التحدّث يُنقذ النفوس: تغيير نظرة المجتمع اللبنانيّ إلى الصحّة النفسية
28-11-2018

 

يشتعل الحوارُ عن الصحّة النفسيّة في لبنان. ففي حين يؤْمن البعض بأنّنا ما زلنا في بداية الطريق، فإنّ من الأسلم القول إنّ السنوات الخمس الماضية ـــ وتحديدًا الأشهر الستّة الماضية ـــ شهدتْ تغييرًا كبيرًا في حالة الوعي بالصحّة النفسيّة وبمواردها في لبنان. وقد جاء هذا التغيير نتيجةً لسنواتٍ من البحث الأكاديميّ، والتعبئة، وحملات التوعية، ونتيجةً أيضًا لاستراتجيّةٍ وطنيّةٍ للصحّة النفسيّة كانت قد أطلقتْها وزارةُ الصحّة العامّة سنة 2014.

إنّ مفهومَي "المرض النفسيّ" (mental illness) والسعادة أو الرفاهة النفسيّة (mental wellbeing) ليسا جديديْن في لبنان. فالحال أنّ الحروب والاضطرابات التي عاناها هذا البلد خلّفتْ أثرًا واضحًا في الأجيال التي عاشتها، فضلًا عن الأجيال التي أثارتها؛ ولذلك يَستخدم اللبنانيون خدماتِ الصحّة النفسيّة منذ سنواتٍ عديدة، وإنِ اقتصر ذلك على شريحةٍ ميسورةٍ قادرةٍ على تحمّل تكاليفها وتعي حاجتَها إليها.

إنّ كلفة الرعاية الصحّيّة النفسيّة،[1] وقلّةَ الوعي بأعراض الأمراض النفسيّة، والوصمةَ المجتمعيّة العميقة التي يوصم بها المرضى النفسيون: هذه جميعُها عوائقُ رئيسةٌ تَحُول دون حصول المواطنين اللبنانيين على خدمات الصحّة النفسيّة. وهذه العوائق تواصل خلقَ فجوةٍ في نظامنا ــ ــ  نظامِنا الذي يمارس التمييزَ ضدّ جزءٍ كبيرٍ من السكّان حين يتعلّق الأمرُ بخدمات الرعاية الصحّيّة التي يعتبرها الكثيرون حاجةً إنسانيّةً أساسيّة.

إنّ الصحّة النفسيّة الجيّدة، وإمكانيّةَ الحصول على خدمات الرعاية الصحيّة في حال التعرّض لمرضٍ نفسيّ، هما من الأساسيّات الضروريّة، شأن الصحّة الجسديّة الجيّدة وإمكانيّةِ اللجوء الى طبيبٍ عند المرض. غير أنّ تلك حقيقةٌ لا يزال صعبًا على الكثيرين فهمُها. وأحدُ أسباب ذلك أنّ الصحّة النفسيّة في المجتمع اللبنانيّ تتعرّض للوصم والتعيير. فالاعتقاد الخاطئ أنّ صحّة الشخص النفسيّة صفة لازمة لشخصيّته وذاته ــ وهذا أمرٌ يستطيع أن يتحكّم به ويسيطرَ عليه ــ  تفكيرٌ ما يزال شائعًا في البلد. ونتيجةً لهذه الآراء المفتقرة إلى المعلومات الصحيحة، يُحكم على مَن يعانون مرضًا نفسيًّا بالضعف، وبالحاجة إلى نوع من النظام أو الإرادة القويّة.[2] ففي وطننا لا يُنظر إلى المرض النفسيّ كما هو حقًّا، أيْ في وصفه مرضًا. ولذلك بدلًا من إخضاع المريض النفسيّ للعلاج النفسيّ، يأتي الجواب، ببساطة، على صيغة: "شدّْ حالَك!"

                                                                                                                     

أثر الوصم أو التعيير

هذه المفاهيم الخاطئة تعني أنّ مَن يعانون مرضًا نفسيًّا حذرون، بشكل خاصّ، من إثارة موضوع مرضهم النفسيّ ولو أمام الأصدقاء المقرَّبين أو عائلاتهم، لأنّ ذلك غالبًا ما يؤدّي إلى مشاعر الإحراج أو الشكّ أو الخجل.

أكثرُ المشاعر تردادًا داخل عيادة طبيب نفسانيّ أو معالجٍ نفسيّ في لبنان هي انعكاسٌ لشعور الذنْب والعار ذاك: "مشاعري أسخفُ، ومشكلتي أتفهُ، من أن أناقشَها هنا. عليّ أن أحتفظَ بها لنفسي، وأن أتماسك." هنا، عليّ أن أؤكّد أنّ هذا الشعور خطير فعلًا؛ فهو يَحرم صاحبَه الحاجةَ الأساسيّةَ إلى أن يُنظر إليه كإنسانٍ طبيعيّ، وأن يُعتبرَ ألمُه ومعاناتُه ومَواطنُ هشاشته أمورًا مشروعةً.

الأمر الإيجابيّ في لبنان هو أنّ هذه المفاهيم الخاطئة عن المرض النفسيّ تتغيّر، وإنْ ببطء. فالناس، عائلاتٍ وأفرادًا، باتوا يتفهّمون هذه الحقائقَ العلميّة. وعلى الرغم من أنّ السبب الحقيقيّ لمعظم الأمراض النفسيّة يبقى غيرَ معروف، فقد أصبح واضحًا من خلال الأبحاث والدراسات أنّ العديد من هذه الأمراض ناجمٌ عن خليط من العوامل البيولوجيّة والنفسيّة والمجتمعيّة. وتمنح الحملاتُ الوطنيّة، فضلًا عن مواقع التواصل الاجتماعيّ، هذه المعلوماتِ فرصةً للانتشار بشكلٍ أسرع وأكثر فعّاليّةً ممّا كانت عليه سابقًا. ويقوم أخصّائيّو الصحّة النفسيّة، والمنظّماتُ غير الحكوميّة، والمؤسّساتُ الأكاديميّة والحكوميّة في لبنان ـــ كلٌّ بطريقته الخاصّة ـــ بتثقيف الجمهور عن الصحّة النفسيّة، وذلك من خلال فتح مجال الحديث، والمطالبةِ بالمزيد من الموارد وفرصِ الحصول على العلاج.

إنّ التحدّث ينقذ النفوس: فإجراءُ حوارٍ مفتوحٍ وصريحٍ عن الصحّة النفسيّة يمكن أن يساعد المرضى النفسيين، وهذا الحوار المفتوح يكتسب اليومَ زخمًا كبيرًا. والحقّ أنّ تقديم حوار مرهف وصحّيّ حول الصحّة النفسيّة إلى عامّة الناس هو ما تفعله جمعيّةُ Embrace (احتضنْ) منذ خمسة أعوام. فنحن نقوم بحملات متعدّدة، كـ"أكيد رحْ فيق،" و"فِكّوا العقدة." ولدينا نشاطٌ سنويّ بعنوان "إلى الفجر،" وهو عبارة عن مسيرات لدعم ضحايا الانتحار وعائلاتهم. وتوّجنا عملَنا بـ"خطّ Embrace الساخن،" وهو الخطّ الهاتفيّ الأوّل في لبنان والشرق الأوسط للمساعدة على تفادي الانتحار في لبنان. وبذلك كلِّه نزعنا الأقفالَ عن "وصم" المرضى النفسيين بالعار. ونحن، كجمعيّة، مستعدّون لاحتضان المرضى النفسيّين والمشاركة في تحمّل مسؤوليّة تغيير نوعيّة الحياة وتحسينها.

بيروت


[1] تتراوح كلفة الجلسة الواحدة للمُعالج النفسيّ بين 60 و80 دولارًا أمريكيًّا، وتترواح كلفةُ زيارة الطبيب النفسيّ بين 65 دولارًا و100 دولار أمريكيّ. 

[2] كأن يقال له: "ضعيف،" "حسّاس زيادة،" "مجنون"...

 

ميا عطوي

معالجة نفسيّة عياديّة وعضو مؤسِّس في جمعية  Embrace، وهي جمعيّة لا تتوخّى الربح وتعمل على رفع مستوى الوعي بالصّحة النفسيّة في لبنان والشرق الأوسط.

نور صفي الدين

 صحافيّة وعاملة في الشأن الاجتماعيّ. أشرفت على موقع مجلة الآداب الإلكترونيّ بين نيسان  ونهاية تشرين الثاني من العام 2018. كتبتْ في العديد من الجرائد المحلّيّة والعربيّة. صدر لها في الشعر: أردتكَ عندما رحلتَ، وحين تراكم الموتُ ولم يأتِ. وهي في صدد كتابة رسالة الماجيستير في علم الاجتماع.