"النار ليست لعبةً": هذا ما تقوله صفحةُ "المنسِّق" الإسرائيليّة على موقع فايسبوك، في تحذيرٍ استباقيٍّ قبل موسم اندلاع الحرائق، وتحديدًا في 28 أيّار 2020. وهذه الصفحة تنطق باسم "وحدة تنسيق أعمال الحكومة [الإسرائيليّة] في المناطق،" أي الهيئة المكلَّفة تطبيقَ سياسة هذه الحكومة في "أراضي يهودا والسامرة" (الضفّة الغربيّة) وغزّة. تنهال التعليقاتُ الفلسطينيّة من قبيل: "بارك اللهُ بكم" و"الحمدُ لله على سلامة الجميع" و"أحسنتم على هذه التوعية" و"كلّ الاحترام والتقدير"... قبل أن تتحوّل إلى أسئلة إلى "الأخ الكريم" عن وضع المَعابر وكيفيّةِ تجديدِ التصاريح التجاريّة المنتهية ومطالبات بحلّ أزمة السماسرة في أسرع وقتٍ ممكن.
و"الأخ الكريم" الذي "يزيِّن" الصفحةَ بصورته الشخصيّة مرتديًّا الزيَّ الرسميَّ، ويحبُّ الاستماعَ إلى أغنية الفنّان زياد برجي "شو حلو" بصحبة أصدقائه العرب على مواقع التواصل الاجتماعيّ، ليس إلّا كميل أبو ركن، الضابطَ في جيش العدوّ، وعضوَ هيئة أركانه، والمشاركَ في قراراته العدوانيّة. وبحسب ناشطين، فإنّ المخابرات الإسرائيليّة تُشْرف بنفسها على هذه الصفحة.
فعلًا: شو حلو!
***
هذا بالنسبة إلى صفحة المنسّق كميل أبو ركن، الموجَّهةِ حصرًا كما أشرنا إلى غزّة والضفّة الغربيّة.
أما صفحات أفيخاي أدرعي، وهو الناطقُ باسم جيش العدوّ الإسرائيليّ، فإنّها على الرغم من الدعوات المتفرّقة إلى مقاطعتها، قد حافظتْ على نسبةِ متابعةٍ عاليةٍ في الدول العربيّة. وهذه المتابعة لا تقتصر على الغارقين في وحول التطبيع، والمروِّجين لخطاب العدوّ، ولا على الذين يقفون على "الحياد" بين طرفَي الصراع، بل تَورَّط في هذه المتابعة عددٌ كبيرٌ من مؤيّدي المقاومة في لبنان وفلسطين.
بعضُ هؤلاء المتابعين يصنِّف تسجيلَ إعجابه بصفحة أدرعي في خانة "معرفة العدوّ." والبعض الآخر ينفِّس عن غضبه بتعليقاتٍ على هذه الصفحة، يهاجم فيها العدوَّ ويَفضح جرائمَه، أو يعمد إلى مشاركة منشوراتها في صفحته، مضيفًا إليها شتائمَ يرى فيها "نصرًا" معنويًّا من خلال الاستهزاء بجيش العدوّ وتوبيخ الناطق باسمِه في "عقر داره."
غير أنّ احتمال تلقّي التعليقات السلبيّة لم يكن مستبعَدًا حتمًا عن حساباتِ مَن أنشأ هذه الصفحةَ، ثمّ قام بتفعيلها في السنوات الأخيرة عبر تكثيف المادة الدعائيّة المنشورة عليها والاعتناءِ بصناعتها بصورةٍ احترافيّة، مستهدِفًا بذكاءٍ جمهورًا معاديًا تُسهِّل خوارزميّاتُ الفايسبوك انتقاءَه. فـ"إسرائيل" تدرك أنّ "الضررَ" الذي قد تُلْحقه بها تعليقاتٌ افتراضيّةٌ غاضبةٌ لن يزيدَ حجمُه عن "الضرر" الناجم عن بيانات القمم العربيّة "المندِّدة" بسياساتها الاستيطانيّة واعتداءاتها المتكرّرة!
وفي المقابل فإنّ "إسرائيل" تأمل في خيرٍ كثيرٍ قد تجْنيه من هذه المنصّات. فالمعلومات تشير إلى تجنيد عددٍ غير قليلٍ من العملاء بعد رصد التعليقات على هذه الصفحة وتتبُّعِها وتحليلِ شخصيّات المتابعين من خلالها لتحديد أهليّتِهم للتجنيد - - وهو خطرٌ أكيدٌ لا يمكن اجتنابُه إلّا بالمقاطعة.
فإذا كان المتابعُ لهذه الصفحة والمتفاعلُ مع منشوراتها واثقًا من مناعته الوطنيّة، فإنّه - من حيث لا يدري ربّما - مسؤولٌ عن ازدياد عدد المتابعين من خلال تسجيل إعجابه وتفاعلِه المستمرّ. وهو، بذلك، لن يَضْمن حتمًا مناعةَ العشرات أو المئات ممّن قادهم بنفسه إلى هذه الصفحة، وعَرَّضهم للتجنيد، متوهِّمًا أنّه كان "يَقصف جبهةَ العدوّ" بكلماته الساخرة! أمّا "معرفةُ العدوّ" فلا تكون حتمًا من خلال منصّةٍ أعدّها أدرعي بنفسه لمخاطبتنا، دارسًا بعنايةٍ كلَّ حرفٍ يمرِّره من خلالها.
***
وبالعودة إلى صفحة "المنسِّق،" فإنّ التفاعل الكبير معها دفع الأسيرَ المحرَّر معتصم سقف الحيط (29 عامًا) من مدينة نابلس إلى إطلاق حملة #احنا_أو_المنسق، وهو هاشتاغ يخيِّر من خلاله الناشطُ أصدقاءه على مواقع التواصل بين الاحتفاظ بصداقته أو الإبقاءِ على تسجيل إعجابهم بالصفحة الصهيونيّة.
الحملة لاقت رواجًا واسعًا، ووصل صداها مؤخَّرًا إلى لبنان، حيث أُطلق هاشتاغ #يا_عندي_يا_عند_أفيخاي.[1]هكذا أورد كلُّ مشاركٍ عددَ أصدقائه المعجَبين بصفحة الناطق باسم جيش العدو، من دون ذكر أسمائهم، معطيًا إيّاهم مهلةً محدّدةً لإلغاء إعجابهم بالصفحة، وإلّا إلغى صداقتَه الافتراضيّة بهم.
وقد بدا واضحًا أنّ آلافَ المتفاعلين لم يكونوا مدرِكين - أو مقتنعين - بمدى خطورة الأمر قبل هذه الحملة، فبادروا فورًا إلى تصحيح الخطأ بعد اطّلاعهم على المعطيات التي قُدِّمت إليهم؛ ما أدّى إلى تراجعٍ سريعٍ في أعداد المعجَبين بصفحة "المنسّق" (ومعها صفحة أدرعي) في لبنان وفلسطين.
***
وإذا كانت الأرقامُ تكشف نجاعةَ الحملة وتحقيقَها أهدافَها بنسبةٍ كبيرة، فإنّ تصريحَ أمير بوخبوط فضح الانزعاجَ الصهيونيَّ البالغَ منها. فهذا المحلِّل العسكريّ لموقع واللا العبريّ رأى في تغريدةٍ له أنَّ الحملة عدوانيّةٌ ومثيرةٌ للقلق، معتبرًا أنّها علامةٌ أخرى على اتّساع الصدع مع السلطة الفلسطينيّة في ضوء نيّة تنفيذ ضمّ "إسرائيل" للضفّة، إذ إنّ من يقود الحملةَ - في رأيه - هم نشطاءُ في حركة فتح.[2]
الجدير ذكرُه أنَّ حركةَ حماس وجَّهتْ بدورها،على لسان الناطق باسمها حازم قاسم، التحيّةَ إلى النشطاء الذين نظَّموا الحملةَ، وإلى كلّ مَن استجاب وانسحب من متابعة صفحة "المنسّق."[3]
***
وفي المحصّلة، يبدو جليًّا أنَّ على مَن يُصرّون على "التفاعل" مع منصّات العدوّ، من المحافظين على إيمانهم بفكرة المقاومة (إذ لا جدوى من مخاطبة غيرهم)، التوقّفَ عن العنادِ والمكابرةِ و"التذاكي" في سَوْق الحجج، وأن يدركوا أنَّ ما يمارسونه إنّما هو "تطبيعٌ غيرُ واعٍ" استدرَجهم إليه عدوٌّ لم يتوقّفْ يومًا عن استخدام "القوّة الناعمة" لكسر عزلته وتحطيم الحاجز النفسيّ والاجتماعيّ القائم في المجتمعات العربية تجاهه، من أجل جعل التواصل طبيعيًّا، ومبدأ "النقاش" مقبولًا بعد أن كان محرًّمًا. ولا ضيْرَ لديْه أن يتخلّلَ هذا "النقاشَ" بعضُ الشتائم التي لن تطردَ محتلًّا ولن تعيدَ أرضًا مغصوبةً.
بيروت