ضمّةٌ غير مستحقَّة
17-08-2018

 

كان الليل قد انتصف حين شعرتُ برغبةٍ قويّةٍ قي ضمّ أنطوان إلى صدري.

لُقْيا ثمينةٌ هو أنطوان. صادفتُه في المعهد البريطانيّ للُّغات. تجاورْنا في دورةٍ للإنجليزيّة المحكيّة، وأصبحنا نحضِّر فروضَنا معًا في مقهًى قريب.

كان بلجيكيًّا يعيش في بيروت منذ سنتين، ويكتب مراجعاتٍ صحفيّةً عن أماكن لبنان السياحيّة. بمرور الوقت، أدركتُ أنّه يتجاوزني في معرفة المدينة ــ سواءٌ تعلّق الأمرُ بفوّالٍ يضيف تتبيلةَ النارنج إلى أطباق الحبوب الشهيّة، أو بمحلٍّ قديم في قلب المدينة، أو بمطعمٍ فاخر يُعدُّ أطباقًا إيطاليّة، أو بمسارٍ للمشي "غير مطروق" في الجرود بعد.

لذلك تركتُ إليه طوعًا أمرَ اختيار أماكن لقاءاتنا، وها هو يدهشني مرّةً أخرى!

***

ــ أين سألقاكَ؟، سألتُه صباحًا على الواتس آب.

ــ  Surprise، أجاب. وأتبعها بوجهٍ يضع إصبعَه على فمه.

رددتُ بوجهٍ مبتسم.

فيما بعد، أدركتُ فداحةَ أن أقابلَه، في المبنى المخترقِ بالرصاص، منتعلةً صندلي الجديد ذا الكعب العالي.

***

يَكشف المبنى المهجورُ، والمنخورُ برصاص الحرب الأهليّة وقذائفها، جزءًا فخمًا من المدينة، متلألئًا بالأضواء، من دون أن يداري جرحَه عنها. حدّثتُ نفسي أنّ أنطوان غريبُ الأطوار فعلًا، ومرّرتُ شتيمةً في سرّي عن حظّي العاثر مع الرجال.

في هذه اللحظة، تعثَّرتُ بحجرٍ كاد يفدغ رأسي. تأخَّر أنطوان في انتشالي، ثمّ في التقاط يدي لاستقلال السلالم المكسَّرة الدرجات.
بلعتُ شتيمتي التالية. للحظة، شعرتُ بخدر، وفقدتُ إحساسي نتيجةً لنخر صندلي الجديد. الهواء الرطب مسَّد شعري، ولفح جبهتي، وجعلني أصيخ السمعَ إلى صدى الأغنيات الرديئة المبثوثة من السيّارات.
على مرأًى منّا أناسٌ يحتفلون. أجسادٌ متلاصقة تهتزُّ على إيقاع موسيقى إلكترونيّة غربيّة، تتحوّل عربيّةً فجأةً. أنخابٌ تتتالى. ضحكٌ متواصل. كنّا نراهم، ولا يروْننا. وحالما نشيح بنظرنا عنهم، تهجم علينا آثارُ الرصاص الذي نخرَ المبنى. كلّما رغبنا في مشاركتهم ضحكَهم، أغشت صفرةُ المبنى المتهالك عيونَنا. كلَّما قاومنا حقيقةَ مكاننا، ناظرين إلى حيث هم، عاندَنا الهواءُ، ولفحتنا روائحُ الحرب.

أسرَّ لي أنطوان أنّ هذا المبنى أثيرٌ لديه؛ كلَّما رغب في الاختلاء بنفسه جاءه. قال لي بإنجليزيّته المكسَّرة: It’s therapeutic.

***

في سيناريو مختلفٍ وواقعيٍّ جدًّا، كنتُ سأكون من هؤلاء الساهرين. وكنتُ سأرقص في مقعدي، خصوصًا حين يتصاعد خليطٌ موسيقيّ من "ألف ليلة وليلة" وعبارة "يا حبيبي" بصوت أم كلثوم. ولكنّني، بالطبع، لن أكون قادرةً على أن أبزَّ تلك الخمسينيّة، ذاتَ الفستان الأحمر، حيويّةً ومرحًا وفتوّة.

في سيناريو مختلفٍ وواقعيٍّ جدًّا، كان أنطوان سيقف في عليائه، يُخزِّن الصورَ عنّا، ثمّ يبيعنا أفكارًا "نيِّرةً" تُصلح أوضاعنا مرحليًّا... ولكنّها تخرِّبها في المدى الطويل. معذورةٌ أنا في تلك الإسقاطات على أنطوان، وفيّةٌ لتناقضاتي وتناقضاتِ بيروتي، التي أحسم في النهاية أنّها تستحقُّ تلك الضمَّة أكثرَ بكثيرٍ ممّا يستحقُّها أنطوان!
أبتعدُ قليلًا عنه. أستجمعُ ذاتي. أطلبُ إليه الرجوع، فيسير قبلي، من دون أن يمدَّ يدَه هذه المرّة كي يساعدَني في المسير.

بيروت

نسرين حمّود
صحفية لبنانية، مهتمة في الشأنين الاجتماعيّ والثقافيّ. نشرتْ في صحف ومطبوعات عدة، وآخرها: الأخبار اللبنانية والدوحة القطرية.