كثيرةٌ هي المداخلُ التي يجري تناولُ مسألة "التعليم عن بُعد" من خلالها، منذ أن انسحبت العمليّةُ التعليميّةُ، مرغَمةً، إلى داخل البيوت.
هناك، على سبيل المثال، ذلك الكمُّ من التندّر والسخرية، القادمُ من الطلبة على صفحات التواصل الاجتماعيّ؛ وهذه ظاهرةٌ تستحقّ دراسةً سيميولوجيّةً/لغويّةً مفصّلةً نظرًا إلى غناها.
وهناك، وهو الغالبُ في تقديري، المدخلُ الذي يرى إلى كلّ مسألة التعليم عن بُعد انطلاقًا من شحّ الإمكانات التقنيّة واللوجستيّة المطلوبةِ لانتظامها.
ويتَداخل مع المدخل الثاني مدخلٌ ثالثٌ يتعلّق بوسائل التدريس التي تجعل من هذا التعليم، بحسب البعض، يوفي بمتطلّباته ويحقّق مخرَجاتِه.
في ما يتعلّق بالمدخل الثاني تحديدًا، فإنّه ليس بمصطنَعٍ نهائيًّا. فنحن، كأساتذةٍ، نعانيه مع الطلبة سواءً بسواء. وبحسبِ ما بلغني، فإنّ مشكلةَ التقنيّات وتوفُّرها - وهي ليست مشكلةً تقنيّةً فحسب بل طبقيّةً أيضًا - تعانيها المجتمعاتُ المتقدّمةُ أيضًا، وإنْ كانت في فلسطين مثلًا أعوصَ بكثيرٍ من دولٍ أخرى. هذه المشكلة تؤشّر إلى عدم جهوزيّة المجتمعات للّحظاتِ الطارئة. بل إنّ مشاكلَ من هذا القبيل تَفْضح البعدَ الطبقيّ للنظام السائد، خصوصًا عندما يتعلّق الأمرُ بالخِدْمات الصحّيّة وسهولةِ الحصول على تقنيّات شبكات التواصل وأجهزةِ الكمبيوتر المحمول بأسعارٍ تناسب الفئاتِ الشعبيّة؛ وهذا كلُّه غيرُ متحقِّق في فلسطين.
أمّا معالجةُ التعليم عن بعد انطلاقًا من وسائل التدريس التي تتناسب وهذا التعليمَ، فهي استمرارٌ لذلك النفق الذي يعتكف فيه علمُ التربية منذ عشرات السنين، غارقًا في تقنيّات العمليّة التعليميّة على حساب محتواها، ومن دون اعتبارٍ لضرورة العلاقة المتبادلة بين الشقّيْن، مع الأهمّيّة الكبرى لمحتوى العمليّة التعليميّة بناءً تحتيًّا تنهض عليه وسائلُ التدريس.
لذلك أعتقد أنّ المداخلَ السابقة غيرُ كافيةٍ لمعالجة مسألة التعليم عن بعد. وانطلاقًا من تجربتي في العمل كمُحاضرٍ جامعيّ، أرى أنّ المدخلَ الأهمَّ لنقاش هذه المسألة هو العلاقة المفترضة بين المُحاضر/الطالب من جهة، والحياة التعليميّة خارج قاعة الدرس.
في التفكير الذي يغزو الآن عالمَ الأكاديميا، المأخوذَ بالتقنيّات والوسائل، هناك اعتقادٌ أنّ العمليّة التعليميّة هي، حصرًا، تمليكُ مهارات التعلّم الذاتيّ للوصول إلى المعرفة. وليس هذا، في حدّ ذاته، ما يَعيب ذلك التصوّرَ، إلّا أنّه يقود إلى إهمال محتوى العمليّة التعليميّة نفسه. هذا من جهة. ومن جهةٍ ثانية، فإنّه تصوّرٌ لا يقيم وزنًا أصلًا للحياة الطلاّبيّة الجامعيّة، مفترضًا أنّ التعليمَ يستهدف الوصولَ إلى المعرفة عبر تطوير المهارات فقط، من دون الأخذ في الاعتبار الدفعَ في اتجاه بناء مقوّمات الشخصيّة الطالبيّة؛ وهذا البناء لا يتمّ إلّا بمعالجة الثلاثيّ: محتوى التعليم، والعلاقة الإنسانيّة بين طرفَي العمليّة، والحياة الطلابيّة الجامعيّة.
إنّ التعليم عن بُعد لا يوفّر المتغيّريْن الثاني والثالث. والأغلب أنّه لا يوفّرهما إلّا في حالاتٍ نادرةٍ هي رهنٌ بالمُحاضِر نفسِه، لا بسياسات التعليمِ الجامعيّ أصلًا.
ومع النزوع الرأسماليّ العالميّ إلى إحلال التقانة المتطوّرة محلَّ العمّال والموظّفين، تحقيقًا لأعلى معدّلات الربح، تزايد الموظّفون العاملون "من منازلهم." هكذا بدا التعليمُ عن بُعد وكأنّه ينسجم مع ذلك النزوع، وإنْ نشأ في الأصل استجابةً لظرفٍ صحّيّ كونيّ طارئ. وراح يوفّر مبالغَ طائلةً على ميزانيّات الجامعات، خصوصًا الجامعات الخاصّة والأهليّة التي ترى التعليمَ والمؤسّسةَ الأكاديميّة من خرْم الربح والخسارة، لا من زاويةٍ وطنيّةٍ وأكاديميّةٍ في الأساس.
لكلّ ذلك أعتقد أنّ تصويبَ النقاش حول "التعليم عن بُعد" ينبغي أن يتوجّه إلى طرح القضايا الآتية:
1) محتوى التعليم. وفي فلسطين تكتسب هذه المسألةُ أهمّيّةً استثنائيّةً لضرورة طرح التساؤل البديهيّ: هل تتناسب سياسةُ التعليم مع ضرورات تجديد المشروع التحرّريّ الوطنيّ ضدّ الاستعمار، أمْ أنّها سياسةٌ تلهث بغباءٍ خلف متطلّبات السوق الرأسماليّة الساعية إلى اقتصادٍ تابعٍ وملحقٍ حتى العظم؟
2) ما مصير العلاقة الإنسانيّة الوجاهيّة بين طرفَي العمليّة الأكاديميّة، وهي علاقةٌ لا تقدّمُ وسائلَ أكثرَ فاعليّةً في تطوير المهارات والقدرات على التعلم الذاتيّ فحسب، بل تقدّم أيضًا بيئةً أكثرَ دفئًا لبناء شخصيّة الطالب؟
3) ما مصير الحياة الطلّابيّة بكلّ تنوّعاتها، النقابيّة والوطنيّة والترفيهيّة والثقافيّة، وهي حياةٌ تؤدّي الدورَ الرئيسَ في بلورة الشخصيّة الإنسانيّة؟ أقول ذلك من واقع معايشة مراحلَ عدّةٍ من الحياة الجامعيّة منذ السبعينيّات حتى اليوم، وألحظ الفرقَ بين حياةٍ طلّابيّةٍ نشطةٍ وفاعلةٍ وبين حالة مأساويّة سيظلّ تأثيرُها طويلًا إنْ بقيتْ هذه الحياةُ معطّلةً نتيجةً للتعليم عن بُعد!
فلسطين المحتلّة