السوريّون بعضُهم... والبقيّة من الأخبار
18-03-2016

 

 الغربة إهانة أحيانًا.

***

السوريّون الذين هاجروا، كلّما سمعوا نشرةَ الأخبار، شعروا بضيقٍ في التنفّس، بغصّة في القلب، بمرارة وملوحة في الحلق. نشرة الأخبار تجعلهم يهرمون باكرًا.

السوريّون الذين لم يهاجروا، بعضُهم موتى... والبقيّة هم الأخبار!

***

الغربة هي أن تسهر حتّى الصباح على الفايس بوك لتتحدّث مع أصدقائك خارج الوطن. هم الأصدقاء عينهم الذين كنت تسهر وإيّاهم في غرفة واحدةٍ حتّى الصباح!

***

وأنا أدخل الفايس بوك، كتبتُ كلمة السّر غيرَ صحيحة. قال لي الفايس بوك: "أنت لست رامي!" أجبته: "ألا تتذكّرني؟ أنا الذي كتبتُ البارحة شعرًا لعباس كيارستامي، ولشعراء يابانيين على حائط أصدقائي!"

فأدخلني من دون كلمة السر.

دائمًا، حتّى في العالم الافتراضيّ، الأصدقاءُ هم كلمة المرور.

***

كنت أتأخّر عن البيت، وكانت أمي تخبّئ لي حصّتي من الحلوى والفاكهة في صندوقٍ بلاستيكيّ خاصّ، وتضعه في البراد. كانت لا تسمح لأحدٍ بأن يأكلها.

مَن هجر بلاده، كلّما أحسّ بالتعب، فَتح صندوقَ الرسائل على الفايس بوك والهوتميل و... إنّه فارغ مع أنّ أمّه خبّأت له حصّته...!

الغربة لصّةٌ تملك أصابع عازفي البيانو.

***

المشهد ناقص وبشدّة، رغم أنّ الكؤوس والأطباق ممتلئة على الطاولة. لقد هاجر الأصدقاء.

***

حين تهاجر، تفقد قدماك ذاكرتهما. كلّ الشوارع والأزقة في بلادك تصبح من الماضي.

أصدقائي: قبل أن تهاجروا، اتركوا أحذيتكم أمام منزلي لأحتفظ بها. اتركوا جواربكم المتّسخة لأغسلها. غدًا ستعودون؛ فالعيش لا يطاق بقدمين بلا ذاكرة.

***

الغربة ليست أمّك. إنّها زوجة أبيك القاسية، وأنت اليتيم جدًّا.

***

 الذين هاجروا يقضون نصف حياتهم على مواقع التواصل الاجتماعيّ. والذين لم يغادروا يفعلون ذلك أيضًا.

هل نحن وحيدون لهذه الدرجة؟

***

هناك عتباتُ منازل يمْكنها أن تميّز بين الضيوف والأصدقاء.

***

هجرة الأصدقاء مزاحٌ لا يُحتمل.

***

زقاقٌ صغير في مدينتي ممتلئ بالحفر لهُوَ أكثرُ ازدحامًا بالذكريات من شوارع أوروبا كلّها. وبضحكة واحدة يمكنك القفز فوق كلّ الحفر.

***

صديقتي التي سافرتْ إلى أوروبا تسألني:

مقطوعة الكهرباء في اللاذقية؟
أجيبها: إنّها تمطر بغزارة.
تكرّر السؤال، فأخبرها أنّي لن أجيب، وأضحك.
ياصديقتي، الشوارع الفرعيّة والأزقّة في مدينتي مضاءة دومًا بضحكات الذين غادروها.

***

السوريّون بنوْا منازلهم بطريقة تشبه قلوبهم: باب مفتوح يعبرهُ الأصدقاء، شبابيك ملوّنة تحرّك ستائرَها الضحكاتُ.

صوتُ الرصاص من الغرباء، ولا يعرف الضحك.

***

عازفو البيانو واللصوص يملكون جمالًا وخفّة في أصابعهم. أصدقائي الذين هاجروا يملكون تلك الأصابع. ذات ليلة، وبالرغم من أنّي أوصدتُ بابَ غرفتي جيدًا، فإنهم سيتمكّنون من فتحها من دون أن أشعر، هاتفِين بصوت واحدٍ: "هييييييه... لقد عُدنا أيّها الوغد."

***

أيّها الأصدقاء، وأنتم على باب الطائرة، لا تلتفتوا إلى الوراء. لوّحوا لنا، فقط، بيدكم اليسرى. لنحتفظْ بمناديلنا جافة كي نمسح بها كؤوس النبيذ احتفالًا بعودتكم بعد قليل.

***

رئة لي وأخرى لأصدقائي. فالأصدقاء الذين هاجروا لهم حصّةٌ من هواء بلادهم. سنخبّئها لهم إلى أن يعودوا، حتّى لو تأخروا.

***

حين يغادر الجميع المنزلَ، آخرُ من يخرج يغلق البابَ خلفه. باقٍ أنا إلى أن يهاجر آخرُ الأصدقاء، كي أغلق باب المدينة خلفه.

***

الهجرة خيانة مبرّرة ومشروعة... خيانة للمكان وللذكريات وللأصدقاء.

هذا النوع من الخيانة يحتاج إلى الشجاعة.

***

منازل السوريين لم تكن تهزّ جدرانَها سوى الضحكاتِ العالية، وصوتِ الموسيقى والرقص. أبوابُ منازلهم لم يكن يقتحمها فجأة سوى الأصدقاء.

***

على جذع الشجرة المقطوع توجد خطوط على شكل دوائر، تدلّ على عمر الشجرة.
المغادرون على باب المطارات، الحنينُ في داخلهم يشبه تلك الخطوط. ومع أوّل لحظة تقلع فيها الطائرة تزداد الدوائر. الدائرة شكل هندسيٌّ جميل... وحبلُ مشنقةٍ أيضًا.

***

كلّنا موتى غدًا، ولا فرق بين ميتٍ وآخر سوى في عدد الضحكات واللحظات الجميلة التي عاشها. صديقي الحقيقيّ هو من سيكتب على قبري:

"هذا الوغد مات وهو يضحك."

***

كلّما هاجر صديق لي أصنع طائرةً ورقيّة ملوّنة. سَربٌ من هذه الطائرات سيهبط ذات يوم قرب قبري حاملًا أصدقائي. آخر الواصلين سيروي لنا نكتةً، وسنضحك. القبر أكثر اتّساعًا ودفئًا حين تضحكون.
ملاحظة1: خبر موتي سيكون كاذبًا كي تأتوا.
ملاحظة2: لا تُحضروا أطفالكم معكم، لأنّنا سنسهر ونسهر.

***

الأصدقاءُ حصّتي من السكاكر اللذيذة في هذه الحياة، والهجرة أسراب النمل. لكنّ الذكريات معهم حقولُ قصبِ سُكّرٍ لا تنتهي.

***

حجم المطارات في بلادي لا يتناسب مع عدد الذين هاجروا.

***

في الغربة، ولأنّك تخاف من الوحدة، تزدحم غرفتُكَ بالذكريات والبكاء.

***

زيادةُ نسبة الأوكسجين في سوريا لا علاقة لها بكثافة الغطاء النباتيّ. كلّ سوري يموت يترك حصّته من الأوكسجين لسوريّ آخر سيموت غدًا.

الموتى هنا أشجارٌ خضراءُ بلا جذور.

***

الوقت، ياصديقي، أسرع من الأرنب في قصيدة سليمان العيسى. أتذكر الأولاد الذين كانوا يلعبون أمام المقهى منذ سنوات، ويملأون الدنيا بالغبار والضجيج؟ لقد كبرو في غيابكَ.

يفرح قلبي حين أرى أحدهم يدخل المقهى ممسكًا بيد حبيبته:"مرحبا عمو."

لقد أزالوا الغبار عن أحذيتهم وركضوا نحو الحبّ، تاركين كرة القدم في الزقاق وحيدة.

تعال من بلاد الغربة ياصاحبي، تعال لنلعب بلا حَكمٍ وبلا مرمى. نلعب فقط من أجل أن نستمتع، ونملأ المدينة بالغبار والضجيج والضحك.

لقد كبرنا ياصديقي فجأة بينما كنا نتقاسم الضحك! أظنّ أنّه من الصعب أن يستمرّ العيش مع شخص لا تتقاسم معه الضحك والمشاجرات.

بيني وبينك أكثرُ من مليون ضحكة، والكثير من المشاجرات حول السينما والشعر.

اللاذقيّة

رامي غدير

كاتب سوريّ من موااليد 1978. نشر نصوصًا في صحفٍ ومواقع عديدة.