الساعة الثامنة وعشرون دقيقة
13-11-2016

 

 

رأيتُه محمولًا على نعٍش، ملفوفًا بكفن مهترئ. دخلوا به المقبرة. كانت وجوهُهم متيبّسة. استرقتُ السمع نحو الطريق الذي سلكه النعش. لا صراخ. لا عويل. رموْه في حفرةِ متريْن على نصف متر. واروْه التراب. لا إمام. لا قرآن. لا دعاء. هل غسّلوه أمْ دفنوه بدنسه؟

فتحتُ عينيّ وأنا أتنفّس بسرعة. كنتُ مستلقيًا على الفراش. جسدي متيبّس غير قادر على النهوض. ساعةُ الحائط تشير إلى الثامنة وعشرين دقيقة. حاولتُ النوم مرّةً أخرى. لكنّ السهاد جثم فوقي.

لاح النهار مشرقًا بعد صراعه الضاري مع الليل. فُكَّ جسدي من السرير، وتمكّنتُ من النهوض مع آلامٍ تصاحب أطرافي، كأنّها كانت مغلولةً بسلاسل. خرجتُ من الغرفة، واجتزتُ الممرّ المؤدّي إلى دورة المياه بصعوبة. مع دخولي، ظهر وجهي في المرآة. كانت عيناي مرهقتيْن غائرتيْن محاطتيْن بزرقة. عظامُ وجهي ناتئة. لحيتي كثّة. ارتعد جسدي. خرجتُ من دورة المياه باحثًا عن السجائر؛ لعلّي، بجرعةِ نيكوتين مع جرعة كافيين، أستطيع أن أقاوم ارتجافةَ أوصالي. عدتُ إلى غرفة النوم. تناولتُ علبة السجائر من فوق المنضدة قرب سريري. كان شكلُ جسدي ما يزال منطبعًا على مرتبة السرير.

خرجتُ من الغرفة أجرّ ساقيَّ جرًّا. تقدّمتُ في الممرّ المؤدّي إلى المطبخ، وجسدي مقشعرّ. حضّرتُ القهوة. وضعتُها في فنجان على الطاولة. سحبتُ كرسيًّا وجلستُ. تناولتُ سيجارةً من العلبة وأشعلتُها. عببتُ نفسًا من السيجارة. كان مذاقها غريبًا. كِدْتُ أختنق من دخانها. تبغها جافٌّ. ترشّفتُ قهوتي. مُرّة. وضعتُ السّكر في الفنجان وحرّكتُ جيّدًا. ترشّفت من القهوة رشْفةً أخرى. كانت مُرّةً أيضًا. رنّ الهاتف. انتفضتُ. رميتُ بالسيجارة في القاع ورفستُها بقدمي. اتّجهتُ إلى الصالون. تناولتُ سمّاعةَ الهاتف: "ألو..." ليس هناك صوت. ردّدتُ: "ألو... ألو..." لكنّي لم أكن أسمع إلّا حشرجةً.

ثمّ انقطع الخطّ. جررت نفسي  إلى العمل.

تناولت حبّة Esoprex

***

عند عودتي مساءً إلى المنزل مررتُ بالمغازة العامّة للتسوّق. عند وصولي دخلتُ المطبخ. فتحتُ الثلّاجة، وبدأتُ في ترصيف المقتنيات، فاكتشفت أنّ قارورة الحليب التي اشتريتها منتهيةُ الصلاحيّة. ارتفع ضغطي، وانتابتني حالةُ سخط. غادرتُ المطبخ إلى الصالون. شغّلتُ التلفاز. كان يعرض برنامجًا سياسيًّا حول واقع اليسار الجديد. ازداد قلقي. حديثهم هراء في هراء. أحسست بضيق يكاد يكتم أنفاسي، وبرغبة في الغثيان. أغلقتُ التلفاز. فكّرت أن أهاتف الحكيمة سيسيليا رينالدي، علّها تخلّصني من هذا السأم. عدلتُ عن فكرتي هذه. تناولتُ كتابًا من فوق المنضدة التي بجانب أريكتي. تصفّحتُه:

"أنادي عزلتي لتسقيني كأسًا أخيرة

لعلّها تُطفئ حرقتي

أصرخ: أنا واللّيل عاشقان

 ينادمني...

يسقيني روحَ عزلتي..."

أفزعني رنينُ الهاتف. انتفضتُ من فوق الأريكة ورميتُ الكتاب. رفعتُ سمّاعة الهاتف الجاثم على المنضدة المحاذية للأريكة. "ألو..." وصلني صوتٌ من الطرف الآخر كأنّه حشرجة. وانقطع الخطّ. سحبتُ علبة سجائري من جيب سترتي. ورفعتُها إلى فمي. أشعلتها. عببتُ نفسًا منها. احتبستْ أنفاسي مع نوبة سعالٍ قويّ. أسرعتُ إلى المطبخ. فتحتُ بابَ الثلّاجة وتناولتُ قنّينة ماء. تجرّعتُ منها جرعات قليلة. شعرتُ ببعض الراحة. بحثتُ عن البنّ. حضّرتُ قهوةً سريعة. مذاقها مُرٌّ كالعادة. دفعتُ الفنجان عنّي. سقط على القاع من دون أن ينكسر. غادرتُ المطبخ ضَجِرًا نحو غرفة النوم.

هناك على السرير. كان ينتظرني شكلي المحفورُ قالبًا. تمدّدتُ فوقه تمامًا. كانت ساعة الحائط تشير إلى الثامنة وعشرين دقيقة. دفعتُ عنّي كتابَ "مورافيا." شبكتُ يديّ خلف رقبتي. رفعتُ عينيّ إلى السقف. بدا لي السقفُ وقد انخفض قليلًا عن البارحة. امتدّت كفي إلى مفتاح الكهرباء. وانطفأ الضوءُ في داخلي.

تونس

نبيل درغوث

كاتب وشاعر من تونس. صدر له: العين الساردة (نقد، 2008) ومبقّعة بالكذب (شعر، 2016).