السجّادة الحمراء
03-01-2021

 

حين وصل أبو ذرّ الغفاريّ إلى وسط المدينة توقّف، وشرع يتفحّص البنايات الشامخة المنتصبة بانتظام على جانبيْ طريق أسفلتيّ معبَّد، يكاد سوادُه يلمع في عين الشمس. الإشاراتُ الضوئيّة تنظِّم السيرَ بدقّةٍ متناهية. رجالُ الشرطة يتوزّعون قربها. بعضُ الموظّفين يراقبون السيّارات المركونة على جانبي الرصيف.

تقدّم الغفاري من زجاج سيّارة. قرأ: "موقف لقاءَ بدل."

هزّ رأسَه وأخذ يحسب المبالغَ التي تُجْبى على امتداد ساعات النهار. أغمض عينيْه وراح يسترجع صورَ ذلك الحيّ الذي يقطنه مع مساكينَ يجهدون في سبيل تأمين لقمة عيشٍ شريفةٍ لهم ولعائلاتهم.

مدّ كفَّه يتفحّص شعرَه المبلّلَ جرّاء مياه تتساقط عليه بغزارةٍ من علٍ، وتسلك تمديداتٍ مائيّةً موازيةً لتمديدات أشرطة الكهرباء ومتداخلةً معها. الله! كيف يلتقي الضدّان، الماءُ والكهرباء؟

الروائح المنبعثة من النفايات المتراكمة في أزقّة الحيّ تزْكم الأنوف. وأطفالُ الشوارع مصطفّون حولها يفتّشون عن أشياء تَلْزمهم. تساءل ثانيةً: الله! كيف يتوحّد الأطفالُ مع ما يحوّم على النفايات من حيوانات وحشرات؟ 

أحسّ تعبًا شاحبًا. وصل إلى طريقٍ مخصّصٍ للمشاة. ولم يكد يتّكئ عليه حتى تقدّم منه شرطيٌّ ونهره قائلًا: 

- هذا المكان مخصّصٌ للمشاة. غادرْ فورًا.

- المسافة التي قطعتُها سيرًا طويلة، وأنا متعب.

- لا شأن لي بك وبتعبك. امضِ.

نهض الغفاريّ وسار. فجأةً، سمع أصواتًا صادرةً من مكان قريب. توقّف أمام لوحةٍ بشريّةٍ لم يرَ مثلها من قبل: العوائق الحديديّة تُقفل المنافذَ المؤدّية إلى المكان؛ الحرّاس ينتشرون على امتداد العوائق، تؤازرهم كلابٌ تدنو من أيّ متفرّج وتتفحّصه. 

لمّا رأى الغفاريُّ كلبًا يجرّ حارسَه، متوجّهًا نحوه، غذّ السير، لأنه يخشى أن يُلْحق الكلبُ به نجاسةً. 

الطبول تقرع بقوّة، والصنوجُ تصطكّ محْدثةً موسيقى موقّعة. شدّ انتباهَه صفٌّ طويلٌ من العسكريين يضمّون بنادقَهم إلى صدورهم بقوةٍ، مخافة أن تُفلت من أيديهم.

وسط الباحة فُرشتْ سجّادةٌ حمراءُ طويلة. اندفع أبو ذرّ بقوّةٍ لا يَعرف مصدرَها، وأحس برغبةٍ جامحةٍ في معرفة حقيقة ما يجري. لكنْ أوقفه الحرّاسُ طالبين إليه عدمَ التقدّم تحت طائلة المسؤوليّة. وغمزوا بعيونهم مشيرين إلى كلبٍ بوليسيّ.

"لا تدعوا الكلبَ يقترب منّي. سأبتعد من تلقاء نفسي."

تجلّدتْ نظراتُه، ولم يقوَ على مناقشةِ مَن يمتلك قدرةَ دفع كلبٍ شرس.

لكنْ سرعان ما هَوّن عليه أنّه لم يكن المتفرِّجَ الوحيدَ على هذا الحدث المهيب الذي تسلِّط عليه آلاتُ التصوير عدساتِها. هذا ما أخبره به مدرّبُ الكلب، قائلًا: "حاذرْ يا أخي أن تعوّق عملَ الصحافة؛ فهذا الحدث منقولٌ مباشرةً إلى المواطنين."

المتفرّجون يحدّقون بنظرات فارغة. بعضُهم كان فاغرًا فاه، مأخوذًا بمشهد صفّ البندقيّات، وبمنظر حاملِ السيف وهو ينقل خطاه الموقّعة على مهلٍ كأنه فاتحٌ من الفاتحين. أمّا الشخصان اللذان يخطوان وراءه فكانا شامخيْن برأسيهما إلى العلاء: الأوّل بدا ربْعًا، منتفخًا مثل بغل، أوداجُه تكاد تنفجر، بل قل تكرّشَ حتى عاد بلا رقبة؛ وأمّا الآخر فبدا هزيلًا مثل حمارٍ من حمير النوَر.

أدنى أبو ذرّ رأسَه من أذن شخصٍ هامسًا:

- أتحرّرتْ فلسطين؟

حدجه الرجلُ السبعينيُّ ثم قال: لا، أعوذُ بالله، نجِّنا يا ربّ!

- أتوحّدت السودان؟ أتوقّفت الحربُ على اليمن؟ 

- لا، ولكن!

- ماذا؟ بربّكَ قل لي ما الذي يجري، وما المناسبة؟ 

- تسلّمٌ وتسليم.

- ولِمَ السجّادةُ الحمراء؟ 

- لا أعرف.

وأدار السبعينيُّ رأسه بامتعاضٍ شديد.

الطبولُ تواصل العزفَ، والصنوجُ تصطكّ، وحاملُ السيف يخطو خطواتِه الموقّعة، والشخصان يخطران مصعِّريْن خدّيْهما للناس.

راح أبو ذرّ يتمتم، وسرعان ما رفع صوتَه: 

- أيّها الحارس، لماذا يفرشون سجّادةً حمراء؟ 

زمّ الحارسُ شفتيْه وأجاب: لا أعلم.

- وإذا سُئلتُ هذا السؤالَ لدى عودتي إلى المنزل، فبِمَ أجيب؟ 

- تبدو متفائلًا بالعودة إلى بيتك! 

- ألأجل استعلامٍ عن لونٍ أتعرّضُ لِما تقول؟ 

- لا أدري. دعني وشأني. لديّ عائلةٌ تنتظرني. لقمةُ العيش صعبة. 

مال أبو ذرّ رأسَه إلى رجلٍ كان إلى يمينه متسائلًا: 

- من هذا الرجل الضعيف؟

- ألا تعرفه؟

- والله، لا أعرفه. 

- إنّه المسؤول الجديد.

ضرب أبو ذرّ رأسَه بيده وقال: سامحْني يا ربّ، كيف لم أنتبهْ إلى أنّ السمين هو المغادرُ الآن؟ ثم سأل مجدّدًا:

- ما مؤهِّلاتُه العلميّة؟

- حُطّْ بالخرْج.

قالها الشخصُ الواقفُ إلى يمينه، ثم عضّ شفتَه، وغمزه بعينه، مشيرًا إلى وجوب التوقّف عن طرح مثل هذه الأسئلة.

مشى أبو ذرّ وهو يتكلّم بصوتٍ مسموع:

- يا إمامَ الفقراء، أدرِكْنا. يا إمام المعوزين والكادحين والمنهوبة خيراتهم، أدرِكْنا. أنت قلتَها منذ زمن: "ما افتقر فقيرٌ إلّا بما مُتِّع به غنيّ." 

وبصوتٍ أعلى:

- ماذا فعل هذا السمينُ حتى يُفرَشَ له الأحمرُ سجّادًا؟ هل أراق دماءه جريحًا على مذبح الوطن؟ هل قدَّم ابنَه شهيدًا في سبيل تحريره؟ وأيّ بطولات سجّلها في تاريخنا المعاصر؟ يا ابنَ أبي طالب، أدرِكْنا. أيكون مرتقيًا بوطننا إلى مصاف الأوطان الناجحة ونحن لا نعلم؟ أيكون مقدِّمًا مساكنَ للفقراء، وأدويةً للمعوزين، وأسرّةً للفقراء في المستشفيات؟ 

وتابع:

- مثلُ هذا يستحقُّ أن يُلفَّ ببساطٍ أسود، قاتم جدًّا. يا إمامَ المتّقين أدرِكْنا.

سرعان ما توقّف لدى مشاهدته السبعينيَّ يتبعه، ويقول له:

- أغبيٌّ أنت؟ المسؤول لا يريق دمَه. المسؤول يكنز الفضّةَ والذهب.

تجهّم أبو ذرّ وقال بصوتٍ مسموعٍ جدًّا: 

- مَنْ يَجْمَعِ الذَّهَبَ والفِضَّةَ تُكْوَ بِهَا جِبَاهُهُم يَوْمَ القِيَامَة. 

لم تمضِ لحظات حتى دنت منه سيّارة، نزل منها ثلاثةٌ دفعوه إلى داخلها ومضوْا.

بيروت

علي حجازي

كاتب قصصيّ، وباحث، ومدير كلّيّة الآداب والعلوم الإنسانيّة في الجامعة اللبنانيّة سابقًا. انخرط في صفوف قوى الأمن الداخليّ أثناء تحصيله العلميّ. حاز الدكتوراه في اللغة العربيّة وآدابها من جامعة القدّيس يوسف ومن الجامعة اللبنانيّة. له عدد من المجموعات القصصية (القبضة والأرض، وفاء الزيتون،...)، وقصص للأطفال والأحداث (حنان الصخر، الوردة البيضاء،...)، وكتب بحثية (القصة القصيرة في لبنان 1950-1975، التيّارات الأدبيّة المعاصرة، موسوعة الثقافة الشعبيّة،...)