القلعة المقوّمات العسكرية والاقتصادية في "إسرائيل": مظاهر القوة والضعف (2)
18-10-2018

هنا الحلقة الثانية من دراسة الأسير الفلسطينيّ المناضل كميل ابو حنيش. لقراءة الحلقة الأولى، انقرْ هنا.

 

الثقافة العسكريّة

 كان الفكر الصهيونيّ مؤسَّسًا، منذ ما قبل الهجرة اليهوديّة، على معاييرَ إلهيّةٍ وتوسعيّةٍ بذريعة الحاجة الماسّة إلى توفير الأمن لأراضي الدولة العتيدة ومواطنيها. ثمّ ازداد هذا  الفكرُ حضورًا منذ تأسيس الدولة عام 1948، ما أدّى إلى إلى تحوّلها إلى قلعةٍ حربيّةٍ في مختلف مرافقها الحياتيّة؛ وباتت مؤسّساتُ الحكم والخدمة والتنظيم والتعليم والرفاه وغيرها تعمل وفقًا لما تقتضيه هذه الذهنيّةُ الجمعيّةُ أو "الإيثوس" العسكريّ والأمنيّ.[1]

فمن خلال مؤسّساتٍ ذات طابع جمعيّ قوميّ، مثل الهستدروت والكيبوتس، فرَضت الدولة نظامًا تعسفيًّا يَحصر جميعَ المهاجرين اليهود ضمن ثقافة جديدة لا تعترف بالخصوصيّات الثقافيّة ولا بالتنوّع الإثنيّ أو الدينيّ.[2] وقد ارتبط مفهومُ الدولة الصهيونيّة بفكرة الدولة المسلّحة (جيش الشعب)، وبتجنيدٍ شاملٍ للموارد، وبالتعامل مع دول المحيط ومع مواقعها الإستراتيجيّة الحيويّة في وصفها أهدافًا مشروعةً للهجوم.[3]

ولأنّ المجتمع الإسرائيليّ مجتمع عسكريّ في الأساس، فقد تحدّدتْ معالمُ توجّهاته العسكريّة منذ الأيّام الأولى لإعلان الدولة. وتمّ ذلك من خلال سلسلة قوانين، أبرزُها قانونُ خدمة الأمن. وقتها، حدّد بن غوريون، وهو أولُ رئيس وزراء ووزير دفاع لـ"إسرائيل،" أربعَ مهامّ مركزيّة للجيش الإسرائيليّ: 1) تجهيزُ الشعب لحالة الطوارئ باعتباره شعبًا محاربًا. 2) منحُ الشاب المهاجر إلى "إسرائيل" تأهيلًا عسكريًّا. 3) تعميقُ القوّة الضاربة في المجنّدين الحاليّين لصدّ أيّة هجمات مفاجئة، إلى حين تجنيد الاحتياطيّ لمتابعة القتال. 4) بلورةُ شخصيّة الأمّة المتماسكة والناشدة لـ"السلام" والواثقة بقوّتها ومكانتها بين شعوب العالم، وذلك من خلال أطر الجيش.[4]

هذا التوجّه، الصادر من أعلى سلطة سياسيّة وعسكريّة في "إسرائيل" منذ بداياتها، يسود كلَّ مركّبات الدولة.[5] ولاتزال مسألةُ الأمن القوميّ العسكريّ تشكّل موقعَ الصدارة في قائمة الأهداف الإستراتيجيّة العليا هناك، وهي موضعُ إجماع القوى السياسيّة كافّةً. وستبقى العقليّة الإسرائيليّة مرهونةً بالهاجس الأمنيّ، الذي يقوم على فرضيّة أنّ "إسرائيل" في حالة خطر كيانيّ دائم.[6]

من هنا ظهرتْ "عقيدةُ بيغن" التي تعني منعَ دول الشرق الأوسط من التسلّح بأسلحة نوويّة وامتلاك التكنولوجيا النوويّة. وكانت عمليّةُ قصف المفاعل النوويّ العراقيّ عام 1981 فاتحةً لتطبيق تلك العقيدة. ويأتي قصفُ المنشأة النوويّة السوريّة عام 2001، فضلًا عن التشدّد في منع إيران من امتلاك أسلحة أو تكنولوجيا نوويّة والتهديد بضرب مفاعلاتها، في إطار هذه العقيدة، وإطار الإصرار على احتكار السلاح النوويّ في المنطقة.[7]

 

دور التربية

ثمّة مساهمة مهمّة في عسكرة المجتمع تقوم بها المؤسساتُ التربويّة. فهي تُبلور المضامينَ بطريقةٍ "تعقلن" خيارَ الحرب وتجعله منطقيًّا. وهي تعزِّز الروحَ القوميّةَ اليهوديّة، وتغذّي القلقَ والذعرَ من احتمال وقوع كارثة كـ"المحرقة النازيّة."[8]

تهيّئ مراحلُ تنشئة المجتمع خلال سنوات الطفولة والبلوغ أولادَ اليهود وبناتهم في "إسرائيل" لمرحلة الحرب؛ فـ"توقُّعُ" حصول الحرب مركّبٌ مركزيّ في مجرى الحياة اليهوديّة هناك، وأحدُ مركّبات الهويّة الجماعيّة والشخصيّة. وتتغذّى التربيةُ العسكريّة بواسطة الروايات القوميّة الثابتة في مناهج التعليم، ومن أبرزها تلك التي تُقدّس القوّةَ والبطولةَ والرجولةَ وحبَّ القتال، وبواسطتها تُصوَّر الحروبُ جزءًا من عمليّة الصراع على البقاء.[9]

 

حقائق عسكريّة عن "إسرائيل"

يُعدّ الجيشُ الإسرائيليّ، من حيث تسليحه وقدراته، الجيشَ الرابعَ على مستوى العالم. وتُخصِّص الدولة 8 % من ناتجها القوميّ للإنفاق على ما يحتاجه من معدّاتٍ وصناعاتٍ حربيّة وتحديثٍ للآليّات والمنظومات العسكريّة.[10

وتُعتبر الصناعاتُ الحربيّة الإسرائيليّة إحدى دعائم الاقتصاد الإسرائيليّ، إذ تشكّل صادراتُ الأسلحة أكثرَ من 25 % من إجماليّ الإنتاج. وبعد أن اعتمدتْ "إسرائيل" على التكنولوجيا الأمريكيّة بشكلٍ أساس، حصلتْ على تراخيص تصميم أحدث المعدّات والأسلحة الأمريكيّة، وأصبحتْ منتجاتُ الصناعات الحربيّة الإسرائيلية منافسًا قويًّا لمثيلاتها في الدول الكبرى مثل روسيا والصين وألمانيا وبريطانيا وفرنسا والهند. وبدخول "إسرائيل" مجالَ التصدير العسكريّ بهذا الشكل، استطاعت إصلاحَ ميزانها التجاريّ، ناهيك بتشغيل المزيد من الأيدي العاملة الإسرائيليّة وزيادة احتياطها من العملة الصعبة.[11

ما يُميّز الصناعاتِ الحربيّة في "إسرائيل" ويجعلها إحدى أهمّ عشر دول مصدّرة للسلاح إلى العالم (بلغ حجمُ صادرات الأسلحة الإسرائيليّة 7 مليار دولار سنة 2012)[12]هو ريادتُها في تطوير الأسلحة التقليديّة، وتطعيمُها بقدراتٍ حديثة، وتحسينُ أنظمة الصواريخ والطائرات المقاتلة والدبّابات والرادارات في دولٍ كثيرة (كالهند وتركيا والصين وكندا).[13] أمّا لماذا تطوّرتْ صناعةُ الأسلحة الإسرائيليّة فذلك يعود إلى ثلاثة عوامل: 1) التمويل الأمريكيّ لإنتاج مشترك لأسلحة متقدّمة ذات تكلفة باهظة. 2) التمويل الأمريكيّ لمشاريع بحث وتطوير مشترك. 3) السماح الأميركيّ لـ"إسرائيل" بتعديل أسلحة أمريكيّة مشتراة من طرف ثالث وتحديثها.([14]) والحال أنّ الاستثمارات العسكريّة المشتركة بين "إسرائيل" والولايات المتحدة تزيد سنويًّا إلى 1.5 مليار دولار، وتستوعب مئات الآلاف من الإسرائيليين.

ويقدِّر معهدُ التصدير الإسرائيليّ أنّ "إسرائيل" تملك 350 شركة معنيّة ببيع منتجات الأمن القوميّ والحربيّ.[15] ويجري تسويقُ السلاح الإسرائيليّ في وصفه سلاحًا "مجرّبًا" في وجه "الإرهاب" الفلسطينيّ واللبنانيّ.

غير أنّ "إسرائيل" لا تكتفي بتزويد حوالي 70 جيشًا في العالم بالأسلحة.[16]فقد عمل الكثيرُ من الإسرائيليين مرتزقةً في بعض دول العالم الثالث. وهناك أكثر من ألفيْ جنديّ إسرائيليّ في أفريقيا يعملون طيّارين ومظلّيين، وبعضُهم يعمل في شركات أمن خاصّة.

هذا وقد دعمتْ "إسرائيل" أسوأ الأنظمة الفاشيّة في العالم: كنظام بوتا العنصريّ في جنوب أفريقيا، ونظام موبوتو في زائير ومالي. كذلك دعمتْ "فرقَ الموت" في السلفادور، وحزبَ الكتائب في لبنان، والفاشيين في كولومبيا. ناهيكم بأنّها تنفّذ كلّ ما تطلبه منها الولاياتُ المتحدة الأمريكيّة في هذا المجال.[17]

 

عن العلاقة العسكريّة بين "إسرائيل" وأميركا

تتميّز العلاقة بين الولايات المتحدة الأمريكيّة و"إسرائيل" اليوم بوجود شراكة استراتيجيّة كاملة بينهما. وقد أقدمت الولاياتُ المتحدة على خطوات متتالية كرّست التبنّي الأمريكيّ المطلق لجميع أبعاد الاستراتيجيّة الإسرائيليّة في الصراع العربيّ ــــ الإسرائيليّ:

أولًا، ربط الجيشُ الأمريكيّ شبكةَ الدفاع الإسرائيليّ ضدّ الصواريخ بالشبكة الدوليّة للأقمار الصناعيّة الأمريكيّة.

ثانيًا، منذ مطلع الثمانينيّات عمد الجيشُ الأميركيّ إلى تخزين أسلحة أمريكيّة في "إسرائيل،" وسمح لها باستعمالها في حال نشوب حرب.

ثالثًا، سنة 2003 أصدر الكونجرس قانونًا داعمًا بشكل مطلق للتفوّق العسكريّ الإسرائيليّ  إذ عرّفه بأنّه "القدرةُ على مقاومة وهزيمة أيّ تهديد عسكريّ، من أيّ دولةٍ أو مجموعة دول، أو من فاعلين لا دول لهم، وبخسائر ماديّة وبشريّة لأدنى مستوى، وذلك عبر استعمال وسائل عسكريّة متفوّقة وبكميّات كافية، تشمل قدرات الأسلحة وسيطرةَ القيادة والاتصالات والاستخبارات والمراقبة والاستطلاع، وأن تكون هذه القدراتُ بمواصفات تكنولوجيّة متفوّقة على إمكانيّات أيّ دولة أو مجموعة دول أو مجموعة من الفاعلين غير الدول."[18]

الجدير ذكره أنّ "إسرائيل،" علاوةً على تلقّيها مساعداتٍ ماليّةً من الولايات المتحدة منذ قيامها تقدّر بحوالي 234 مليار دولار أمريكيّ،[19] تُعتبر أكبرَ متلقٍّ للتمويل العسكريّ خارج أمريكا، إذ شكّلتْ مِنحُ التمويل الخارجيّ التي تحصل عليها سنويًّا بين 18 و22% من إجماليّ الميزانيّة الدفاعيّة الإسرائيليّة.[20]

بيْد أنّ "إسرائيل" لا تكتفي بتحويل نفسها إلى قلعة عسكريّة، وإنما تسعى أيضًا إلى التحوّل إلى قلعة اقتصاديّة. وهذا موضوعُ الحلقة الثالثة من هذا البحث.

سجن ريمون، النقب، فلسطين المحتلّة

(يتبع)

 

[1] - المؤسسة العسكريّة في إسرائيل، مصدر سبق ذكره، ص 9.

[2] - أحمد رفيق عوض، دعامة عرش الرب، الأهلية للنشر والتوزيع، عمان، ط1، 2011، ص 133.

[3] - المؤسسة العسكريّة في  إسرائيل، مصدر سبق ذكره، ص 248.

[4] - المؤسّسة العسكريّة في إسرائيل، مصدر سبق ذكره، ص 120.

[5] - المصدر السابق، ص 121.

[6] - المصدر السابق، ص 248.

[7] - المصدر السابق، ص 279.

[8] - المصدر السابق، ص 429.

[9] - المصدر السابق، ص 434.

[10] - ماجد كيالي، تحوّلات إسرائيل في عالم متغير (بيروت: منشورات مركز الأبحاث، م.ت.ف، بيروت، ط1، 2015)، ص25.

[11] - المصدر السابق، ص 378.

[12] - المصدر السابق، ص 98.

[13] - الاقتصاد السياسي لصناعة التقنيّة في إسرائيل، مصدر سبق ذكره، ص7.

[14] - المصدر السابق، ص 99.

[15] - نعومي كلاين، عقيدة الصدمة، ترجمة نادين فوزي (بيروت: شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، ط4، 2017)، ص 573.

[16] - دعامة عرش الرب، مصدر سبق ذكره، ص 62.

[17] - المصدر السابق، ص 68.

[18] - الاقتصاد السياسيّ لصناعة التقنية في إسرائيل، مصدر سبق ذكره، ص 95.

[19] - تحوّلات " إسرائيل" في عالم متغير، مصدر سبق ذكره، ص 64.

[20] - جيرمي شارب، المساعدات الخارجيّة الأمريكيّة لإسرائيل (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينيّة، ط1، 2012)، ص 18.

كميل أبو حنيش

وُلد سنة 1975 في قرية بيت دجن في فلسطين المحتلّة. نال البكالوريوس في الاقتصاد، وأصبح مسؤولًا لـ"جبهة العمل الطلّابي" ولـ"المكتب الطلّابي" في الضفّة المحتلة. اعتقله العدوّ الإسرائيليّ وسجنه عدّة مرات. كما سُجن لدى أجهزة السلطة الفلسطينيّة. وما إنْ بدأت الانتفاضةُ الثانية حتى حمل سلاحَه وتقدّم الصفوفَ الأولى، ثمّ أسّس مع رفاقه في الأرض المحتلّة "كتائب الشهيد أبي علي مصطفى" ــ ــ الذراعَ المسلّحة للجبهة الشعبيّة.
تعرّض لغيرِ محاولة اغتيال، ومن بينها استهدافُه بسيارةٍ مفخّخة بتاريخ 25/5/2001 أصيب خلالها إصابةً بالغة.
هدمتْ قواتُ الاحتلال منزلَ عائلته أثناء ملاحقته، بعد اعتقاله بتاريخ 15/4/2005.

طالبتْه "المحكمة" بدفع مبلغ 15 مليون دولار ردًّا على عمليّة مستوطنة "ايتمار" التي اتهمتْه بالتخطيط لها (نُفّذتْ في حزيران 2002 وأسفرتْ عن مصرع خمسة مستوطنين). وقد وَجّهت "المحكمةُ" الصهيونيّة إليه تهمًا أخرى، بينها تجنيدُ منفِّذ العملية الاستشهاديّة في سوق نتانيا في أيّار 2002 (أسفرتْ عن مصرع ثلاثة مستوطنين).
صدرتْ له دراسات سياسيّة واقتصاديّة وأدبيّة. كما صدرتْ له رواية بعنوان: وجع بلا قرار.