ديك الفجر
17-09-2020

 

كان الظلامُ يلفّ القريةَ عند عودة الغفاريّ من زيارته التفقّديّة لأحوال السكّان، والاستماعِ إلى شكواتهم التي لم يجرؤوا على البوح بها علنًا. ولمّا سألهم عن سبب انقطاع الكهرباء المتواصل أفاضوا إليه بسِرّ:

- نحن مسرورون بانقطاع الكهرباء، قال واحدٌ منهم.

- غريب! وكيف تُسَرّون بذلك؟

- لأنّ عسسَ السلطان يستفيدون منها في ملاحقة المطلوبين منّا والتعرّفِ إليهم.

عرك جبهتَه، وراح يبحث عن الفانوس الذي يُعِينه على قراءةِ الكتاب الكريم. الناس المتعبَون من العمل في الحقول آووْا إلى النوم باكرًا، على أمل شروق شمس يومٍ جديد.

أضاء الغفاريُّ الفانوسَ الصغير في ذلك الهزيع الأخير من الليل. وسرعان ما سمع الديكَ يصيح.

- أعوذُ باللهِ من شرّ الشيطان الرجيم. جمّلْها بالستْر يا ربّ. هذا الديك يصيح احتفالًا برؤية النور.

في الصباح الباكر، كانت دوريّةٌ من العسكر تبحث عن الديك. وراح رئيسُ الدوريّة الذي طرق بابَ بيت أبي ذرّ يسأل عن الديك الذي صاح في الليل.

- أتعرف الديكَ الذي صاح في الليل يا غفاريّ؟

- وما يهمُّكم صياح الديك؟

- نحن لا نهتمّ. إنّما السلطان، الذي وصله الخبرُ ليلًا، تشاءم وقال: "ديكٌ يستعجل طلوعَ الفجر ديكٌ خطير. لا شكّ في أنّه أبصر نورًا متوهِّجًا في ذلك الظلام!" وسلّمَنا أمرًا باعتقال ذلك الذي أضاء نورًا في الليل: "عليكم إيجادُ ذلك الديكِ المجرم وذلك الرجل..."

***

ما هي إلّا فترة بسيطة حتى أوصلتْ عيونُ السلطان عسكرَ الدوريّة إلى الديك.

- سيّدي، ألقينا القبضَ على الديك. ماذا نفعل به؟

- اذبحوه صباحًا في ساحة القرية ليكون عبرةً لغيره من الدِّيَكة التي تصيح من دون الحصول على إذنٍ منّي شخصيًّا. اذبحوه!

في الصباح، امتلأت الساحةُ بالدم والريش وسط وجومٍ مطبِقٍ من أهل القرية.

تلك الليلة التي أعقبت ذبحَ الديك، نام أهلُ القرية مسكونين بهمومٍ ثقيلةٍ مخافةَ أن يصيحَ ديكٌ من ديكتهم، فيلقى المصيرَ نفسَه. وفي الصباح، حمدوا الله كثيرًا لأنهم لم يسمعوا صياحًا.

غير أنّ خيولَ السلطان كانت تجوب الأزقّة مستعرِضةً قوّتَها. كان العسكرُ يبحثون عن رجلٍ يضيء فانوسًا في الليل.

***

تابع أبو ذرّ قراءةَ الكتاب. ولم يمضِ وقتٌ طويلٌ حتى توقّف، وطفق يحلِّل أوضاعَ هؤلاء الناس الذين يتلبّسهم الخوفُ إلى درجةِ أنّه لم يسمعْ صوتًا واحدًا يعترض على تصرّف السلطان وعيونِه وعسكرِه. وشرع يتمتم:

- كم ديكًا سيذبح السلطانُ حتى يستيقظَ هؤلاء؟ على كلٍّ، سأدعوهم إلى منزلي، وسأتلو عليهم آياتِ الله: بسم الله الرحمن الرحيم: "ونريدُ أن نمُنَّ على الّذين استُضْعِفوا في الأرضِ ونَجعلَهم أئمّةً ونجعلَهم الوارثين." صدق اللهُ العليُّ العظيم.

قبل الظهر، علا صياحُ ديك. نظر الغفاريُّ إلى قرص الشمس الذي لم يقاربْ موعدَ صلاة الظهر بعدُ وقال:

- ليتني أستطيعُ حمايةَ هذا الديك!

ولمّا تواصل صياحُ الديك، اتّسعتْ أذنُ السلطان للخبر الذي نزل على بدنه نزولَ الصاعقة، فاحمرّ وجهُه، وقطّب جبينَه، وقال:

- ديكٌ يصيح في النهار ديكٌ خطير. إنّه ليس متكاسلًا كما تقولون، بل هو مصِرٌّ على إيقاظِ مَن لا يزال نائمًا. أريحوني منه فورًا!

امتثل رجالُ السلطان للأمر. وسرعان ما امتلأتْ ساحةُ القرية بالدم والريش.

***

بكى الغفاريُّ داخل غرفته، ثم رفع كفّيْه إلى السماء وقال:

- اللهمّ، ألهِمْ عبيدَكَ ليلتقطوا إشاراتِ ديكتهم.

مع الفجر، عند موعد الصلاة تمامًا، شرع الغفاريُّ يؤذِّن. وسرعان ما رفعتْ ديكةٌ كثيرةٌ أصواتَها، وشرعتْ تصيح في الميقاتِ المحدَّدِ تمامًا: ميقاتِ انبلاجِ الفجر وإقامةِ الصلاة.

بيروت

علي حجازي

كاتب قصصيّ، وباحث، ومدير كلّيّة الآداب والعلوم الإنسانيّة في الجامعة اللبنانيّة سابقًا. انخرط في صفوف قوى الأمن الداخليّ أثناء تحصيله العلميّ. حاز الدكتوراه في اللغة العربيّة وآدابها من جامعة القدّيس يوسف ومن الجامعة اللبنانيّة. له عدد من المجموعات القصصية (القبضة والأرض، وفاء الزيتون،...)، وقصص للأطفال والأحداث (حنان الصخر، الوردة البيضاء،...)، وكتب بحثية (القصة القصيرة في لبنان 1950-1975، التيّارات الأدبيّة المعاصرة، موسوعة الثقافة الشعبيّة،...)