التعليم الإلكتروني: الحلّ السحريّ المفقود
10-11-2020

 

 

لم يعد المعلّمُ أو المعلّمةُ المصدرَ الوحيدَ للمعرفة. ولم يعد التلميذُ ينتظرهما ليعرفَ "كلَّ شيء،" بل بات يستقي معرفتَه من مصادرَ مختلفة، وينظّمُها في عقله، ويعالجُها، ويجدُ حلولَه استنادًا إلى حاجاته. فنراه مثلًا يكتب العربيّةَ بالأحرف اللاتينيّة لتفادي أخطاء الطباعة والإملاء بلغته، التي قد لا يتقنُها. حاجةُ التلميذ إلى التعبير والتواصل أكبرُ من حاجته إلى الكتابة بالأحرف العربيّة الصحيحة؛ فنحن لم نقِّدمْ إليه الأدواتِ وطرقَ التعليم والمناهجَ المحدّثةَ والفلسفةَ المناسبةَ لمتطلّبات العصر، ولا المعرفةَ المتكيّفةَ مع حاجاته.

النظام التعليميّ العالميّ، ككلّ، هو موضوعُ مساءلةٍ وتقويمٍ دائميْن. وجائحةُ كوفيد-19 فَرضتْ شروطَ الحجْر والتباعد، وهذا وضعٌ قد يطول ويحتاج تدخّلًا طارئًا. أمّا ربطُ الجائحة بالتعليم الإلكترونيّ فإجراءٌ قسريّ، أساسُه إلحاحُ شروط التباعد وتقويمُ النظام التعليميّ ككلّ. وطرحُه بقوّةٍ في هذه الظروف هو استقدامُ معالجةٍ آنيّةٍ لمشكلةٍ جوهريّةٍ مطروحةٍ وغيرِ محلولةٍ منذ عشرات السنوات.

مع تغيّر الأدوات والتكنولوجيا والعوالمِ الافتراضيّة والمنظوماتِ القيميّة والعلاقاتِ الاجتماعيّة واللعبِ والتواصلِ والترفيه، وجب علينا التفكيرُ في إعادة صياغة عالمنا الواقعيّ، ولاسيّما تغيير نظامنا التعليميّ. نعرف سلفًا صعوبةَ تحقيق ذلك بالمخزون المعرفيّ والتربويّ الذي يملكه معظمُ أصحاب القرار، ومدى مقاومتهم لهذا التغيير. وها نحن اليوم نضع المخضرَمين والمفكّرين والتربويّين في مواجهةٍ مع التكنولوجيا والحداثة، بينما الأجدى تكاملُهما لإنتاج بدائلَ ناجعةٍ، بدلًا من نشر التضليل المضمَر في السؤال "هل سيحلّ الكومبيوتر محلَّ المعلّم؟"

هذا الصندوقُ الأسود، المسمَّى الكمبيوتر أو الذكاءَ الاصطناعيّ، هو أسوأُ مخاوفنا، حتى ليُضْمرَ له بعضُنا الموتَ! فنحن لا نملك مفاتيحَه ولا لغتَه، لأنّه في أيدي مهندسي البرمجة المختصّين، وشركاتِ البرمجة والتقانةِ المتقدّمةِ العالميّة. إنّه عالمٌ مقفلٌ، له أسيادُه خارج منظومة الإنتاج المعروفة، ويتحكّم بالأدوات والعوالمِ الافتراضيّة، وبالعلاقاتِ الاجتماعيّة، وبتواصلنا وألعابِنا وفرحِنا، فيجعلنا "أفاتار" في عوالمهم.

 

التعليم الإلكترونيّ والمعلّمُ الإنسان

مع تغيّر وظيفة المعلّم من نقلِ المعرفة إلى تيسيرِها، فإنّ من المفترض أن تتركّزَ وظائفُه على المهاراتِ العليا في "هرَم بلوم" (التحليل، التقويم، الابتكار)، وذلك لكون المهارات الدُّنيا (التذكّر، الفهم، التطبيق) هي البنيةَ الأساسيّةَ الطاغية في عمليّة التعليم الصفّيّ حاليًّا.

غير أنّ صعوبةَ انتقال المعلّم من التعليم إلى التيسير لا علاقةَ لها، هي الأخرى، بعوالم التقانةِ والكمبيوتر، بل بفلسفة التعليمِ والتأهيل، وبمنهجيّاتِ التعليم وطرُقِه. ففي سبعينيّات القرن الماضي، وبعد اعتماد البصريّات والسمعيّات والفيديو وسائطَ تعليمٍ صفّيّ، قاوم ما نسبتُه 80% من المعلّمين والمعلّمات توظيفَها صفّيًّا، بحسب بعض الدراسات الأوروبيّة.

المهاراتُ العليا هي أساسُ تكوين المتعلّم لأنّها تساعدُه على نماء شخصيّةٍ صحّيّةٍ اجتماعيًّا وغيرِ سلبيّة. لكنّنا في الواقع نصطدم بعوائقَ كثيرةٍ تَحُول دونها. فالمؤسّساتُ البحثيّةُ والتربويّة والجامعات، مع استثناءاتٍ مهمّة، جزّأت التعلّمَ إلى أهدافٍ يَغْلب عليها البعدُ التراكميُّ المعرفيّ، ووظّفتْها في معالجةٍ نمطيّةٍ موضعيّة لا تبني فكرًا محلِّلًا وناقدًا أو متّقدًا بالابتكار. ولكنْ، كم من المعلّمين جرى تأهيلُهم لنقل المهاراتِ العليا إلى المتعلّمين؟ عندما اسْتُفْتي تلامذةُ الإمارات العربيّة المتحدة حول رؤيتهم المستقبلية للتعلّم، استشرفوا "المدرسةَ بلا معلّم" لأنّهم ببساطة لا يروْن في المعلِّم اليومَ مصدرًا للمعرفة، وأحلّوا مكانَه حاسوبًا ذكيًّا.

الأداء الوظيفيّ التقليدي للمعلّم ليس إلّا مهارةَ نقل المعرفة، وهو أمرٌ ممكنٌ. فحلُّ مسألةٍ معقّدةٍ مثل مكعّب "روبيك" ممكنٌ لمراهقٍ في الثانية عشرة بعد درس أنماط الحلول في الكتيّب وحفظِها، أمّا صياغةُ أنماط الحلول فأمرٌ شبهُ مستحيلٍ بالنسبة إليه. وهذا ينطبق على شهادات البكالوريا أو الشهادات الجامعيّة أو غيرها، ونغضّ الطرفَ عن أنّ هذا المتعلّم - في اليوم التالي - يَلْفظ غالبيّةَ ما اكتسبه قبيْل الامتحان. نرى هذا المشهدَ يوميًّا ونعتبرُه طبيعيًّا. حتى نحن، وأعني البالغين والباحثين والتربويّين، مررنا به وتناسيْنا جزءًا كبيرًا من مخزوننا المعرفيّ بعد الامتحان لأنّنا - بكلّ بساطة - لا نحتاجُه ولا نريدُه. المهارات العليا هي المستدامة إذا ما اكتُسِبتْ، وغالبًا ما تكون مجبولةً بالسلوك، لا تُمحى، بل تتحوّل عبر آليّة الاكتساب نفسِها.

 

 

المعلّم ليس معوِّقًا لعمليّة الانتقال الرقميّ للمناهج؛ بل الانتقالُ نفسه هو المعوِّق

 

المعلّم ليس معوِّقًا لعمليّة الانتقال الرقميّ للمناهج؛ بل الانتقالُ نفسُه هو المعوِّق. الفلسفة التربويّة والسياساتُ والخططُ وطرقُ التعليم ليست محدَّثةً، وهي البنيةُ التحتيّةُ للتعليم الرقميّ؛ فإمّا أن تستوعبَ الرقمنة وإمّا أن تلفظَها. أمّا رميُ الحمْل على المعلّم أو المناهج، أو على توفّر الإنترنت والتابلِت وغيرِهما من الأدوات، فهو أيضًا هروب.

وأمّا الحكمُ على عجز الدول فيجب أن يكونَ من منطلق إخفاقها في رؤيةٍ استباقيّةٍ مستقبليّةٍ للعمليّة التعليميّة، لا في احتساب تفاصيلَ لوجستيّة. ما قام به الوزيرُ اللبنانيّ إلياس بوصعب، على سبيل المثال، بتوفير المال والدعم لتحديث المناهج ورقمنتِها، ليس عملًا مكتملًا. ونحن نرى بوضوحٍ الأسبابَ اليوم. فالوزارة حينَها لم تضع فلسفتَها التربويّةَ المستقبليّة، ولم يضعْها أيُّ وزيرٍ لاحق، واقتصر عملُ الوزراء على حلولٍ موضعيّةٍ خارج الرؤى والسياساتِ التربويّة. وها نحن نبني اليوم وهمًا نسمّيه "التعليمَ عن بُعد" أو التعليمَ الإلكترونيّ أو الرقميَّ أو المنهاجَ الرقميّ، بينما كلُّ مكوّنٍ من مكوِّنات إنتاج الانتقال الرقميّ يعمل منفردًا، ولا نعرف فعليًّا ماذا نريد منه ولا ما يهدف إليه.

 

أين التعليمُ الإلكترونيّ أو الرقميّ في العالم اليوم؟

قد يشعر البعضُ بالاستفزاز عندما نقول إنّ تجاربَ الانتقال الرقميّ للتعليم، حتى اليوم، واهية. فالمنظِّرون والتربويّون والحاسوبيّون والمصمِّمون التعليميّون والقيّمون على المؤسّسات البحثيّة لم يصلوا إلى وضع أسسٍ نظريّةٍ لهذا الانتقال. كلُّ المحاولات تصبّ في خانة أدوات تعليمٍ رقميّةٍ أو إلكترونيّة، وهي في جوهرها تصبُّ في خانة رقمنة الأدوات عبر وسائطَ إلكترونيّة. فما نراه هو تخزينٌ لأفلام فيديو، أو انفوغرافيكس، أو نصوصٌ متحرّكة، أو رسومٌ، أو باور بوينت...

كلُّ أموال دول الخليج واستقطاب الخبراء لم تجعل التعليمَ الإلكترونيَّ مجديًا في زمن الكورونا. لذا علّقوا العملَ بالمنصّة التعليميّة الرقميّة التي كانت تؤدّي وظيفةَ المكنز لآلاف الأفلام والفيديوهات والدروس غير التفاعليّة، فلم تؤدِّ وظيفةَ التعليم ولم تستجبْ لحلم تلامذة الإمارات في "مدرسةٍ بلا معلّم."

كذلك حازت مكتبةُ الإسكندريّة على تمويلٍ ضخمٍ لرقمنة كتبها، وكان الحدث هو الإعلان عن مسحٍ ضوئيٍّ لعشرات الآلاف من الكتب؛ وكأنّ رقمنةَ مكتبةٍ هو في وضع كتبها في ملفّاتٍ صوريّةٍ رقميّة!

أمّا في العالم الغربيّ، فكلُّ التجارب أتت ناقصةً، وغالبيّتُها تسدّ ثغراتِ رقمنةِ مناهجِها بتنويع وسائل الإيضاح وطرقِ التعليم، مستندةً دائمًا إلى مناهجَ غيرِ رقميّة ومُعدّةٍ لتعليمٍ صفّيّ مع وسائل إيضاحٍ متنوعة، أيْ مستندةً إلى المعلّم. ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ معظمَ الدول المتقدّمة تربويًّا وتقنيًّا لم تضع بعدُ فلسفتَها لرقمنة التعليم ولا أدواتِها، وهي ما زالت تعمل بنظامها المدرسيّ الثابت، ولا أفقَ لديها في المستقبل المنظور للانتقال إلى رقمنة التعليم.

هناك بعضُ التطبيقات المتقدّمة لتعليم اللغات، وقد أعدّتها بعضُ مراكز الأبحاث. ولكنّها لا تزال تعاني مشاكلَ في التصميم، ويتطلّب التعديلُ عليها تدخّلًا من واضعي البرنامج الحاسوبيّ؛ وهذه عمليّةٌ مكلفةٌ جدًّا.

 

ما حاجاتُنا الآنيّة من التعليم الإلكترونيّ؟

نبحث عن تطبيقٍ إلكترونيّ يمكن أن يكون حلًّا موضعيًّا لأزمتنا الحاليّة، يؤدّي مهمّةَ نقل المعرفة حسب المنهاج المعتمد حاليًّا، لكنْ بوسائلِ إيضاحٍ مختلفةٍ ومتعدّدة. ثم يقوم التطبيقُ الإلكترونيّ بتشخيص نقاط الضعف لدى المتعلّم ويرشدُه إليها؛ وهذا ما يُعْرف بـ"التعلّم التكيّفي،" وهو نظامُ تقويمٍ ومتابعةٍ آليّ، شرط أن يكون التطبيقُ متوفّرًا في أيّ وقت، وشرط إمكانيّة التشارك مع أنداده في مجموعاتٍ صغيرةٍ أو كبيرة.

هذه خصائصُ متوفّرةٌ في التطبيقات التعليميّة غير المتزامنة مع تغذيةٍ راجعةٍ ومتابعةٍ آليّة. وهي ممكنة جدًّا عند توفّر ثلاثة مكوّنات لتحقيق التطبيق:

1) التصميم التعليميّ المرِن والتفاعليّ والتكيّفيّ، مع تغذيةٍ راجعةٍ آليّةٍ لكلّ إجابة، ونظامِ تقويمٍ وتصحيحِ مسار مترابطٍ مع البيانات المعرفيّة المحدّدة في المنهاج.

2) محتوى مرح ومتفاعل مع الحياة اليوميّة، وقواميس معرفيّة، وقواعد وطرق تعليمٍ متعدّدة، وألعاب تفاعليّة، وتنوّع موارد.

3) واجهة استخدام بسيطة، سهلة الاستخدام، تُموضع المتعلّمَ على الخارطة المعرفيّة لكلّ مادّة، وتُوضح له مسارَه بشكلٍ يناسب فئتَه العمريّة.

المكوِّنات الثلاثة يجمعها محرِّكٌ رقميٌّ مبنيٌّ على القواعد لتقليص احتمالات الخطأ في التعلّم.

فالذكاء يكمن في إيجاد حلولٍ لوضع وسيطٍ رقميّ على قياس الحاجة، والتأكّد أنّ هذا التطبيق يتناغم والحاجاتِ الأساسيّةَ للمرحلة، وييسّر العمليّةَ التعليميّة في حدّها الأدنى.

بيروت

نعمة نعمة

باحث في التربية والفنون من لبنان. دبلوم دراسات عليا-قسم المسرح. طالب ماستر في مركز علوم اللغة والتواصل. مدرِّب على استخدام الوسائل السمعيّة البصريّة في التعليم. مصمّم تعليميّ.