لطالما كانت مسيرة محمد حسنين هيكل، كصحفيّ وكاتب، إشكالًا في الثقافة العربيّة المعاصرة. وظلّ هذا الإشكال كامنًا إلى أن فتحت الثوراتُ العربيّة أبوابَ الحيّز العموميّ بقوّة، وتفجّرتْ إشكاليّاتُ المجتمع والثقافة. وكان من تدبير المقادير أن يقضي هيكل آخرَ خمس سنوات من عمره المديد في غمرة اندلاع الثورة وانتكاستِها المرحليّة، فنالت مسيرتُه الإشكاليّة بعد وفاته في السابع عشر من فبراير الماضي ـــ وبسبب مواقفه الأخيرة ـــ اهتمامًا مركزيًّا في النقاشات العامّة.
المثقّف والسلطة
يبدو أنّ أوّل استخدام لمفهوم "المثقّف،" كما نعرفه حاليًّا، كان في نهاية القرن التاسع عشر، ردًّا على "قضيّة درايفوس" (وهو ضابط فرنسيّ يهوديّ اتُّهم، زورًا كما تبيّن لاحقًا، بتقديم أسرار عسكريّة حسّاسة إلى السفارة الألمانيّة في باريس). كان في بنية هذا الاستخدام آنذاك تصدّي مثقّفين فرنسيّين (أمثال إميل زولا صاحب كتيّب إنّي أتّهم) لقمع السلطة وفبركاتها التخوينيّة، وهو ما وضع المثقّفَ الحديثَ ـــ من الناحية الجينيولوجيّة ـــ في موقع العداء لسلطة الدولة. وتحت تأثير مولد مفهوم "المثقّف" هذا، ظهرتْ تنظيراتُ المفكّر الفرنسيّ إيميل شارتييه (المعروف بـ "ألان") عن المثقّف المعادي بالضرورة لكلّ السلطات، وعلى رأسها السلطة السياسيّة. هذا، وقد طبع آلان ـــ بأفكاره الأخلاقيّة ــــ تنظيراتِ كثيرٍ من المفكّرين بشأن المثقّف والسلطة.
غير أنّ ظروف بروز المفهوم في استخداماته الأولى لا تعبّر عن تطوّراته لاحقًا. ومن هنا تأتي أهمّيّةُ هيكل كنموذج: فقد كان واحدًا من أهمّ المثقّفين العرب، وكان داخل السلطة بالمعنى العمليّ لعدّة سنوات، ولكنّه لم يكن مجرّدَ بوقٍ لنظام عبدالناصر. وهذا يدفعنا إلى تناول هذه الحالة بعيدًا عن التقليد الفكريّ الفرنسيّ حتّى نتمكّن من فهم الموضوع. وهذا يتأتّى بالتفريق بين مفهوميْن: "بوق السلطة" و"مثقّف السلطة."
الشرط الأوّل والأهمّ لمثقّف السلطة هو وجود مشروع للسلطة يدّعي انطواءه على توجّهاتٍ قِيميّة عُليا، وأن تكون السلطة "صادقة" إيديولوجيًّا في العمل على تحقيقه. وتبرز من هذا الشرط أولى قَسمات مثقّف السلطة، وهي الشراكة مع هذا المشروع، لا التبعيّة البيروقراطيّة المحضة له. ولقد استطاع هيكل، في الخمسينيّات والستّينيّات من القرن المنصرم، أن يمارس االدعاية للسلطة، وأن يقوم بإدارة إحدى مؤسّساتها، وبكتابة خطاباتِ رئيسها، وبممارسةِ الإنتاج الثقافيّ، وبالمشاركة في القرار السياسيّ من داخلها باعتبارها حاملًا لمشروعٍ وطنيّ ـــ قوميّ، لا باعتبارها سلطةً فحسب. وهذا الإيمان بمشروع السلطة، وبشرعيّتها المستمدّة منه، يقدّم تبريرًا أخلاقيًّا ذاتيًّا، بغضّ النظر عن رأينا في سلامته؛ وهو الفارق الأهمّ بين بوق السلطة ومثقّفها.
مثقّف السلطة يستبطن بالضرورة أقوالَها أو ادّعاءاتِها عن "أعباء" مشروعها، وأنّها في النهاية طبقةٌ فوقيّةٌ في بناءٍ هرميّ يدير شؤونَ المجتمع و"تَعْرف" بحكم موقعها ومسؤوليّاتها عن "الواقع" أكثرَ ممّا يعرفه المعارضون خصوصًا والمجتمعُ عمومًا. ولا فارق هنا بين أن تكون الدولة قمعيّة أو ديمقراطيّة ـــ فمنطق السلطة في هذا الجانب هو ذاتُه. ومن هنا كان هيكل، المثقّفُ الرفيع، يستطيع ـــ بكلّ راحة بال ـــ أن يصوغ شعاراتٍ تعبويّة، وأن يديرَ حملاتٍ إعلاميّة دولتيّة، مستثمرًا في ذلك: مواهبَه، وحدسَه كصحفيّ، وخبراتِه المهنيّة، ودروسَ أستاذه في الصحافة محمد التابعي.
تبنّى هيكل طبقيّة خطاب السلطة: هناك خطابٌ لـ "الجماهير،" وخطابٌ ديبلوماسيّ، وخطابٌ سياسيّ، وخطابٌ صحفيّ... إلخ، وقد برع فيها جميعًا. والتبرير الأخلاقيّ المستند على الشرعيّة والمشروع هو ذاتُه الذي يُستخدم في تبنّي منطق السلطة والتمييزِ بين "الخاصّة والعوامّ." ولهذا لم نقرأ لهيكل نقدًا ذاتيًّا بخصوص هذا الجزء من ممارساته في عهد عبد الناصر.
في المجتمعات ذات الثقافة الديمقراطيّة يكون تحرّكُ المثقّف في الهامش الحرّيّاتيّ الواسع ممارسةً غيرَ خطرة داخل النظام السياسيّ. أما في الأنظمة الشموليّة فالمسألة شديدة الخطورة والتعقيد، إذ لا بدّ لمثقّف السلطة من هامشٍ حرّيّاتيّ متّفقٍ عليه ضمنيًّا وإلّا صار في نظر نفسه مجرّدَ تابعٍ للأجهزة الأمنيّة. ومواهبُ هيكل في "إدارة المسافة" بينه وبين السلطة أدّت دورًا مهمًّا في تمييزه من بوق السلطة؛ ولكنّ السلطة هي التي تحسم هذا الأمر في النهاية، لا المثقّف مهما كان ذكيًّا ومتمكّنًا. وعبد الناصر هو الذي أفسح لهيكل إمكانيّةً كي يتحرّكَ في هامشِ امتيازٍ حرّيّاتيّ. ولهذا استطاع هيكل ــــــ على سبيل المثال ــــــ أن ينشر مسرحيّة توفيق الحكيم، بنك القلق (1966)، الناقدة لنظام عبد الناصر، في صحيفةٍ تابعةٍ للدولة. أما حين استتبّ الأمرُ للسلطة الجديدة، سلطةِ أنور السادات، بعد حرب اكتوبر 1973، وانقلبتْ على مشروع عبد الناصر، بجوانبه السياسيّة والاجتماعيّة/ الاقتصاديّة، وصادرتْ من مثقّفها هامشَ حركته، فقد حدث الصدامُ بينها وبينه. وهذا تأكيدٌ مهمٌّ أيضًا على كون هيكل مثقّفَ سلطة لا بوقَ سلطة، ولا كاتبًا من كتّاب أجهزتها الأمنيّة مثلًا؛ فهؤلاء في الأنظمة الديكتاتوريّة يتبعون السلطة بصفتها الجوهريّة، أي في وصفها "طبقة سقفيّة" في مبنى النظام لا أكثر.
في أوّل صراع بين هيكل، مثقّفِ السلطة (الناصرية) السابقة، والسلطة (الساداتيّة) الجديدة، كان هيكل حادًّا إلى درجةٍ معيّنة. ولكنْ بعد خوضه تجربة الاعتقال وهو يقترب من الستّين، ويتمتّع بسمعة عالية في الصحافة والكتابة السياسيّة، وبنمط حياةٍ أرستقراطيّ، فقد تعلّم كيف يدير المسافة مع السلطة وهو خارجها: فبات يمارس المعارضةَ والنقدَ الواضحيْن، ولكنْ بلطف وذكاء، ومن غير تملّق، إلى أن تسقط؛ وحينها يصبّ جامَ غضبه عليها، بأثرٍ رجعيّ، فيَطرحها أرضًا، مدجَّجًا بالوثائق والحكايات والشهادات والتحليل النفسيّ وموهبة السرد الروائيّ والثقافة الأدبيّة العالية واللغة الجزلة. هكذا فعل في خريف الغضب (1983) مع سلطة السادات، وهكذا فعل أيضًا في آخر كتبه، مبارك وزمانه: من المنصّة إلى الميدان (2012)، بعد ثورة 25 يناير. وهذه الاستراتيجية ستبقى صفة ملازمة لهيكل في تعامله مع السلطة وهو خارجها حتّى نهاية حياته.
غياب مثقّف الدولة
تقدِّم مسيرةُ هيكل، في بدايتها ونهايتها، إضاءاتٍ بانوراميّةً على واحدة من أهمّ المسائل التي يشتبك فيها السياسيُّ بالثقافيّ، وهي غيابُ مثقّف الدولة في العالم العربيّ. وأول أسباب ذلك هو غيابُ مشروع إصلاح دولتيّ. حين ظهر اثنان من أهمّ مثقّفي الدولة في أوروبا الغربيّة، وهما إيدموند بيرك وهيجل، كانت الدولة تحمل مشروعَ إصلاحٍ تدريجيّ، وحقّقتْ خطواتٍ معيّنة في هذا الشأن. ومن ثمّ استطاع بيرك معارضة الثورة الفرنسيّة من منطلق أنّ "الإصلاح" التدريجيّ على طريقة إنجلترا أفضل، وأنّ الثورة ستلحقها الكوارثُ؛ واستطاع هيجل أن يدلي بفكرته الخطرة عن الدولة باعتبارها "العقلَ المطلق،" لكونه (أي هيغل) استند إلى صعود الدولة البروسيّة آنذاك، بالتوازي المهمّ مع النهايات المأساويّة والدمويّة للثورة الفرنسيّة.
هيكل هو ابنُ المدّ القوميّ من جهة، وابنُ سلطةٍ مستقرّةٍ نسبيًّا (قياسًا إلى بقيّة الحالات العربيّة) من جهة أخرى. لكنّه حين وقف مع "دولة" عبد الفتاح السيسي، وهي بلا مشروع اجتماعيّ على الإطلاق، فإنّه كان يقف مع عصاباتٍ سلطويّة، ومع رأس مالٍ متداخلٍ معها. لقد ظهر هيكل كــ "مثقّف سلطة" في فترة المدّ القوميّ، ولم يستطع أن يكون "مثقّفَ دولة" بعد انقلاب 3 يوليو الذي لا توفّر دولته شرط وجود مثقّف الدولة، وهو التوجّه المستقبليّ وإنجاز خطوات صادقة في مشروع الإصلاح التدريجيّ
الوعي الإمبراطوريّ
كان هيكل معجبًا بالمنظّر والصحفيّ الأمريكيّ والتر ليبمان، وهناك توافقات عديدةٌ بين الرجلين تبرّر هذا الإعجاب. فكلاهما بدأ صحفيًّا، وعرف النجاحَ المهنيّ في العشرينات من العمر، وعمّر إلى أن جاوز الثمانين، وارتبط جزءٌ من مسيرته برئيس دولة، وترك إرثًا مهمًّا من الكتب، ووُلِد في 23 سبتمبر. ولكنّ المشترك الأهمّ بين الرجلين هو الوعي الإمبراطوريّ.
ففي حين كان ليبمان منظّرَ إمبراطوريّة قيد الظهور مع اكتمال شروطها، كان هيكل، بتوجّهاته القوميّة، ينظّر لأمّةٍ بإمكانها أن تكون بناءً إمبراطوريًّا كذلك، ولكنّها تكافح لاستكمال شروطها الصعبة والمعقّدة.( ليس كلّ مشروع قوميّ إمبراطوريًّا بالضرورة، ولكن المشروع القوميّ في المنطقة العربية يمتاز ببعدٍ إمبراطوريّ، من جهة نتائجه، بسبب الجغرافيا والوعي التاريخيّ والوزن الديموغرافيّ).
قلّل هذا الوعيُ كثيرًا من أهميّة أخلاقيّات الدولة تجاه الفرد. ومن الحوادث ذاتِ الدلالة أنّ هيكل تحدّث في أحد كتبه ـــــ كتمظهر لحسّه الإنسانيّ! ـــــ عن إبلاغه عبدَ الناصر بمقتل السياسيّ والكاتب الشيوعيّ شهدي عطية في المعتقل، ولكنّه لم ينتقد المعتقلات في حدّ ذاتها أثناء وجوده في نظام عبد الناصر، بل هو لم يهتمّ طوال حياته فعليًّا بموضوع القمع وحقوق الإنسان. وحين قامت الثورات العربيّة، كان هيكل يرى أشياءَ كثيرةً باستثناء جموع الثورة؛ كان يرى التوازنات الدوليّة والإمبراطوريّة الأمريكيّة، والتحالفات الإقليميّة، والتراكم التاريخيّ..الخ. لهذا انحاز هيكل إلى جهاز الدولة، الذي ادّعى ـــ بشعبويّة فاقعة ـــ أنّه سيعيد الأحلامَ القوميّة. ولم يكن انحيازُه هذا على حساب التحول الديمقراطيّ فحسب، بل على حساب فكرة انفتاح الحيّز العام ذاتها. وكانت هذه خطيئة هيكل الأخيرة: انحياز الوعي القوميّ إلى سلطةٍ لا تمتلك ولو توجّهًا وطنيًّا!
كان هيكل يكرّر في كتبه وأحاديثه عبارة كارل ماركس الملهمة: "التاريخ لا يعيد نفسَه؛ وإنْ فعل، فعلى شكل ملهاةٍ أو مأساة." يصعب علينا تقريرُ شكل نهاية هيكل، لكنْ يبدو أنّ محاولة إعادة التاريخ هذه المرة كانت أقربَ إلى العبث. وعزاءُ كل مثقّف أنّ مسيرة هيكل لا تُختزل بنهايته، وأنّ مسيرته بكلّ محطّاتها تُعدّ مكنزًا لكلّ الباحثين في سوسيولوجيا المثقّفين.
ألمانيا