القلعة المقوّمات العسكرية والاقتصادية في "إسرائيل": مظاهر القوة والضعف (3)
23-10-2018

 

نتابع في هذه الحلقة الثالثة دراسة الأسير البطل كميل أبو حنيش، وقد أرسله خصيصًا إلى الآداب. لقراءة الحلقتين الأولى والثاني أنقر هنا.

"إسرائيل" قلعة اقتصاديّة مزدهرة

تمكّنت "إسرائيل" من بناء اقتصاد متطوّر بفعل عوامل مختلفة، أبرزُها بناءُ قاعدة ماديّة متينة، واستمرارُ تدفّق المساعدات الخارجيّة، خصوصًا من الولايات المتحدة. ومع الوقت اندمجتْ "إسرائيل" في الاقتصاد العالميّ، وبرزتْ شركاتُها في الأسواق العالميّة. وفي العام 2011 بلغ الناتجُ القوميّ الإجماليّ الإسرائيلي قرابة 242 مليار دولار، وبلغتْ صادراتُها ما يربو على 70 مليار دولار، وبلغ الدخلُ الفرديّ 31 ألف دولار (وهو ما يضاهي نظيرَه في الدول المتقدّمة).([1])

وقد أصبحتْ صناعةُ التقنيّة العالية هي عجلةَ النموّ في الاقتصاد الإسرائيليّ، وذلك لدورها الرئيس في الإنتاج والتوظيف والتصدير وجذبِ الاستثمارات الأجنبيّة. ففي سنة 2012 مثلًا، كان قطاعُ تقنية المعلومات والاتصالات يوظِّف نحو 8 % من اليد العاملة، ويشكّل ما يعادل 17 % من الناتج المحلّيّ في القطاع الخاصّ، و 30 % من حجم الصادرات الصناعيّة.([2]) وهو ما مكّن "إسرائيل" من الانضمام إلى نادي الدول الغنيّة المعروفة باسم "منظمة التعاون والتنمية الاقتصاديّة."([3])

ويكن القول إنّ فروع صناعة التقنية العالية كلّها هناك، من إلكترونيّات وأدواتٍ طبّيّة وماكينات ذكيّة وإنسان آليّ وغير ذلك، قد وُلدتْ من رحم الصناعات الحربيّة، وبإشراف المؤسّسة العسكريّة، في وصفها تقنيّاتٍ جديدةً تلبّي حاجاتِ الجيش الإسرائيليّ القتاليّة. ثم جرى تكييفُ هذه التقنيات في الاستخدامات المدنيّة في القطاع الخاصّ.([4])

على أنّ خطورة موضوع التقنية العالية في "إسرائيل" لا تكمن في حقيقة هذه الصناعة فحسب، بل في الأسطورة التي نُسجتْ من حولها أيضًا. ففي الوضع الإسرائيليّ ليست صناعةُ الأساطير دليلًا على ضعفٍ بل قوة؛ ذلك لأنّها تهدف إلى تمكين القلعة من تحقيق نتائج أكبر مما تسمح به إمكانيّاتُها الذاتيّة.([5])

من أهمّ الظواهر الاقتصاديّة في "إسرائيل" في العقدين الماضيين صعودُ شركات إسرائيليّة إلى مرتبة الشركات المتعدّدة الجنسيّة ــــ أي التي أسستْ فروعًا في بلادٍ أجنبيّة، ويعمل فيها عمّالٌ من هذه البلاد، ويشارك في ملْكيّتها مستثمرو هذه البلاد.([6]) كما أصبحت "إسرائيل" مركزًا لكثير من تلك الشركات العالميّة، وخصوصًا في صناعة التقنيَة العاليَة.([7])

وعلى المستوى العامّ أصبحتْ علاقاتُ "إسرائيل" بدول المركز الحاليّة، مثل أمريكا وأوروبا، علاقاتٍ ندّيّة؛ ذلك لأنّ التبادل التجاريّ معها مُماثل للتبادل القائم بين هذه المراكز. والدلائل تشير إلى أنّ "إسرائيل" ستكون قادرة على تطوير علاقاتها الاقتصاديّة بالمراكز الجديدة في آسيا بشكل يُعزّز مكانتها العالميّة.

أما على صعيد الشرق الأوسط تحديدًا، فقد حقّقتْ "إسرائيل" من الإنجازات ما قد يكرّسها مركزًا بين أطراف. فقد أقامت مع الفلسطينيين في الضفّة والقطاع، وإلى حدّ ما مع الأردن ومصر، علاقات "مركز وأطراف،" بحيث تصدّر السلعَ الصناعيّة إلى الأطراف ويستورد منها العمالةَ الرخيصة والموادَّ الخام.([8])

فإذا انتقلنا إلى مجالات متخصّصة غبر مجال التقنيات، وجدنا أنّ الزراعة، على سبيل المثال، تؤمِّن 90 % من حاجات الإسرائيليين إلى السلع الغذائيّة، وأنّ "إسرائيل" تصدّر منتوجاتها الزراعيَة (إلى أوروبا وأمريكا بشكل خاصّ) بمعدل يتجاوز ملياريْ دولار سنويًّا. وقد تمكّنت، بفضل أبحاثها العلميّة في هذا المجال، من تعظيم كمّيّات الإنتاج الزراعيّ، وتحسين نوعيّته. فقد طوّرتْ، على سبيل المثال، تقنيّات الري المقطّر ونظّمتها  وفق جهاز الكمبيوتر المتقدّم.([9])

أمّا على مستوى التعليم، فتأتي "إسرائيل" في المرتبة الخامسة في العالم بعد الولايات المتحدة وكندا وألمانيا واليابان، وفي المرتبة الثالثة بالنسبة إلى تعليم الإناث تحديدًا. هذا، ويَقتطع قطاعُ التعليم أكثرَ من 7.5 % من الناتج المحلّيّ الإجماليّ، وهي من أعلى النسب في العالم.

وعلى مستوى النشاط العلميّ، جاءت "إسرائيل" في المرتبة الرابعة سنة 2015 بعد سويسرا والسويد والدنمارك. ويُعتبر هذا النشاط على مستوى العالم معادلًا نشاطَ عشرة أضعاف عدد سكّانها.([10]) وحسب التقديرات فإنّ في الكيان الصهيونيّ 135 مهندسًا و140 عالمًا لكلّ 10 آلاف نسمة، وهي أعلى نسبة في العالم.([11]) وتقدَّر حصّةُ البحث العلميّ من الناتج القوميّ بـ 4.8 %، وهي نسبة عالية.([12])

أمّا من حيث الرعاية الصحّيّة، فتقدّر نسبة الإنفاق على الصحّة من الناتج المحلّيّ الإجماليّ سنة 2011 بحوالي 7.7 %.([13]) ويتمتّع المواطن الإسرائيليّ بشبكة ضمان اجتماعيّ شاملة مدعومة من الدولة: إذ يوجد نظامُ تأمين ضدّ البطالة، ونظامُ تقاعد، ونظامٌ خاصّ بمساعدة الأطفال، ونظامٌ لمساندة العاملين ذوي الأجور المنخفضة،([14]) وذلك بهدف امتصاص الأزمات الاقتصاديّة ومنع مئات الألوف من المستوطنين من العودة إلى أوطانهم الأصليّة.

سجن ريمون، النقب، فلسطين المحتلة

(يتبع حلقة رابعة وأخيرة)

 

[1] - تحوّلات إسرائيل في عالم متغيّر، مصدر سبق ذكره، ص 35.

[2] -  المصدر السابق، ص 105.

[3] - الاقتصاد السياسيّ لصناعة التقنيّة في إسرائيل، مصدر سبق ذكره، ص 7.

[4] - المصدر السابق، ص 106.

[5] - المصدر السابق، ص 3.

[6] - المصدر السابق، ص 172.

[7] - المصدر السابق، ص 15.

[8] - المصدر السابق، ص 68.

[9] - المصدر السابق، ص 2.

[10] - المصدر السابق، ص 79.

[11] - تحوّلات إسرائيل في عالم متغير، مصدر سبق ذكره، ص 35.

[12] - المصدر السابق، ص 36.

[13] - الاقتصاد السياسي لصناعة التقنية في إسرائيل، مصدر سبق ذكره، ص 83.

[14] - المصدر السابق، ص 81.

كميل أبو حنيش

وُلد سنة 1975 في قرية بيت دجن في فلسطين المحتلّة. نال البكالوريوس في الاقتصاد، وأصبح مسؤولًا لـ"جبهة العمل الطلّابي" ولـ"المكتب الطلّابي" في الضفّة المحتلة. اعتقله العدوّ الإسرائيليّ وسجنه عدّة مرات. كما سُجن لدى أجهزة السلطة الفلسطينيّة. وما إنْ بدأت الانتفاضةُ الثانية حتى حمل سلاحَه وتقدّم الصفوفَ الأولى، ثمّ أسّس مع رفاقه في الأرض المحتلّة "كتائب الشهيد أبي علي مصطفى" ــ ــ الذراعَ المسلّحة للجبهة الشعبيّة.
تعرّض لغيرِ محاولة اغتيال، ومن بينها استهدافُه بسيارةٍ مفخّخة بتاريخ 25/5/2001 أصيب خلالها إصابةً بالغة.
هدمتْ قواتُ الاحتلال منزلَ عائلته أثناء ملاحقته، بعد اعتقاله بتاريخ 15/4/2005.

طالبتْه "المحكمة" بدفع مبلغ 15 مليون دولار ردًّا على عمليّة مستوطنة "ايتمار" التي اتهمتْه بالتخطيط لها (نُفّذتْ في حزيران 2002 وأسفرتْ عن مصرع خمسة مستوطنين). وقد وَجّهت "المحكمةُ" الصهيونيّة إليه تهمًا أخرى، بينها تجنيدُ منفِّذ العملية الاستشهاديّة في سوق نتانيا في أيّار 2002 (أسفرتْ عن مصرع ثلاثة مستوطنين).
صدرتْ له دراسات سياسيّة واقتصاديّة وأدبيّة. كما صدرتْ له رواية بعنوان: وجع بلا قرار.