أستاذ التاريخ والعلاقات الدوليّة في الجامعة اللبنانيّة. من كتبه: صراع القوى الكبرى على سوريا، السياسة الخارجيّة التركيّة، سوريا ومفاوضات السلام في الشرق الأوسط.
هل قامت الولاياتُ المتّحدة بنشر الكورونا في الصين، كجزءٍ من الحروب البيولوجيّة التي دأبتْ على استخدامها ضدّ خصومها بعد الحرب العالميّة الثانية؟
أثيرَ جدلٌ واسعٌ بعد انتشار وباء كورونا في الصين، ومنها إلى معظم بلدان العالم، حول مصدر هذا الوباء. وقد زاد هذا الجدلُ بعد أن نشر ليجان زاهو، نائبُ رئيس إدارة المعلومات في وزارة الخارجيّة الصينيّة، تغريدةً على موقع تويتر، ألمح فيها إلى احتمال أن يكون الجيشُ الأمريكيّ هو مَن جاء بفيروس كورونا الجديد (كوفيد - 19) إلى منطقة ووهان في الصين. وجاء في التغريدة ما يأتي:
"متى ظهر المريضُ الأوّلُ في أمريكا؟ كم عددُ الأشخاص المصابين؟ ما أسماءُ المستشفيات؟ يمكن أن يكون الجيشُ الأمريكيُّ هو مَن جاء بالوباء إلى ووهان. كونوا شفّافين. أعلِنوا بياناتِكم للعامّة! الولاياتُ المتحدة تدين لنا بتفسير!"[1]
هذه التغريدة دفعتْ بالصحافيّين إلى أن يسألوا المتحدّثَ باسم وزارة الخارجيّة الصينيّة، جينغ شوانغ، إنْ كان لدى الصين دليلٌ على أنّ الفيروس المذكور لم ينشأْ عندها. فأجاب على صفحة وزارة الخارجيّة الصينيّة على موقع فيسبوك بالقول:
"منشأُ الفيروس يمكن تحديدُه بالعلم فقط. نحتاج إلى الاعتماد على وجهات النظر العلميّة والمهنيّة. لا نأملُ رؤيةَ أيّ أحدٍ يستخدم هذه المسألةَ لوصم دولٍ أخرى."[2]
جينغ شوانغ: منشأُ الفيروس يمكن تحديدُه بالعلم فقط
وكان قد سبق هذا الجدلَ اتّهامُ روسيا للولايات المتحدة في تشرين الأوّل (أكتوبر) 2018 بإجراء اختباراتٍ جرثوميّةٍ في مختبرٍ في جمهوريّة جورجيا السوفياتيّة السابقة، مؤكّدةً أنّ أكثرَ من 70 مواطنًا جورجيًّا قضوْا في هذه التجارب الأميركيّة.وأوضح التقريرُ الروسيّ آنذاك أنّ هناك مختبراتٍ مماثلةً في أوكرانيا وأذربيجان وأوزبكستان، غالبًا "قرب حدود روسيا والصين."[3] وتساءلتْ وزارةُ الدفاع الروسيّة عن السبب الذي دفع القوّات الجوّيّةَ الأميركيّة في العام 2017 - 2018 إلى محاولة جمع عيّنات من الموادّ الحيويّة للمواطنين الروس.[4] وقد نفت وزارةُ الدفاع الأميركيّة، حينها، الاتّهاماتِ الروسيّةَ، جازمةً أنّ مركز لوغار في جورجيا مخصّصٌ "للأنشطة السلميّة" فقط، ونافيةً أن يكون هذا المركزُ تابعًا للولايات المتحدة أو يعمل بأمرتها.
لكنْ بعد تفجّر أزمة كورونا، لمّح البرنامجُ التلفزيونيُّ الرسميُّ الأوّل، وإنْ بطريقةٍ تنوس بين السخرية والاتهام، إلى أنّ الولاياتِ المتحدةَ تقف خلف نشر هذا الوباء.[5]
قد يقول كثيرون إنّ هذه الاتهامات ليست إلّا محاولةً لرفع المسؤوليّة عن الحكومة الصينيّة (ومعها الحكومة الروسيّة) "المقصِّرة" في مواجهة المشاكل التي تعانيها الصين (أو روسيا)، عازين هذه الاتّهاماتِ إلى "نظريّة المؤامرة" التي تُحمِّل واشنطن كلَّ مآسي العالم. والحقّ أنّنا، في ظلّ غياب أيّ دليلٍ مادّيٍّ فعليٍّ حتى الآن، لا يمكننا أن نرمي على الولايات المتحدة مسؤوليّةَ نشر وباء كورونا في الصين.
على أنّ المراجعة التاريخيّة تفيد بأنّ القوى والدول الكبرى لجأتْ في السابق إلى الحروب البيولوجيّة لتحقيق مكاسبَ جيوسياسيّة، بدءًا من القرن السادس عشر وحتى يومنا هذا. وهو ما يدعونا إلى عدم التسرّع في تسفيه كلّ حديث عن "مؤامرة،" أو عزوِه إلى نظريّاتٍ شيطانيّة، في أيّ مكانٍ وأيّ زمان. فمثلما أنّ من الضروريّ نقدَ "نظريّة المؤامرة" حين لا تدعمها الحقائقُ والأدلّة، فمن الضروريّ أيضًا نقدُ "نظريّة تسفيه المؤامرة" حين لا تدعمُها الحقائقُ والأدلّة.
فماذا في التاريخ؟
***
في العام 1520 نزل هيرنان كورتيز على شواطئ المكسيك، لينطلقَ بعدها إلى عاصمة إمبراطوريّة الأزتيك، تينوشتيتلان، ساعيًا إلى ضمّها إلى التاج الإسبانيّ. فاستطاع، على الرغم من حجم قوّاته الصغير الذي لم يتجاوزْ بضعَ مئات من الجنود، السيطرةَ على تلك العاصمة وتدميرَها، ليفرضَ استعمارًا إسبانيًّا على المكسيك لمدّة ثلاثة قرون.
لعبتْ عدّةُ عوامل في هذا النصر الإسبانيّ، كان أوّلَها التفوّقُ التكنولوجيّ العسكريّ الإسبانيّ. وثانيها الخرافةُ الدينيّة التي كانت تستند إلى أساطيرَ أزتيكيّةٍ تفيد بأنّ ذلك العام كان سيَشْهد عودةَ إله الأزتيك إلى الأرض قادمًا من الشرق. غير أنّ ثالثَ العوامل تمثّل في انتقال عدوى مرض الجدريّ من جثّة أحد الجنود الإسبان الذين قُتلوا في المعارك ضدّ الأزتيك إلى جنود الأزتيك، وتفشّيه بعد ذلك في صفوف شعب الأزتيك، حاصدًا عشراتِ الآلاف منهم.[6] وزاد الطينَ بلّةً أنّ شعوبَ القارّة الأميركية لم تكن تمتلك مناعةً ضدّ الأوبئة التي كانت منتشرةً في أوروبا وآسيا وأفريقيا، وذلك نتيجةً لعُزلة تلك الشعوب عن سكّان القارّات الثلاث هذه.
كان ذلك، على الأرجح، أوّلَ حدثٍ يلعب فيه "السلاحُ البيولوجيّ" دورًا في حسم معركة. صحيح أنّ ذلك تمّ عن غير قصد، غير أنّ المستعمِرين الأوروبيين اكتشفوا بعده، على ما يبدو، سلاحًا سيستخدمونه في القرون اللاحقة ضدّ السكّان الأصليّين في أميركا الجنوبيّة والشماليّة، للقضاء عليهم والاستيلاءِ على أرضهم.
انتشرتْ عادةُ "وهب" المستعمِرين الإنكليز السكّانَ الأصليين بطّانيّاتٍ ملوَّثةً بالجدريّ
ففي القرنين السابع عشر والثامن عشر، انتشرتْ عادةُ "وهب" المستعمِرين الإنكليز، في أميركا الشمالية، السكّانَ الأصليين، بطّانيّاتٍ ملوَّثةً بداء الجدريّ، من أجل نشر الوباء بينهم، وقتلِهم، ثم الاستحواذِ على أرضهم. وهو ما ورثه المستعمِرون الأميركيون عن البريطانيين بعد استقلال الولايات المتحدة الأميركيّة.[7]
ثمّ جاءت الحربُ العالميّةُ الأولى لتشكِّل المحطّةَ الرئيسةَ لتطوير الدول برامجَ لاستخدام أسلحةٍ من نوعٍ جديد، كيماويّةٍ وبيولوجيّة، ضدّ الخصوم. وكانت ألمانيا رائدةً في هذا المجال، إذ استخدمتْ غازَ الخردل ضدّ أعدائها.[8] كما عمدتْ إلى تصدير خيولٍ مصابةٍ بمرض الآنثراكس إلى قوّات الولايات المتحدة ورومانيا وفرنسا وإسبانيا والأرجنتين والنروج. وقد حاولتْ فرنسا اللجوءَ الى استخدام أسلحةٍ بيولوجيّةٍ ضدّ ألمانيا، إلّا أنّ جهودَها لم تتجاوزْ مراحلَ البحث والاختبار.
وفي الفترة بين الحربيْن العالميتيْن، حاولت الدولُ الكبرى تطويرَ الأسلحة البيولوجيّة:
- فطوّرتْ بريطانيا وكندا فيروساتٍ تستهدف المواشي والمحاصيلَ الزراعيّة.
- ثم طوّرتْ بريطانيا "الجمرةَ الخبيثةَ" في العام 1941.
- أمّا الولايات المتحدة، فركّزتْ على تطوير عدد من الفيروسات التي تستهدف المواشي والناسَ على حدّ سواء. كما أجرت محاولاتٍ لتطوير أنواعٍ جديدةٍ من الطاعون والسالمونيلا والبوتولين.
- وأمّا اليابان فلقد طوّرتْ، خلال الحرب العالميّة الثانية، قدراتِها في إنتاج الطاعون والجمرة الخبيثة والتيفوئيد والكوليرا وغيرها من الأمراض.[9]
***
بعد الحرب العالميّة الثانية، وخلال الحرب الباردة تحديدًا، كثّفت الولاياتُ المتحدة وحلفاؤها الغربيون من جهود تطوير الأسلحة البيولوجيّة. وجرى افتتاحُ مرْكزٍ متخصّصٍ بهذا الهدف في آركنْسا (الولايات المتحدة) أسهم في إنتاج أعدادٍ كبيرةٍ من أنواع البكتيريات والفيروسات المختلفة، مثل بروسيلوسيس وفرانشيسيلا تولارنسيس والآنثراكس وفيروس التهاب الدماغ الافتراضيّ الفنزويليّ والحمّى الصفراء والبوتولين والمكوّرات العنقوديّة المعويّة وغيرها.[10] وقد استخدمت الولاياتُ المتحدة هذه الأسلحةَ ضدّ البلدان التي رفضت الانصياعَ لإملاءاتها، وخصوصًا فييتنام وكوبا.[11]
شنّت واشنطن حربًا بيولوجيّةً على كوبا، تمثّلتْ في بثّ وباء "دينغي"
فقد شنّت واشنطن حربًا بيولوجيّةً ممنهجةً على كوبا، تمثّلتْ في بثّ الأوبئة لضرب المحاصيل، ولاستهداف الكوبيّين في صحّتهم. وأشهرُ تلك المحاولات تمثَّلَ في نشرها، خلال الثمانينيّات والتسعينيّات، مرضَ "دينغي،" وهو نوعٌ من الحُمّى يؤدّي إلى وهن الجسم وارتفاع درجات حرارته.[12] وهذا، إلى جانب الحصار المفروض على كوبا، كان من الأسباب التي دفعتْ هافانا إلى تطوير قدراتها الطبّيّةِ الذاتيّة، لتصبح دولةً رائدةً في الطبّ وصناعةِ الأدوية المكافحة للأوبئة وأمراض السرطان وغيرها.
أمّا في العراق فلم تكتفِ الولايات المتحدة بفرض الحصار عليه بين العاميْن 1991 و2003 (تاريخ غزوه واحتلاله)، وأدّى إلى مقتل أكثر من نصف مليون طفل عراقيّ، ولا إلى استعمال اليورانيوم المخصّب بين عاميْ 1991 و2004 على أدنى تقدير.
***
في المقابل، طوّر الاتحادُ السوفياتي قدراتِه في الحرب البيولوجيّة على نطاق واسع. وهذا ما فعلته أيضًا دولٌ كثيرةٌ في العالم الثالث، وخصوصًا في المنطقة العربيّة. فقد وَجدتْ دولٌ عربيّةٌ مثل مصر وسورية والعراق أنّ هذا النوع من السلاح يمكن أن يشكّل رادعًا موازنًا للسلاح النوويّ الإسرائيليّ.
***
من هذه المراجعة نجد أنّ الحروبَ البيولوجيّة ونشرَ الأوبئة كانت من الوسائل التي تلجأ إليها الدولُ لإلحاق الأذى بالخصم، وإنْ طالها هي نفسها شيءٌ من هذا الأذى. وإنْ صحّ أنّ للولايات المتحدة يدًا في استهداف الدول المناهضة لهيمنتها، بوسائلَ متعدّدةٍ، من بينها الأسلحةُ الجرثوميّة، فقد يكون دافعُها إلى ذلك شعورَها بأنّ تلك الدول ستنتزع منها الريادةَ الاقتصاديّةَ العالميّة خلال سنواتٍ قليلة. وما يزيد من هذا الاحتمال هو تعذّرُ الحرب المباشرة بين القوى الكبرى في زمن الأسلحة النوويّة، ما يجعل الولاياتِ المتحدة تلجأ إلى الأدوات غير المباشرة للصراع - - مثل العقوبات الماليّة، والتضليل الإعلاميّ و"الحرب الناعمة،" وتشكيل التحالفات العابرة للحدود، والأسلحة البيولوجيّة الجرثوميّة.
بيروت
[2]المصدر السابق.
[3]https://24.ae/article/465890/%D8%B1%D9%88%D8%B3%D9%8A%D8%A7-%D8%AA%D8%AA%D9%87%D9%85-%D8%A3%D9%85%D8%B1%D9%8A%D9%83%D8%A7-%D8%A8%D8%A7%D8%AE%D8%AA%D8%A8%D8%A7%D8%B1-%D8%A3%D8%B3%D9%84%D8%AD%D8%A9-%D8%AC%D8%B1%D8%AB%D9%88%D9%85%D9%8A%D8%A9-%D8%B3%D8%B1%D8%A7%D9%8B-%D9%81%D9%8A-%D8%AC%D9%88%D8%B1%D8%AC%D9%8A%D8%A7
[4]المصدر نفسه.
[6]https://ejaaba.com/%D9%8A%D8%B0%D9%83%D8%B1-%D8%A7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%A8%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%A6%D9%8A%D8%B3%D9%8A-%D9%84%D9%87%D8%B2%D9%8A%D9%85%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%87%D9%86%D9%88%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%85%D8%B1-%D9%88%D8%B9%D8%AF%D9%85-%D9%82%D8%AF%D8%B1%D8%AA%D9%87%D9%85-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%82%D8%A7%D9%88%D9%85%D8%A9-%D9%87%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D9%85%D8%B1%D8%A7%D8%B6
[7]Alan R. Hinman, Walter A. Orenstein, and Mark J. Papania, “Evolution of Measles Elimination Strategies in the United States,” Journal of Infectious Diseases, 2004, 17 - 22: https://academic.oup.com/jid/article/189/Supplement_1/S17/821924
[8]R. Roffey, A.Tegnell, andF. Elgh, “Biological Warfare in a Historical Perspective,” Clinical Microbiology and Infection, Volume 8, Issue 8, August 2002, 450 - 454:https://www.sciencedirect.com/science/article/pii/S1198743X14626343
[9]جميع المعلومات من المصدر أعلاه.
[10]Mark Wheelis, et al, Deadly Cultures: Biological Weapons Since 1945(Massachusetts: Harvard University Press, 2006):https://www.hup.harvard.edu/catalog.php?isbn=9780674016996
[11]Barry levy, Victor Sidel, “War, Terrorism, and Public Health,”: https://journals.sagepub.com/doi/10.1111/j.1748-720X.2003.tb00119.x
Clara Nieto, Masters of War: Latin America and United States Aggression from the Cuban Revolution Through the Clinton Years, translated by Chris Brandt, foreword by Howard Zinn (Seven Stories Press, 2003).
أستاذ التاريخ والعلاقات الدوليّة في الجامعة اللبنانيّة. من كتبه: صراع القوى الكبرى على سوريا، السياسة الخارجيّة التركيّة، سوريا ومفاوضات السلام في الشرق الأوسط.