الغريب
04-05-2016

 

لا تضع بيرتكَ هنا أرجوك. ابحثْ عن مكانٍ آخر؛ الحانة مازالت فارغة.

***

منذ يومي الأوّل في عملي في هذه الحانة، وجدتُ هذا السيّدَ يحتلّ الزاويةَ اليمنى من الكونتوار. يشربُ البيرةَ واقفًا. لم يغيّر مكانَه الذي لا يقربه أحد، وكأنّ هذه الزاوية وُجدتْ له. يدخل البارَ عند الثامنة ليلًا، ويغادر عند منتصف الليل تمامًا. دقيقٌ في دخوله، ودقيقٌ في خروجه. رجلٌ أربعينيٌّ، بدين، متوسّطُ القامة، شعرُه طويلٌ أبيض، ولبشرته حمرةٌ عند الوجنتيْن.

ظلّ هذا الزبونُ الذي يلازم الصمتَ لغزًا. يكتفي بالتواصل معي عبر ابتسامةٍ وإشارة. هاتفُه، الذي يضعه كلَّ مرّةٍ أمامه بعناية، لم يرنّ مرّةً واحدة. يسكب البيرةَ في كأسه. يتأمّل رغوتَها، وعلى شفتيْه ابتسامةٌ حزينةٌ لا تفارق وجهه. مع القارورة الثانية يبدأ الشربَ بتلذّذ. تتتالى القواريرُ أمامه على الكونتوار، ويرفض إزالةَ الزجاجات الفارغة من أمامه. في الدقيقة الأخيرة قبل منتصف الليل يعدّ القوارير. يسلّمني الحساب من دون بقشيش، ويغادر الحانةَ من دون سلام ولا كلام.

في أحد الأيّام خرج هذا الغريب عن صمته مشيرًا إليّ بأن أقترب. دنوتُ منه. سألني:

ـــ  ما اسمك؟

ـــ زكريّا.

حملق في عينيّ مستغربًا وقال:

ـــ لا، لا يعقل هذا! زكريا اسمُ نبيّ، والأنبياءُ لا يوزّعون البيرةَ أيّها الشاب.

سحب سيجارةً من علبته. أشعلها. جذب نفسًا عميقًا ثمّ نفث دخانها بكلّ قوّةٍ في وجهي. حدّق بي وقال:

ـــ أنت من اليوم اسمُكَ زيكو.

عندما هممتُ بالمغادرة ضاحكًا، استوقفني شادًّا ذراعي.

ـــ زيكو، تمهّلْ، هل ترى رؤًى في نومك؟

استغربتُ من سؤاله. قلت:

ـــ أعود منهكًا من هذا الركض. أسقطُ مثل جثّة. لا أرى شيئًا ولا أسمع شيئًا.

منذ ذلك اليوم توقّف عن لغة الإشارات والإيماءات مدّةً: "زيكو هات بيرة... زيكو زدني واحدة أخرى... زيكو هاك الحساب."

لكنّه عاد إلى لغة الإشارات منذ أسبوع. كان يبدو عليه الإنهاكُ؛ عيناه مرهقتان محاطتان بزرقةٍ غامقة. بدا أنّه توقّف عن النوم منذ مدّة. نسيتُ أن أخبرَكم أنّ كتابًا بعينه لا يفارقه، يغرق في قراءته كلَّ ليلة وهو يشرب. ذهب مرّةً للتبوّل. قلت: "ها هي فرصتي ليهدأ فضولي ولو قليلًا." أمسكتُ بالكتاب. قلبتُه بحثًا عن عنوانه، لكنّه كان بلا غلاف، فأعدتُه إلى مكانه.

مرّت أيّام وهو على هذه الحال. حتّى جاءت تلك الليلة.

***

في تلك الليلة كان وجهُه كتينةٍ مفرطةِ النضج، كشفتْ شقوقُها عن حمرةٍ قاطنة. وكانت نظراتُه تتحرّك في جميع الاتّجاهات. اقتربتُ منه وسألتُه:

ـــ أَتشكو شيئًا؟ أأنت على ما يرام؟!

حملق فيّ، وقال:

ـــ هل تفهم في الأحلام يا زيكو؟

ـــ لا... لم أجرّبها.

ـــ إنّها رؤيةٌ أرّقت ليلتي. رأيتُ نفسي في مكانٍ غريب. فُتح أمامي باب، فإذا بصورتي منعكسة في المرآة، وأنا في جلبابٍ أبيض، أجرّ قدميّ إلى الأمام. تجاوزتُ عتبة ذلك الباب. كانت هناك مرايا في كلّ مكان تعكس صورتي. ضغطتُ على زرّ، فانغلق البابُ وانطفأ فانوسُ الإضاءة داخل المصعد. وجدتُني في الظلام. كان ضجيجُ المصعد مخيفًا. كيف أصف هذا؟

توقّف عن سرده للرؤية وسألني:

ـــ زيكو، أهو ذاك الأمر؟!

برطمتُ بألفاظٍ مبهمة. فواصل:

ـــ أخرجني المصعدُ من جوف الأرض حيث العتمة. لفظني في بقعةٍ من ضوء. مرّ وقتٌ حتّى استعدتُ النظر: بقعة بيضاء كبِناية من قطن. قطن.

صمت، وعيناه تشعّان ببريقٍ غيرِ عاديّ. أخرج محفظةَ نقوده. دفع الحسابَ بيدٍ مرتعشة، وغادر الحانة.

نظرتُ إلى ساعة الحائط؛ لم يحن منتصفُ الليل بعدُ! تفقّدتُ النقود؛ ما دفعه يفوق حسابه بكثير! لحقتُ به إلى الشارع مناديًا. رفع يده متجاهلًا إيّاي.

***

مكانُه منذ تلك الليلة شاغرٌ؛ لا أسمح لأحد بأن يقربه.

سيعود، أشعر بذلك.   

تونس

نبيل درغوث

كاتب وشاعر من تونس. صدر له: العين الساردة (نقد، 2008) ومبقّعة بالكذب (شعر، 2016).