تأمّلات في الألم
31-01-2019

 

"أحيانًا أفكِّر أنّ حديد الغرفة من عظامي. لكنَّ عظامي رقيقة وهشَّة ولا ريب أن هذا الجسد محمول بدعائم أخرى. كيف مشت معي هذه العظام سنوات دون أن أسمع أزيزها أو أرى انهيارها المفاجئ على الطرقات؟" (وديع سعادة)

***

يصفع الألمُ الجسديّ المرء صفعاتٍ متتالية مباغتة، توقظ العقلَ، وتدفعه إلى التساؤل عن جدوى القعود في الفراش أيَّامًا، والتبحُّر في معنيَي الضيق والانكسار!

الألم مهمازٌ ينكزنا، ويؤرِّخ الحوادثَ في أيّامنا، فيُصيِّرها ما قبله، عسى أن يأتي الشافي سريعًا.

هو يجعل ذاتَ المرء غريبةً عنه. ومن عجائب الألم إنّه يدفعنا إلى تثمين الشفقة، والامتنان لها، بعد أن كنّا نمقتها. نصبح إيجابيين، وائدين أيَّ إشارةِ تمرُّدٍ محتملة على هذا الشقاء. الذات، ولو مستقلة حتّى الإرهاق، لا مناص لها من ذاتٍ أخرى تعينها في بسيط النشاط اليوميّ.

ما هي مقاصد الألم الجسديّ؟

المؤمنون يرون أنَّ الله، في الابتلاء الجسديّ، يكفِّر ذنوبَهم. ويعتقدون أنَّ في الصبر على صفعاته علوًّا في منزلتهم بالفردوس. أمّا بعض الفلاسفة فيسخِّف الجسدَ (وآلامه) ويسمو بالروح، في مقابل آخرين يوازون بين النفس والجسد ويعتبرون هذا الأخير شرطًا لفهم الواقع.  يقول نيتشه إنّ "المتعة والألم مرتبطان، وعلى مَن يبغي الكمَّ الأكبر من المتعة أن يقبل بكمٍّ يساويها من الألم".

سيغموند فرويد، بدوره، يضع النفسَ البشريّة في صراعٍ دائمٍ بين غريزة الحياة، بما فيها البحث الدائم عن اللذَّة، و"غريزة الموت،" بما تكتنفه من نزعة تدميريَّة للذات. وأيّ انتصار لإحدى الغريزتين معناه الانهيار النفسي والموت.

ثمّ جاءت نظريّات تدْرس الألم من منظور طبقيّ، وكيفيَّة ترويض أجساد العمّال وتحويلها إلى ماكينات في خدمة الرأسمالية (جيل دولوز).

الألم كان سببًا في روائع أدبيَّة، وأيضًا في دراساتٍ تخوض في كيفية تحمله من قِبل الإناث والذكور والأعراق.

شدَّة الألم تسْخر من القوّة البشريّة، وتجعلنا نقرّ بمحدوديتها، وترسم ذاتًا للمتألِّم لم تعرفها من قبل.: ذاتًا موضوعيَّة، إيجابيّة، شفيفة تخفِّف من وقع هذا الألم؛ أو بالعكس: ذاتًا تكفر بالحياة وشروطها، وقد تنحو إلى التخلُّص منها.

الألم ذاتيّ جدًّا. لكلٍّ منا طريقتُه في تحمله، تتناسب وشدّتَه. وهو، من دون شكّ، سبب في التفكر في الشرط الإنساني، ومولِّد لاضطرابات النفس.

في الألم تأوّهات، وهشاشة، ومصالحة مع العاديّات، وترويضٌ للجموح، ولجمٌ للاستخفاف بالجسد، ويقينٌ بأنَّ هذا الأخير يتوسَّل الراحة...  وإلَّا فإنّ خيانة الجسد واردة، ورقعةَ سقوطه تتسع.

أتحسَّسُ عطبَ جسدي بيدي اليسرى، ثمَّ أرخيها سريعًا بعد أن يباغتني الوجع. العطب يُقرُّب الإنسانَ من جسده، حقيقتِه المنسيّة، واقعِه المخدَّر بفعل الصخب المحيط؛ الجسد الذي يؤذيه أغلبُنا طوعًا عند صمِّ الآذان عن أنينه، وتجاهل إشاراته المعذبة، وسوء استخدامه.  يقول إميل سيوران في كتاب المياه كلها بلون الغرق: "العقل هو المستفيد الأكبر من هزائم الجسد. يثرى على حسابه، يسرقه، يهلِّل لمآسيه، يعيش على اللصوصيّة."

الألم رسولٌ يأتينا برسالة أو أكثر، قد نفكُّ رموزَها سريعًا أو نعجز عن ذلك. إنّها رسالةُ ترجُّلنا من ركب الاستخفاف. ولا  شك أنّ ما قبل الرسالة ليس كما بعدها البتّة.

بيروت

نسرين حمّود
صحفية لبنانية، مهتمة في الشأنين الاجتماعيّ والثقافيّ. نشرتْ في صحف ومطبوعات عدة، وآخرها: الأخبار اللبنانية والدوحة القطرية.