القلعة المقوّمات العسكرية والاقتصادية في "إسرائيل": مظاهر القوة والضعف (4)
25-10-2018

 

هنا الحلقة الرابعة، ما قبل الأخيرة، من بحث الأسير الفلسطيني البطل في سجن ريمون القائد كميل أبو حنيش. يمكنك قراءة الحلقات الأولى، والثانية، والثالثة.

 

القلعة والسلام الإقليميّ

خاضت "إسرائيل" أكثرَ من 15 حربًا، فضلًا عن مئات الهجمات العدوانيّة على شعوب المنطقة. وفي كلّ مرّة كان تتحدّث عن "السلام" مع شعوب المنطقة. ولكنْ ما هو السلام الذي تؤمن به هذه القلعةُ العسكريّة؟ وما هو الثمن الذي تستعدّ لدفعه في سبيله؟

إنّ رؤية "إسرائيل" للسلام تستند إلى رؤية أيّ قلعة عسكريّة تؤمن بالقوّة والإخضاع. وقد حدّدتْ هذه الرؤيةَ مبكّرًا منذ ما قبل إقامة الدولة العبريّة.

فقد أصرّ بن غوريون، في خطابه إلى المجلس التنفيذيّ للوكالة اليهوديّة في يونيو 1936، على أنّ السلام مع العرب مجرّدُ وسيلةٍ للوصول إلى التحقيق الكامل والتامّ للصهيونيّة.([1]) ورؤية السلام هذه هي منطقُ القلاع العسكريّة عامّةً: "السلام" هنا مجرّدُ وسيلة، أمّا الغاية فبناءُ القلعة وتعزيزُها بهدف استمرارها في الاستيلاء التدريجيّ على المنطقة. وهذه الرؤية تشبه رؤيةَ الرجل الأبيض، الذي ينادي بـ"السلام" مع السكّان الأصليين في أمريكا الشماليّة، بعد أن أبادهم واستولى على أراضيهم.

ويضيف بن غوريون "أنّ الاتفاق الشامل هو، بلا شكّ، أمرٌ مستبعَدٌ الآن. فقط بعد أنْ يدبّ اليأسُ الكامل في نفوس العرب، ذلك اليأس الذي سوف يأتي فقط من فشل الاضطرابات ومحاولة التمرّد... ومن تنامي قوّتنا في هذا البلد؛ فيمكن عندئذٍ أنْ يذعن العربُ لوجود إسرائيل اليهوديّة."([2]) إذنْ، فالسلام هنا هو سلامُ الاستسلام الذي تصوّرته القلعةُ حتى قبل أن ترى النور، ويجري تشييدُها على أنقاض الشعب الفلسطينيّ، وذلك بعد قمع أيّ ثورةٍ وسحق أيّ جيشٍ يحاول المساسَ بها.

هل تغيّرتْ رؤيةُ "إسرائيل" إلى السلام منذ تصريحات بن غوريون هذه؟

لم تتغيّر قطّ منذ بدء "التسوية" مع أوسلو قبل ربع قرن. فهذا شمعون بيريز، أبرزُ الإسرائيليين المسوِّقين لمفردة "السلام،" ومهندسُ اتفاقيّات أوسلو، قد صرّح سنة 1993 "بأنّنا لا نبحث عن سلامِ رايات، بل نهتمّ بسلام الأسواق." السلام هنا يتلخّص بابتلاع "إسرائيل" لأسواق المنطقة والهيمنة عليها. وما استسلامُ الفلسطينيين سوى مدخل إلى السلام الاقتصاديّ (كما عبّر عنه نتنياهو).

ولأنّ "إسرائيل" متماهية مع الرأسماليَة العالميَة، فإنّنا نجد بيريز يُصرح سنة 1995 بأنّ "الشرق الأوسط الجديد سوف تسوده البنوكُ لا الدبّابات، والانتخاباتُ لا الرصاصات، وسوف تكون الجنرالات الوحيدة هي جنرال موتورز وجنرال أليكتريك."

فهل تحقّقت نبوءةُ بيريز للسلام؟  الحقّ أنّ المنطقة غرقتْ في بحرٍ من الدماء والحروب الأهليَة، وكان لـ"إسرائيل" والولايات المتحدة دورٌ بارزٌ فيها. وما تحقّق فعلًا هو المزيد من هيمنة الشركات على المنطقة وثرواتها وأسواقها.

عايشتْ عمليّةُ "التسوية" كلَّ أشكال الحكومات الإسرائيليّة، ولم يتحقّق السلام. ذلك لأنّ ما يحكم "إسرائيل" هو طبيعتُها المُصمَّمة كقلعةٍ عدوانيّة، لا يُمكنها أنْ تفهم السلامَ إلّا من زاوية القوّة والردع والإخضاع. وهو ما يعبِّر عنه حاليًّا رئيسُ حكومة القلعة بنيامين نتنياهو، الذي وضع رؤيته للسلام في المنطقة في كتابه المعروف مكان بين الأمم حين قال: "إنّ أيّ تسويات سلميّة منوطة بقدرة إسرائيل على ردع الطرف الثاني عن خرقها وشنّ حربٍ جديدةٍ عليها."([3]) ويواصل في الكتاب ذاته قوله: "بما أنّ السلام في الشرق الأوسط يرتكز أولًا، وقبل كلّ شيء، على الأمن، فيجب أن نحدّد الحدودَ الآمنةَ لإسرائيل. ومن الواضح أنّ حدودَ ما قبل حرب الأيّام الستّة كانت حدودَ حرب، وليست حدودَ سلام."

إذن فالسؤال الذي يحتاج إلى الإجابة هو: إلى أيّ مدًى يجب توسيعُ الحدود لتحقيق الأمن المطلوب وضمان بقاء "إسرائيل"؟([4])

الحق أنّ نتنياهو يقصد بالحدود هنا ما هو أبعد من حدود الـ1967. فالقلعة لا تكتفي بما احتلّته من أراضٍ عربيّة حتى الآن. وهو ما أكد عليه نتنياهو في الكتاب ذاته حين أضاف: "ليس المقصود إضافةَ عمق استراتيجيّ فقط وإنّما السيطرة على سلسلة جبال الضفّة ـــ الجدار الواقي للدولة ـــ من أيّ هجومٍ قادمٍ من الشرق." أيْ إنّ "إسرائيل" ليست قادرةً على التخلّي عن السيطرة العسكريّة على هذا الجدار، ولا عن هضبة الجولان التي تحمي شمالَ البلاد، من دون تعريض نفسها لخطرٍ حقيقيّ في حال نشوب حرب. لذا "لا يُمكن الحديث عن السلام والأمن الإسرائيليين، وفي نفس الوقت أطالب بانسحاب إسرائيل إلى حدودٍ غير قابلة للدفاع عنها."([5])

 

مأزقُ القلعة

لكنْ هل تمكّنت القلعة من التغلّب على جميع التحدّيات التي تَحُول دون بقائها؟ وهل انتهت الحروب ومظاهرُ المقاومة العربيّة والفلسطينيّة بحيث تسترخي "إسرائيل" وتعيش في حالة أمانٍ تامّ؟ وهل التحدّيات الماثلة أمام هذه القلعة خارجيّة فقط؟

تقتضي الإجابةُ عن هذه الأسئلة إجراءَ دراسات معمّقة. ولكن ما نستطيع أن نقدّمه هنا هو مجرّد إضاءات على بعض مظاهر الضعف التي تعتري هذه القلعة، بعد أن سلّطنا الضوءَ على بعض مظاهر قوّتها.

نبدأ بالتحدّيات الداخليّة. يعاني مجتمعُ القلعة تفاوتًا اجتماعيًّا واقتصاديًّا عميقًا. فقد كشفت اللجنة الإسرائيليّة لدراسة التفاوتات الاجتماعيّة والاقتصاديّة أنّ "إسرائيل" وصلتْ في تسعينيّات القرن الماضي إلى أن تكون ثاني دولة رأسماليّة بعد الولايات المتحدة من حيث تلك التفاوتات. وقد تبيّن للجنة أنّ 10 % فقط من السكّان يحوزون 70 % (أيْ 177 مليار دولار) من الثروة (التي تبلغ 253 مليار دولار)، بينما يحوز 90 % من السكان على 30 % فقط (ما يعادل 75.9 مليار دولار).([6])

كما ازدادت نسبُ الفقر والتوسّع المستمر في المداخيل بين الأغنياء والفقراء: ففي سنة 2000 كان هناك 305 آلاف عائلة فقيرة، أو حوالي مليون شخص فقير، 25 % منهم أطفال؛ أمّا في سنة 2011 فقد كان هناك 442 ألف عائلة فقيرة، أيْ حوالي 1.8 مليون شخص فقير، 36% منهم أطفال.([7])

والسؤال الجوهريّ هنا هو: لماذا توجد في "إسرائيل" مؤشِّراتُ فقر بهذه النِّسَب العالية؟

الجواب يكمن في تركّز نسبة الفقر في البطالة العالية لدى مجموعتين هناك، هما: المجموعة الدينيّة اليهوديّة الملتزمة، والعرب الفلسطينيون. وتتفاقم المشكلة لدى الرجال اليهود المتديّنين، والنساء العربيّات.([8]) فالعرب الفلسطينيون الذين يشكّلون 20% من مجموع سكّان "إسرائيل" (فلسطين المحتلّة عام 48) يملكون أقلَّ من 3.5 % من مساحة الأرض. وفي سنة 2008 كان متوسّط الدخل الشهريّ للرجل العربيّ أقلّ بنحو 42 % من متوسّط دخل الرجل اليهوديّ، أما متوسّط دخل المرأة العربيّة فأقلّ بنحو 28 % من متوسّط دخل المرأة اليهوديّة.([9])

ولم يقتصر تنامي الفقر على الطبقات الفقيرة، بل تجاوزها إلى الطبقة الوسطى التي أخذتْ تتآكل: فمثلًا، كانت نسبةُ الطبقة الوسطى سنة 2010 ما يقارب 28%، متراجعةً عن 30.8% قبل عقدين.([10])

كما أنّ ارتفاعَ رواتب بعض المدراء العامّين إلى أرقام قياسيّة يعكس مدى التفاوت في الاقتصاد الاجتماعيّ في "إسرائيل"؛ ففي سنة 2012 وصل راتبُ المدير العامّ لكلّ من الشركات الإسرائيليّة المائة الأكبر إلى نحو 376 ألف شيكل في الشهر.([11]) كما انعكس التفاوتُ في الدخل على المساحة التي تشغلها كلُّ فئة؛ فالأشكنازيّ يحوز حوالي 8286 مترًا مربّعًا، والمزراحيّ نحو 4729، والعربيّ نحو 266.([12])

وإذا كان الاقتصاد من  أهمّ ركائز "إسرائيل" كما رأينا، فإنّ ما وعدت به هذه القلعةُ جمهورها من رفاه كان مجرد أوهام بعد استئثار فئة محدّدة به، لتعيش بقيّةُ الفئات في أوضاع اقتصاديّة صعبة.

فماذا عن الركيزة الثانية للقلعة، وهي ركيزة الأمن؟ هل استطاعت "إسرائيل" بعد سبعين عامًا أن تحقق الأمن؟ وهل انتهت حروب "إسرائيل" في المنطقة؟ وهل تقبل شعوبُ المنطقة بقلعة "بيضاء" غريبة الشكل، ورأس حربة للأنظمة الاستعمارية؟

 

سجن ريمون، صحراء النقب، فلسطين المحتلة

(يتبع: حلقة خامسة وأخيرة)

 

 

[1] - مصدر سبق ذكره، ص25.

[2] - المصدر السابق، ص 25.

[3] - مكان بين الأمم، مصدر سبق ذكره، ص 357.

[4] - المصدر السابق، ص359.

[5] - المصدر السابق، ص 359.

[6]الاقتصاد السياسيّ لصناعة التقنيّة في إسرائيل، مصدر سبق ذكره، ص 164.

[7] - المصدر السابق، ص 165.

[8] - المصدر السابق، ص167.

[9] - المصدر السابق، ص193.

[10] - تقرير مدار الاستراتيجي (رام الله: مدار، ط 1، 2014)، ص 164.

[11] - المصدر السابق، ص166.

[12] - الاثنوقراطيّة، مصدر سبق ذكره، ص 180.

كميل أبو حنيش

وُلد سنة 1975 في قرية بيت دجن في فلسطين المحتلّة. نال البكالوريوس في الاقتصاد، وأصبح مسؤولًا لـ"جبهة العمل الطلّابي" ولـ"المكتب الطلّابي" في الضفّة المحتلة. اعتقله العدوّ الإسرائيليّ وسجنه عدّة مرات. كما سُجن لدى أجهزة السلطة الفلسطينيّة. وما إنْ بدأت الانتفاضةُ الثانية حتى حمل سلاحَه وتقدّم الصفوفَ الأولى، ثمّ أسّس مع رفاقه في الأرض المحتلّة "كتائب الشهيد أبي علي مصطفى" ــ ــ الذراعَ المسلّحة للجبهة الشعبيّة.
تعرّض لغيرِ محاولة اغتيال، ومن بينها استهدافُه بسيارةٍ مفخّخة بتاريخ 25/5/2001 أصيب خلالها إصابةً بالغة.
هدمتْ قواتُ الاحتلال منزلَ عائلته أثناء ملاحقته، بعد اعتقاله بتاريخ 15/4/2005.

طالبتْه "المحكمة" بدفع مبلغ 15 مليون دولار ردًّا على عمليّة مستوطنة "ايتمار" التي اتهمتْه بالتخطيط لها (نُفّذتْ في حزيران 2002 وأسفرتْ عن مصرع خمسة مستوطنين). وقد وَجّهت "المحكمةُ" الصهيونيّة إليه تهمًا أخرى، بينها تجنيدُ منفِّذ العملية الاستشهاديّة في سوق نتانيا في أيّار 2002 (أسفرتْ عن مصرع ثلاثة مستوطنين).
صدرتْ له دراسات سياسيّة واقتصاديّة وأدبيّة. كما صدرتْ له رواية بعنوان: وجع بلا قرار.