العنف في التحليل النفسي
25-07-2018

 

العنف من  أبرز الظواهر التي صاحبت الكائنَ البشريّ. فالإنسان لم يصنع الأسلحة في بداية حياته، دفاعًا عن وجوده، إلّا وهو يرمي إلى الفتك بالآخر.

صحيح أنّ هذه النزعة ليست وقفًا على الإنسان، بل تتجلّى في الحيوان المفترس أيضًا. غير أنّ هذا الحيوان يكفّ عن الشعور بحاجته إلى العنف متى أشبع حاجتَه الضروريّة. أمّا الإنسان فقد يُقْدم على العنف دونما حاجة، بل هو يتلذّذ به أحيانًا، ويبرّره، ويضفي عليه صفةَ القداسَة، ويعتبره تنفيذًا لأوامر إلهيّة!

في بداية تكوّن المجتمعات البشريّة، ارتبط العنفُ بحاجات الحياة، قبل أن يتطوّر مع النزاعات القبليّة. في مراحل العبوديّة اعتمد على قوانين البطولة، التي جعلت الإنسانَ ملهاةً: فكان الناس يستمتعون بمشهد بطلهم وهو يُصارع الحيواناتِ الضارية. واليوم، بلغ العنف ذُرًى غير مسبوقة، مع استخدام أشدّ أنواع الأسلحة فتكًا وحرقًا وتشويهًا وتدميرًا.

فكيف نفهم كلَّ هذا العنف الذي عجزت البشريّةُ حتى اليوم عن الحدّ من انتشاره، على الرغم من خطابات "التسامح الدينيّ" و"عقلانيّة التنوير"؟

 

أسباب العنف

تتعدّد أسبابُ العنف، وتتنوّع مصادرُه ومثيراتُه. ففريقٌ يُرجعه إلى أسباب نفسيّة، وفريق يعزوه إلى عوامل إدراكيّة.

بعض علماء النفس يروْن أنّ مقترفي العنف سبق أن تعرّضوا لاضطرابٍ عقليّ حادّ، ولذلك تكون دوافعُهم خليطًا مشوّشًا من الخيالات والشعور بالغبن.[1] وآخرون يردّون العنفَ إلى إحباطٍ ناتجٍ من التنشئة الأُسَريّة (بما فيها من عقابٍ بدنيّ أو نفسيّ، ومن تسلّط أبويّ،...). ويشدّد فريقٌ ثالث على الظروف الاقتصاديّة، وضغوطِ الحياة اليوميّة.[2] وينسبه فريقٌ رابع إلى التهميش الاجتماعيّ الذي يَفرض على بعض الفئات دورًا رئيسًا في زعزعة سلامها النفسيّ، بحيث يغدو العنفُ بمثابة "مَخرجٍ تفريغيّ انتقاميّ."[3] ويردّ فريقٌ خامس العنفَ إلى عواملَ ثقافيّة، من قبيل رفض تقبّل الحوار، وانخفاض قيمة احترام الآخر.[4] ويركّز فريقٌ سادس  أو سابع أو ثامن على أمور أخرى، مثل دور الإعلام، وأفلام العنف، وغير ذلك.[5]

 

العنف الأسريّ وآثاره

تؤكّد الدراسات أنّ الأطفال الذين يتعرّضون للعنف الأسريّ يتحوّلون إلى بالغين يتّسمون بالسلوك العنيف هم أيضًا. هكذا نكون أمام ظاهرة "التماهي مع المعتدي": فمَن كان ضحيّةً للخوف يحاول أن يُخيفَ مَن هم أضعف منه، ومن كان ضحيةً للعدوان يمارس العدوانَ على من هم أقلّ قوّةً منه.

من مخاطر العنف الأسريّ أنه يُحدث خللًا في نسق القيم، واهتزازًا في الشخصيّة، خصوصًا لدى الأطفال؛ ما يؤدّي على المدى البعيد إلى خلق أشكالٍ مشوَّهةٍ من العلاقات والسلوك.[6] فإذا كانت الأسرة هي الخليّة المنبِتة للحضارة،[7] فإنّ الطفل المعافى هو نتاجٌ لأسرةٍ سعيدة ــ ــ وأهمُّ عناصر الطفل السعيد أن يتلقّى من أسرته إشباعًا لحاجته إلى الحبّ والانتماء.

 

 

تؤكّد الدراسات أنّ الأطفال الذين يتعرّضون للعنف الأسريّ يتحوّلون إلى بالغين يتّسمون بالسلوك العنيف

 

العنف الدينيّ

هذا أبرز أنواع العنف اليوم، وبخاصّةٍ في العالم العربيّ والإسلاميّ. وهو يتّخذ إحدى الصور الآتية: العنف في إطار الدين الواحد ولكنْ بين مذاهبَ مختلفة، والعنف بين جماعاتٍ تنتمي إلى الدين والمذهب ذاتهما، والعنف الموجّه من جماعة دينيّة إلى أخرى.

في عصرنا الراهن تنمو ظاهرةُ " أدلجة الدين،"[8] وتتّخذ صورتين: الأدلجة التقليديّة، حيث يتمّ التشديدُ على قيم التقوى والولاء؛ والأدلجة الثوريّة، وفيها تُستدعى نماذجُ من الماضي لتأكيد القيم الاجتماعيّة المبنيّة على فكرة المساواة.

حاليًّا نشهد تحوّلًا في بعض الخطابات الدينيّة باتجاه أقصى التطرّف والتقوقع والنبذ والتكفير والإقصاء لكلّ مخالفٍ في الرأي أو العقيدة.[9] "الهويّة" في هذه الحالة مؤسّسةٌ للإدانة، أو ذاكرةٌ موتورة، أو جرحٌ نرجسيّ لا يلتئم. ولذا، فهي دائمًا مستنفرة ضدّ عدوّ داخليّ أو خارجيّ.[10] وهذا الموقف يبلغ أقصاه، اليوم، لدى جماعات أمثال "داعش،" تزيِّن لهم نرجسيّتُهم الدينيّة أنّهم مُلّاك الحقيقة والعقيدةِ النقيّة، وأنّهم يحتكرون الحلولَ الناجعة لمعالجة مشكلات الإنسان المعاصر.

عقولٌ كهذه تولِّد الفوضى، وتُنتج الرعبَ والدمار. يقول بول ريكور: "أخشى أن يتحوّل عندنا النصُّ الدينيّ، الذي أراده الوحيُ رسالةَ محبّة وتعاون بين البشر، إلى شرٍّ نتيجةً التفسير الحرْفيّ الخاطئ لبعض النصوص بدافع الجهل أو التعصّب الأعمى."[11]

 

التحليل النفسيّ للعنف

سعى فرويد إلى دراسة الجانب "الغامض" من النفس البشريّة بغية إبراز حقيقة أنّ الإنسان ليس بذلك الكائن "الطيّب" كما يُزعم. فهو يعتقد بوجود بواعث معاديةٍ ضد المقرَّبين، مهيّأةٍ للاندفاع إلى الخارج. إنّها "عدوانيةُ كلّ واحدٍ ضدّ الكل، والكلّ ضدّ الواحد."[12] الإنسان ينزع إلى تلبية حاجاته العدوانيّة على حساب قريبه، وإلى استغلال عمله بلا تعويض، وإلى استعماله جنسيًّا من دون مشيئته، وإلى مصادرة أملاكه وإذلاله، وإلى إنزال الألم به واضطهاده، وصولًا إلى قتله.[13]

العنف والعدوان آليّةٌ من الآليّات النفسيّة الاجتماعيّة التي تسعى إلى إنهاء موضوع خوفها وعزلتها. وتشكّل الظروفُ الفرديّة والاجتماعيّة خزّانًا تتغذّى منه الميولُ العدوانيّة ضدّ الآخرين أو ضدّ الذات. العنف والعدوان آليّة تعويضيّة، وملجأ للهروب من الشعور بالعجز، وردُّ فعل ضدّ القلق.

 

بنية العصبيّة والعنف

لو تأمّل أحدُنا أحوالَ الأمن بين الأمس واليوم، لوجد أنّ الأمس أفضل بشكل عامّ، بدليل الإجراءات التي تُتّخذ لحفظ أمن الرؤساء والزعماء. فقبل عقود، كان بإمكان رئيس الوزراء أن يتجوّل في مدينة بيروت من دون حراسة؛ أمّا اليوم فإنّه يحتاج إلى كتيبة لحفظ أمنه فقط.

وإذا حصرنا حديثنا بالحالة اللبنانية، فلا شكّ في أنّ هناك مرضًا كيانيًّا وراء العنف الجماعيّ، يسُمّى التعصّب الطائفيّ والمذهبيّ. فهذا التعصّب، الذي هو من سمات المجتمع التقليديّ، يعزل الشبابَ عن المشاركة في صناعة القرار والمصير. وبذلك، يصبح التهميشُ هو الشريانَ الذي يضخّ جميع مقوِّمات العنف والتطرّف.

 

قبل عقود، كان بإمكان رئيس الوزراء أن يتجوّل في مدينة بيروت من دون حراسة؛ أمّا اليوم فإنّه يحتاج إلى كتيبة لحفظ أمنه

 

علاقة العنف بالبطالة

لمّا كانت غالبيّةُ الشباب الطامح إلى الارتقاء مصابةً بالإحباط، جرّاء ارتفاع البطالة وتنامي الآفاق المسدودة بعيْد التخرج، فقد تولّد لديها شعورٌ بفقدان الثقة بالذات وإمكاناتها. وقد يبقى الشبابُ في حالة تأزمّ غير قابلة للاحتمال، إلى أن تُكبت، أو تموَّهَ من خلال بطولات مستعارة وإنجازات وهميّة، مثل الحماس المفرط لهذا الفريق أو ذاك من فرق المونديال.

 

التنفيس عن الإحباط

يبدي معظمُ الشباب اللبنانيّ رضوخًا وتبلّدًا أمام إحباطاتهم، يخفيان غليانًا كامنًا ينتظر الظروفَ لإطلاقه. من علامات ذلك: إطلاقُ بعضهم الرصاصَ في الهواء الطلق، تعبيرًا عن الفرح أو الغضب أو الحزن، مفجّرين بذلك عنفَهم، غيرَ مبالين بمن قد تصيب طلقاتُهم، النابعةُ من غيظ مكبوت يبحث عن آليّة تصريفٍ عشوائيّة.
أفصح مثال على العنف الطائش يتجسّد في مباريات كأس العالم في كرة القدم اليوم. فقد أصبحتْ هذه المباريات المتنَفَّسَ الفعليَّ للغضب. إذ منذ  الإعلان عن المباريات تتشكّل لحظةُ استعادة الذات في تجربة جماعيّة تُدخل التوازنَ إلى النفوس المعذَّبة بالقهر والهدر والتهميش، فتنفجر مظاهرُ الشغب والعنف أثناء مشاهدة المباريات عبر الشاشات المتلفزة، على الرغم من غياب أيّ احتكاك مباشر مع الحدث الذي يجري على أراضي دولةٍ أخرى.

كما أنّ تصريف الحقد والغضب المحتقنيْن، اللذين يتعذّر توجيهُهما إلى مصدرالأذى الفعليّ (السلطة، رأس المال، الاحتكار،...)، يُحوَّل باتجاه جماعاتٍ أخرى أو أفراد آخرين يمكن النيلُ منهم. وتظهر ميولُ التشفّي وتبخيس الضعفاء في صور بديلة: كتعنيف عاملات المنزل، والاعتداءات الجنسيّة. فالفرد المظلوم، القاطنُ في وطنٍ ظالم، يحاول أن ينفي تبخيسَ ذاته وانعدامَ قيمتها، بإسقاطها على الآخر الضعيف العاجز.

بيروت
 

[1] عبد الرحمن العيسوي، سيكولوجيّة العنف والعدوان (دمشق: دار الأنوار، 2000)، ص 88.
[2] ليلى عبد الوهاب، العنف الأسريّ: الجريمة والعنف ضدّ المرأة (دمشق: دار المدى، 2002)، ص 16.
[3] فؤاد أبو حطب، علم النفس التربوي (مصر: دار النهضة، 1995)، ص 273.
[4]علي محسوب، العنف عند الأطفال والمراهقين (القاهرة: المركز القوميّ، 2000)، ص 100.
[5] أحمد زايد، العنف في الحياة اليوميّة في المجتمع المصري (القاهرة: المركز القوميّ، 2000)، ص 8.
[6] طريف شوقي، العنف في الأسرة المصريّة (القاهرة: المركز القوميّ، 2000)، ص 26.
[7] العنف في الحياة اليومية، مصدر سابق، ص 12 ــــ 13.
[8] محمد عبد المختار، الاغتراب والتطرّف نحو العنف (القاهرة: دار غريب، 1999)، ص 19.
[9] العنف في الحياة اليوميّة، مصدر سابق، ص 12 ــــ 13.
[10] محمد العدوي، أنماط العنف (القاهرة: المركز القوميّ، 2006)، ص 42.
[11] ليلى عبد الوهاب، مصدر سابق، ص 372.
[12] منى يوسف، نحو استراتيجية لمواجهة العنف في المجتمع المصري (مصر: المركز القومي، 2006)، ص 174.
[13] فؤاد هدية، "الفروق بين أبناء المتوافقين زواجيًّا وغير المتوافقين في كلٍّ من درجة العدوان ومفهوم الذات،" مجلة علم النفس، عدد12،  1998، الهيئة المصريّة، القاهرة

وفاء العسراوي

معالجة نفسيّة من لبنان. طالبة دكتوراه في المعهد العالي للدكتوراه في الجامعة اللبنانيّة، قسم علم النفس، السنة الدراسيّة الرابعة.