الحراك، وفي تراجع الناس عن المشاركة فيه، إلى أن اقتصر في الأشهر الأخيرة على بضع عشرات من الناشطين. كما يشكّل غيابُ الحياة السياسيّة الفاعلة في لبنان، واقتصارُها على مهاترات وسخافات بين أقطاب طائفيّة ومذهبيّة، عاملًا إضافيًّا في عدم بلورة حراك مطلبيّ وطنيّ. ويردف ذلك أيضًا ترهّلُ قوى التغيير وترهّلُ أطرها، إلى الحدّ الذي يجعلها أحيانًا هي العائق الأساس أمام تنامي حراك كهذا. ولأنّ اليسار في أزمة بنيويّة تتعدّى كونها أزمةً طارئة، فإنّ هذا الوضع سيزيد من إمكانيّة فشل التجربة.
لم نكن نتوهّم أنّ هذا النظام سيسقط بالضربة القاضية، بل بنقاطٍ نراكمها وتكون بمثابة مسامير تُدّق في نعشه. والمعلوم أنّ صعوبة دقّ مسمار في حائط لا تكمن في حجمه، بل في كيفيّة الدقّ. وهذه الكيفية سنتعلّمها بالتجربة لا بالتنظير، والتجربة تولد بالتراكم. وفي النهاية فإنّ هذا الحراك ما هو إلّا محطّةٌ من محطّات التغيير المعقّد في "دولة" لا تملك مؤهّلات الدولة، ووسط مجتمعٍ مازالت قطاعاتٌ كبرى فيه غيرَ معنّيةٍ بعمليّة التغيير.
بيروت