في بيجامتها
19-06-2016

 

ــــــــ العمر لك أستاذ، للأسف ماتت المريضة. العمليّة الجراحيّة لم تسعفها من قدرها.

هكذا أخبرني البروفيسور.

أحسستُ بدبيبٍ في أناملي، وبضيقٍ يكاد يكتمني. طأطأتُ رأسي. جاءني صوتُ البروفيسور من بعيد كأنّه من قاع بئر:

ــــــــ تلك حال الدنيا... الأعمار بيد الله.

كان يعتقد أنّني سأطلب رؤيتها، غير أنّني اتّجهتُ نحو الضوء البعيد. غادرت مُجَرْجرًا رجلين ثقيلتين محاولًا بلوغَ باب الخروج. كان صوتها الضعيف يرنّ في أذني ببحّة واضحة:

ــــــــ لن تفلت منّي أيّها الوغد. هاك هذه العلبة... احرسْها حتّى عودتي لنُجْهز عليها معًا.

كان هذا كلامَها الأخير، قبل أن تلتهم غرفةُ العمليّات جسدَها المنهك المسجّى على السرير النقّال، ملفوفًا في تلك البيجامة الحمراء المنقّطة التي أهديتُها إيّاها في عيد زواجنا الثالث. 

***

أوّلَ مرّة علّمتني فيها التدخين، كنّا في رحلة مدرسيّة؛ مجّت من سيجارتها ومرّرتها إليّ. عببتُ نفسًا منها. كدت أختنق. أسرعتْ وناولتني قنّينة الماء وهي تضحك:

ــــــــ بمرور الوقت ستتعوّد عليه.

كانت تنظر إليّ وأنا أشرب الماء نظرةً ماكرة، وشفتاها تحتلّهما بسمةٌ ساخرة. 

***

انقضّت عليّ السيجارةُ العملاقة. أمسكتْ رقبتي بكفّيْها الفولاذيتين. ضغطتْ على حنجرتي بقوّة. قاومتُها ثمّ ارتخيتُ شيئًا فشيئًا، وذبلتْ عيناي. رفعت السيجارةُ كفّيها، فسقطتُ مغشيًّا عليّ.

عينان حمراوان تتربّصان بي في هذا الظلام الدامس. آه! إنّها أرقام الساعة المحاذية لسريري ـــــــ الثالثة صباحًا. بيجامتي مبلّلة بالعرق، وحلقي جافّ. نهضتُ من السرير متثاقلًا. اتّجهتُ إلى المطبخ حافي القدمين. تناولتُ قنّينة الماء من على الطاولة. أفرغتُها في جوفي. انخفضتْ نسبة الأدرينالين في دمي. شعرتُ بأنفاسي تعود إلى وضعها الطبيعيّ، وأحسستُ بشيء من الراحة يسري في جسدي.

عدت إلى الغرفة لأغيّر البيجامة. كلّ ليلة ألبسها عند النوم معانقًا رائحتها. البيجامة الحمراء نفسها التي سلّمتني إيّاها الممرّضة، مع قلم حمرتها، وساعتِها الورديّة، ومشدِّ شعرها، وقدّاحتِها الذهبيّة، قائلةً لي بكلّ أسى: "هذه أغراض..."

كلّما تذكّرتُ، أشعر بالمذاق المرّ نفسه في حلقي.

غادرتُ غرفة النوم إلى الصالون. كانت صورتُها تتصدّر المنضدة، تحاذيها علبةُ السجائر جاثمةً كجثّة هامدة. تناولت تلك السيجارة من العلبة. كانت آخر سيجارة وضعتْها بين شفتيها قبل حدوث النوبة. تأمّلتُ مبسمها الذي انطبعتْ عليه آثارُ شفتيها. استنشقتُ تبغها الممزوجَ بعطرها المفضّل. وضعتُها بين شفتيّ واتجهتُ إلى الميني بار. حضّرتُ كأس دجين تونيك؛ كان مشروبَها المفضّل. شغّلتُ المذياع. سطع صوت*:

 

«Avec le temps va

Tout s’en va

On oublie le visage

Et on oublie la voix

Le cœur quand il ça bat  plus

C’est pas la peine d’aller chercher plus loin

Il faut laisser faire

Et c’est très bien … »

 

تونس

* مقطع من أغنية Avec le temps لـ"ليو فيري":

"مع الوقت...
كلّ شيء يزول
ننسى الوجوه
وننسى اﻷصوات
والقلب... حين يتعثّر
ﻻ فائدة من البحث أكثر
ندع اﻷمر... فليكن...
وهذا جيّد جدًّا..."

نبيل درغوث

كاتب وشاعر من تونس. صدر له: العين الساردة (نقد، 2008) ومبقّعة بالكذب (شعر، 2016).