حجاجيّة الخطاب في اشتغال أبي بكر العزّاوي
21-08-2016

 

ينخرط الباحث المغربيّ د. أبو بكر العزاوي(1) ضمن اجتهاد معرفيّ معاصر لا تخفى أهميّتُه في سياق انشغالات فكرنا العربيّ الراهن، بل يمكن عدُّه سيرًا حثيثًا وواعيًا على خطى تأسيس مشروع خاصّ في مجال تحليل الخطاب. فقد استفاد الرجلُ من تلمذته لأحد أبرز العلماء الغربيين في مجالات الدرس اللسانيّ المعاصر، وأخذ على عاتقه أن يؤسّس لمشروع البحث الحجاجيّ في المغرب والعالم العربيّ، مركّزًا على الجامعة، مقترحًا إدراجَ نظريّة الحجاج ضمن المقررات الدراسيّة. كما صدح صوتُه في المنتديات الأكاديميّة والعلميّة، عاملًا على إغناء الساحة الثقافيّة بإنتاجات متتالية اتخذتْ من النظريّة الحجاجيّة تيمتها الأساس، صدورًا عن حقيقةٍ ثابتةٍ قوامُها "أنّ الحجاج نجده في كل أنماط الخطاب وأنواع النصوص..."(2)  لذلك فإنّ المتتبّع لأعمال الباحث وأنشطته يتبيّن أنّها تتكامل بهدف تشييد منهج جديد لتحليل الخطاب، والسعي نحو تأصيل تصور منهجيّ يغرف من حقول معرفيّة متعددة.

الخطاب وإمكانات الحجاج

من خلال تأمل اجتهادات الباحث يمكن استخلاصُ جملةٍ من السمات العامة للخطاب، بما يشكّل منطلقات منيرة لطريق المشتغلين في ميدان البلاغة وتحليل الخطاب. هذه السمات هي:

ــــ الطابع المركّب للخطاب، وهو موسوم بالتماسك والانسجام، ويتضمّن دلالةً يراد نقلُها من المرسِل إلى المرسَل إليه. ولذلك فهو "بنية منظّمة،" لها قواعدُها التي تتحكّم في صيرورتها من أجل إنتاج هذه الدلالة الكليّة.(3) فاشتغال الباحث مع النصوص أو الخطابات التي حللها تتوافق مع تلكم المنظورات التي ترى في الخطاب متواليةً هادفةً ودالّةً تنظّم ملفوظاتِه علاقةٌ غيرُ اعتباطيّة.(4)

ــــ الخطاب والحتميّة التأويليّة. فبحسب الباحث، ندرك أنّ حقيقة الخطاب لا تتوقّف عند ممكنات شفراته الدلاليّة المعجميّة، بل تتجاوز ذلك إلى مستوى التعدّي الخارجيّ الذي تصبح فيه للمتحاورين ومستقبِلي الخطاب وظيفةٌ مركزيّةٌ وإضافيّة.(5) إنّ الملفوظات اللغويّة، حينما تسري بين الناس، تمتلك قوةً جليّة، قوامُها السعيُ إلى التأثير في الآخر من أجل دفعه نحو تبنّي رأيٍ ما أو تغيير رأيٍ ما.(6) بل إنّ الخطاب، بحسب الباحث، ولو كان مونولوجيًّا، إنّما يهدف إلى إقناع الذات باعتقادٍ ما، وهو تبريرٌ لما يُسلك ويمارَس.

ــــ الخطاب، بحسب الباحث، بنية متحرّكة، تتفاعل فيها مستوياتُ التركيب والدلالة والتداول، وتتعانق فيه العلاماتُ اللسانيّة الشفريّة، متفاعلةً مع سياقات التخاطب وظروف انبناء النصّ وطبيعة المتلقّي. فهو قائم على منظور يعترف للغة "بحركتها في التاريخ، وفي استعمالاتها التي تنفتح بها على أكثر من رمز أو إيحاء،" فـ"لا تبقى في مدلولها اللغويّ جامدةً لا تتحرّك، بل تأخذ من حركتها التاريخيّة الكثيرَ من الإشارات والإيحاءات التي قد يَفهم منها الناسُ الكثيرَ خارج مدلولها الذاتيّ."(7)

والخطاب بهذا يغدو كتلةً جامعةً ثلاثيّة الأبعاد، كما هو مقترح ضمن خطاطة إيدي رولي للتحليل النوعيّ للخطاب(8): بعد لسانيّ تركيبيّ (معجم وصوت ودلالة)، وبعد نصّيّ (المستوى العلائقيّ التراتبيّ)، وبعد مقاميّ سياقيّ مرجعيّ (المستوى التفاعليّ الاجتماعيّ).

 

الحجاج والنصّ الدينيّ: إشكالات بشأن التحليل اللغويّ الحجاجيّ للقرآن

من الاجتهادات اللافتة للنظر انفتاحُ الباحث على النصّ الدينيّ، وإخضاعُه بعضَ المقاطع القرآنيّة للتحليل الحجاجيّ الموسّع. فقد حلّل سورة الأعلى تحليلا حجاجيًّا تطبيقيًّا،(9) سعيًا إلى تعميق منهجيّة التحليل وتأكيد حضوره في الخطابات، وتوصّل إلى نتائج جديرةٍ بالتطوير والاهتمام من قبيل غنى النص القرآنيّ بالمظاهر الحجاجيّة، والطابع المنسجم للخطاب القرآنيّ ككلّ.

لكنْ، بالمقابل، يضعنا هذا التحليل في صلب إشكالات ذات صلة باللغة القرآنيّة وبمباحث الفكر الإسلاميّ وعلوم القرآن. فقد كشف مثلًا أنّ المقطع الثاني من السورة ملخّصٌ لها برمّتها، ويتضمّن برنامجَها الحجاجيّ العامّ؛(10) وعليه يفضي التحليلُ الحجاجيّ إلى وجود مقطع أول زائد أو غير ضروري. ولا يخفى أنّ مثل هذا التخريج قد يَصْدق على الخطابات البشريّة المحكومة بالقصور، لكنه لا يتناسب والخطابَ "المعجِز."

والأمر عينُه يمكن أن نقوله بشأن ستّ عبارات(11) تبدو، كما يصرّح الباحث، "صياغاتٍ ممكنةً لهذه العلاقة الحجاجية." وهي تُظهر تنويعَ العلاقات الحجاجيّة التي تربط بين الآية الأولى باعتبارها نتيجةً، والآياتِ التالية باعتبارها حججًا وأدلّةً لصالح هذه النتيجة. هذه الاقتراحات توضح المنطقَ الحجاجيَّ للآيات، لكنها لا تأخذ في الاعتبار خصوصيّة التركيب القرآنيّ وتميُّزَه عن الاقتراحات البشريّة: فيصبح  التقديرُ بالحذف أو الزيادة أو التقديم أو التأخير أو التعديل في مستوى الصيغة القرآنيّة نفسها، وهذا من شأنه أن يبدو مهدِّدًا للنسق العامّ والخاصّ الذي ينبني عليه النظامُ القرآنيّ. والحقّ أنّ حجاجيّة الصيغة القرآنيّة يجب أن تُلتمَسَ في هذه الصيغة نفسها، ولا يجوز ــــ وفق منطق النظام القرآنيّ المنسجم ــــ تقديرُ  ترتيبٍ للعبارات ولا للألفاظ في التراكيب بديلًا من الترتيب القرآنيّ لتحصيل المعنى العامّ.

ومن ثمة ضرورة مراعاة الطابع المترابط للنظام القرآنيّ، بالنظر إلى أنّ العبارة القرآنية جزء من نظام كليّ، وتتسق مع باقي العبارات الأخرى، مثلما ينتظم الجسيمُ ضمن النظام الذريّ؛ بخلاف العبارة في الخطاب البشري، حيث العبارة منتظمة فقط مع العبارات الأخرى ظاهريًّا، وقد تناقض في أحيان كثيرة عباراتِه الأخرى.

ــــ ثمّ إنّ توظيف النظريّات الحجاجيّة في تفسير الخطاب القرآنيّ يثير أسئلة ذات صلة بقدرة هذه النظريات، المتجددة باستمرار، على استيعاب هذا النص الثابت. فالنظريات محدودة بمحدودية الإنسان وأدواته المعرفيّة، والمطلوب مراعاة هذه الخصوصية لكي لا نجعل من النص القرآنيّ تابعًا لاجتهادات البشر ورؤيتهم المحدودة. المطلوب مراعاة التغيير الذي يحصل على مستوى الضوابط والقواعد اللغويّة والحجاجيّة بما لا يؤدّي إلى قلب المعنى القرآنيّ. فالمحلِّل مطالَب بأن يجعل القرآنُ إمامَه، لا أن يكون هو إمامَ القرآن.    

 

خاتمة

يشكّل اجتهاد أبي بكر العزاوي ملامحَ مشروع ثقافيّ واعد ومتميز، بالنظر إلى طموحه نحو توسيع النظرية الحجاجيّة، وسعيه الدؤوب إلى تشييد صرح نهج علميّ معاصر يجسّر المسافةَ بين الفكر العربيّ والفكر الغربيّ، ويلاقح بين التراث والحداثة، مثلما يجاهد في سبيل ثقافة إنسانيّة منفتحة تعترف لجميع الأشكال التعبيريّة بقيمتها التواصليّة.

تطوان (المغرب)

 

1- أبو بكر العزّاوي: أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب والعلوم الإنسانيّة، جامعة مولاي سليمان. متخصّص في اللسانيّات وتحليل الخطاب، وخصوصًا التحليل الحجاجيّ. من أهمّ مؤلّفاته: اللغة والحجاج، الخطاب والحجاج، اللغة والمنطق: مدخل نظري،Argumentation et Enonciation  . حضّر أطروحة دكتوراه بإشراف Oswald Ducrot  تحت عنوان: "بعض الراوابط التداوليّة في اللغة العربيّة: مقاربة حجاجيّة أصواتيّة" (1989-1990) بمعهد الدراسات العليا في العلوم الاجتماعيّة بفرنسا، وأنجز أطروحة أخرى لنيل شهادة  دكتوراه الدولة بإشراف الدكتور محمد مفتاح حول موضوع "الحجاج في اللغة العربيّة" (2000-2001).

2- أبو بكر العزّاوي، الحجاج والخطاب (بيروت: مؤسّسة الرحاب الحديثة، ط 1، 2010)، ص 11. وهو المنطلق نفسه لدى المفكر طه عبد الرحمن في: اللسان والميزان أو التكوثر العقليّ (البيضاء ـــ بيروت: المركز الثقافيّ العربيّ،  ط1، 1998)، ص 213.

3- سعيد جبار، "بلاغة الخطاب كيف تتحقق، قراءة في نموذج  من نصّ رحليّ،" ضمن كتاب: البلاغة والخطاب، إعداد محمد مشبال (منشورات ضفاف، الاختلاف، ط 1 ، 2014)، ص 162-163.

4- A. Reboul ; J .Moechler, Pragmatique  du discours, de l’interprétation de  l’énoncé à  l’interprétation du discours , ed. Armand  Colin, Paris 2005, p. 163.

5- وهذا ما يعبّر عنه طه عبد الرحمن بخاصّيّة الحواريّة أو المحاورة. ينظر: طه عبد الرحمن، في أصول الحوار وتجديد علم الكلام (البيضاء ـــ بيروت: المركز الثقافيّ العربيّ، ط2، 2000)، ص 57.

6- "أن أتحدّث لغة ما يدلّ دائمًا، فضلًا عن حديثي بهذه اللغة، على شيء آخر... إنّ للشكل اللغويّ الذي نختار الحديثَ به  دلالةً ذاتيّةً هي الرسالة، ولهذا الشكل اللغويّ على صعيد آخر دلالة إيحائيّة." ينظر: لويس جان كالفي، حرب اللغات والسياسات اللغويّة، ترجمة د. حسن حمزة (بيروت: المنظمة العربيّة للترجمة، ط 1، 2008)، ص 139.

7- محمد حسين فضل الله، الاجتهاد بين أَسْرِ الماضي وآفاق المستقبل (البيضاء ـــ بيروت: المركز الثقافيّ العربيّ، ط 1، 2009)، ص 178.

8- Eddy Roulet, «Vers une approche modulaire de l’analyse de discours,» Cahiers de linguistique  françaises, N 12, 1991, p. 59

9- الخطاب والحجاج، ص 17 ــ 31. وفي مناسبة أخرى حلل الباحث أواخر سورة البقرة  تحليلًا حجاجيًّا؛ تنظر دراسته: "الحجاج والانسجام في القرآن الكريم: خواتيم سورة البقرة نموذجًا،" مجلة البلاغة وتحليل الخطاب، العدد 5 ، 2014، ص 43 – 50.

10- الخطاب والحجاج، مرجع سابق، ص 25.

11- المرجع السابق، ص 21

عبد الفضيل أدراوي

باحث في البلاغة وتحليل الخطاب في كلية الآداب بمرتيل التابعة لجامعة عبد المالك السعدي - تطوان – المغرب.