التعليم الشعبيّ في الانتفاضة الأولى
24-12-2018

 

يقوم مفهومُ "التعليم الشعبيّ،" بشكل عامّ، على تقليد الآخرين والتعلّم منهم عبر المراقبة والملاحظة: فالحِرَفيّ يعلِّم العاملين معه الحرفةَ بالمعاينة والتدريب؛ والشابُّ الذي يجلس في ديوان العائلة يتعلّم ممّن يكبرونه سنًّا كيف يتقن التعاملَ مع الناس، ويتعرّف منهم على العادات والتقاليد الخاصّة بمجتمعه؛ وهكذا.

و"التعليم الشعبيّ" مصطلحٌ واسع، له أسسُه وظروفُه وسياقاتُه. وفي فلسطين، في ظلّ الانتفاضة الأولى، أصبح له معنًى آخر وأبعادٌ جديدة؛ فقد صار عنوانًا للصمود والتحدّي ومواجهة الاحتلال.

 جاءت فكرةُ التعليم الشعبيّ رفضًا للواقع الذي فرضتْه سياساتُ الاحتلال. وتجسّدتْ هذه السياسات في إغلاق المدارس فتراتٍ طويلةً، لكونها مركزًا للفعّاليّات الوطنيّة، ونقطةَ انطلاق الطلبة إلى التظاهرات والمواجهات؛ كما تجسّدتْ في فرض العدوّ سياسةَ منع التجوّل ساعاتٍ طويلةً أو أيّامًا.

بدأتْ فكرةُ التعليم الشعبيّ، بالمفهوم الفلسطينيّ، من خلال نشاط "لجان الأحياء." وقد بدأت هذه اللجان نقاشَ كيفيّة دمج جميع شرائح المجتمع في الانتفاضة. فطُرح العديدُ من الأسئلة، من بينها: "لِمَ لا يكون هناك دورٌ للشعراء؟" و"لِمَ لا يكون هناك دورٌ للموسيقيين، وللمغنّين الوطنيّين الملتزمين؟"

 

منذر جوابرة، من معرض "ما كان يُعرف"، أكريليك على قماش، 2012.

 

هكذا بادرتْ مجموعةٌ من المثقّفين والشعراء إلى إنتاج شرائط تسجيليّة (كاسيتات) للأشعار والأغاني الوطنيّة والحماسيّة. فصدر شريطُ كاسيت بعنوان: ا ن ت ــ ــ وهي الحروف الثلاثة الأولى في كلمة "انتفاضة." وقد بادر إلى ذلك الشريط الشاعرُ الفلسطينيّ الراحل حسين جميل البرغوثي، وآخرون.

إلى جانب لجان العمل الجماهيريّ، ولجانِ الاقتصاد البيتيّ، ولجانِ الحراسة، ولجانِ الزراعة، وغيرِها، شكّل المعلِّمون في الأحياء لجانًا خاصّةً بهم. وقد تضمّنت مهامُّ المعلّمين حصرَ أعداد الطلبة وأعمارِهم، وتوزيعَهم على الصفوف والمراحل، وإعدادَ البرامج المدرسيّة المطلوبة. وكانت تساعدهم في ذلك مجموعةٌ من المتطوّعين من طلبة الجامعات والمثقّفين.

انتشرتْ لجانُ التعليم الشعبيّة في العديد من المحافظات، ما جعلها مصدرَ قلق للاحتلال. فقام بمحاربتها من خلال ملاحقة الناشطين والمدرّسين الذين يشرفون على أنشطة التعليم الشعبيّ. كما اقتُحم العديدُ من البيوت التي احتضنتْ هذه الأنشطة. بل جرى أيضًا اقتحامُ الجوامع، التي كانت ساحاتٍ لذلك التعليم أحيانًا، وطُوّقتْ بالجنود، ومُنع المواطنون من الوصول إليها. غير أنّ ممارسات الاحتلال هذه لم تدفع الفلسطينيين سوى إلى المزيد من التحدّي والإصرار على المواجهة.

 

منذر جوابرة، من معرض "ما كان يُعرف"، أكريليك على قماش، 2012.

 

أظهرت الانتفاضةُ الأولى قدرةَ الشعب الفلسطينيّ على المواجهة والتكيّف. وأبرزت التنوّعَ في القدرات، فجرى توزيعُ المهامّ بحسب القدرات المختلفة. فعلى سبيل المثال، مَن عجز عن المشاركة في المظاهرات كان قادرًا على المشاركة في أيّ نشاط تعليميّ أو غير تعليميّ آخر. هكذا تكاملت الأدوار، وانخرطتْ في العمل الوطنيّ والنضاليّ كافّةُ الفئات العمريّة والطبقات الاجتماعيّة.

اللافت أنّ أدوار الجميع لم تكن مدفوعةً بنظام صارم وقوانين، بل كانت تحفّزها في الأساس روحُ العطاء والإخلاص للانتفاضة ولبرامجها وأهدافها.

الجدير ذكرُه أيضًا أنّ الجامعات الفلسطينيّة استفادت من نظام التعليم الشعبيّ، إذ أقامت برامجَ دراسيّةً تعويضيّةً للطلبة في فترة إغلاق الجامعات، وذلك في البيوت والمؤسّسات التي لم يَطُلها الإغلاق. وهنا لا بدّ من التنويه بتجربة جامعة بيرزيت، التي استطاعت تخريجَ عددٍ لا بأس به من الطلبة خلال تلك الفترة.

لقد أثبتت الانتفاضةُ الأولى، بمختلف أنشطتها وأساليبها النضاليّة، وعلى رأسها التعليمُ الشعبيّ، أنّ نضال الشعب الفلسطينيّ قادر على الاستمرار، وقادر على تجديدِ أساليبه، والتكيّفِ مع المتغيّرات السياسيّة وإجراءاتِ الاحتلال.

رام الله - فلسطين المحتلّة

امين عنّابي

من نشطاء الانتفاضة الأولى. رئيس مجلس إدارة مركز القدس للمساعدة القانونيّة وحقوق الإنسان. حاصل على شهادة الماجستير في المرأة والتنمية والقانون. وهو حاليًّا مدير عامّ الإدارة العامة للأشخاص ذوي الإعاقة في وزارة التنمية الاجتماعيّة.