اليمن: ثورة، وحرب أهليّة، وأخرى إقليميّة (ملفّ)
18-03-2016

 

 

تتشارك الثورةُ في اليمن مع باقي الثورات العربيّة مهامَّ إسقاط الأنظمة الاستبداديّة وخياراتها الاقتصاديّة والاجتماعيّة، وتأسيس نظامٍ جديدٍ قائمٍ على المواطنة والحريّة، ووضع برامجَ اقتصاديّةٍ واجتماعيّةٍ تعبّرُ عن مصالح الفئات الشعبيّة الغارقة في الفقر والبطالة والتهميش. لكنّها تمايزتْ عن غيرها بضرورة حلِّ مسألة الهويّة الوطنيّة، وهي الإشكاليّة التي طغت على المشهد السياسيّ اليمنيّ منذ حروب صعدة عام 2004 والحراك الجنوبيّ عام 2007؛ حيث برز فشلُ الدولة في تحقيق الاندماج الوطنيّ، ما أدّى إلى صعود الهويّات قبل الوطنيّة.  المشكلة الجنوبيّة كانت الأعمق نتيجةَ وحدةٍ حديثةٍ أقيمت على عجلٍ وارتجالٍ وسوء تخطيطٍ وتنفيذ، ولم يمرَّ عليها سوى خمسةٍ وعشرين عامًا. وبذلك فإنّ الدولة الحديثة التي نشأتْ بين نظامين مختلفين في تسعينيّات القرن الماضي سرعان ما دخلت في أزمةٍ عميقةٍ، تدهورتْ إلى حربٍ شاملةٍ بعد أقلِّ من أربع سنواتٍ على قيامها، نجم عنها انتصارُ نظام علي صالح والإسلاميّين والقوى التقليديّة التي تمثّل المشايخَ وقبائلَ مختلفةً، في بلدٍ لا تشكّل الوحدةُ فيه سوى استثناء؛ فالدولة اليمنيّة لم تتحقّق منذ 270 سنةً تقريبًا.

 

عكست الأزمة والحرب في صعدة فشلَ نظام جمهوريّة سبتمبر 62 في تحقيق اندماجٍ وطنيّ على مستوى الشمال، تمامًا مثلما عكستْ فشله في إنجاز مهامِّ التحديث ورفع المستوى المعيشيّ. فهذا النظامُ كان أشبه بنظامِ الإمامة من دون إمام: استُبدلتْ هيمنةُ الزعامة الروحيّة للفقهاء الهاشميّين بالزعامة الاجتماعيّة لمشايخ القبائل، مع بقاء مركزِ السلطة في المنطقة القبليّة الشماليّة، مشكّلًا طبقةً مهيمنةً مكوّنةً من العسكر والمشايخ والبرجوازيّة التجاريّة، مع حضورٍ للقوى التقليديّة من السادة والقضاة.

عند انطلاق الثورة، حاول النظامُ تحويلها إلى أزمةٍ سياسيّةٍ مع أحزاب المعارضة. وهذه الأخيرة كانت، من حيث بنيتها وأيديولوجيّتها وتركيبة قيادتها، مكوّنةً من قوًى إصلاحيّةٍ غير ثوريّة، فلم تستطع حسمَ المعركة على الرغم من جماهيريّتها وسيطرتها على ساحات الحراك الثوريّ. ومع استعصاءِ الحسم من قبل الثورة أو النظام، تدخّلت القوى الدوليّةُ بما يُعرف بـ"المبادرة الخليجيّة" لمنع أيّ تغييرٍ حقيقيّ، والاكتفاءِ بإبعاد علي عبدالله صالح وتقليص نفوذه. لكنّ هذا الأمر لم يحدث، إذ تمَّ تغييرٌ شكليٌّ في المناصب العليا، وبقي الجهازُ العسكريُّ والأمنيُّ والإداريُّ كما كان عليه تقريبًا، وبقي تحت تأثير صالح ورجاله، وتمكّن من استعادة قطاعاتٍ انشقّت عنه إبّان صعود الموجة الثوريّة.

لم تحقّق الحكومة الناتجة من التسوية أيَّ إنجازاتٍ للمواطنين، ولم تقدّم حلولًا للمشكلات الأساسيّة، بل زادت المشكلاتِ المعيشيّة عمقًا. وبدا للمواطن أنّ المعارضة التي تحاصصت السلطةَ مع النظام أكثرُ منه فسادًا وانغلاقًا. والواقع أنّها لم تكن تمتلك برنامجًا اقتصاديًّا واجتماعيًّا مختلفًا عن النظام، الأمر الذي أحبط قطاعاتٍ شعبيّةً واسعةً، فعاد بعضُها إلى الاصطفاف خلف النظام. ومع تفاقم الأزمة الاجتماعيّة والمعيشيّة، وتعمّقِ الأزمة الوطنيّة، وصعودِ الخطابات قبل الوطنيّة، استطاع نظامُ صالح والجماعةُ الحوثيّة تعبئةَ قطاعاتٍ من أبناء المنطقة القبليّة الزيديّة الشماليّة على أساسٍ طائفيّ وقبليّ، مستغلّيْن فشلَ المعارضة التقليديّة التي قُدّمتْ ممثّلًا للثورة، ومستغلّيْن أيضًا مخاوفَ أبناء تلك المنطقة الذين يعتمدون على العمل في قطاعات الدولة، ولاسيّما الجيش والأمن؛ فقد ركّز الحوثيّ وصالح على أنّ مطالب المعارضة والجنوبيّين، بتغييرِ شكل الدولة واعتماد الفيدراليّة، إنّما تهدف إلى حرمانهم مصدرَ عيشهم الرئيسَ ذاك.

تحوّلت الثورةُ، إذن، إلى أزمة سياسيّة، وحوّلها تحالفُ صالح والحوثيّين إلى صراعٍ أهليّ، لتصل في نهاية المطاف إلى حربٍ إقليميّةٍ بالوكالة بين حلفاء السعودية وحلفاء إيران. فقد تدخّلت السعوديّةُ، التي كانت قد خسرتْ أغلبَ حلفائها من الإخوان المسلمين ومشايخِ القبائل، بالحرب المباشرة ("عاصفة الحزم")، ودخلتْ في صراعٍ لإضعاف خصومها. واليمن اليومَ ساحةُ حربٍ إقليميّة، مباشرةً أو بالوكالة؛ والحال أنّ القوى الإقليميّة تحرّكتْ أساسًا لإجهاض الثورات العربيّة خوفًا من أن تصلَ إليها، ومن ثمَّ لتملأ الفراغَ الناجمَ عن الانسحاب الأمريكيّ من المنطقة  ولتعزيز نفوذها.

الصورة تبدو وكأنّ الفاعلين الإقليميّين، ومن ورائهم القوى الدوليّة، هم المتحكّمون بسير الأحداث. وبغضّ النظر عن الموقف من العدوان السعوديّ، فلا شكَّ في أنّه نجح في إضعاف صالح والحوثيّين، ولاسيّما عسكريًّا، إذ خرج سلاحُ الجوِّ من الحساب تمامًا وتعرّض الكثيرُ من آليّاته للتدمير. لقد تمكّنت السعودية، والتحالفُ "العشريّ،" والجيشُ الموالي لهادي، والمقاوماتُ المختلفة (جنوبيّةً وشعبيّةً)، من السيطرة على كلِّ الجنوب تقريبًا، وعلى محافظاتٍ مهمّةٍ في الشمال. وأمّا المقاومة الشعبيّة فهي لا تزال تتّسم بالتشتّت وسوءِ التنظيم، كما أنّها لا تخضع لأيّ برنامجٍ سياسيٍّ موحّد. وهذا قد يُفسِّر تردّدَ السعوديّة وحلفها في دعم المقاومة على نطاقٍ واسع. ومن أسباب تردّد السعودية الأخرى: عدمُ حسم أمرها في دعم "التجمّع اليمنيّ للإصلاح" أو شخصيّاتٍ مثل الجنرال علي محسن؛ وخشيتُها من وصول السلاح إلى جهاتٍ غير مرغوبةٍ (ولاسيّما "القاعدة" والتنظيماتُ الجهاديّة والإرهابيّة المشابهة لها)؛ وتعرّضُها لضغوط من الولايات المتّحدة التي لها أولويّاتٌ مختلفةٌ عن السعودية ــــــ خصوصًا لجهة حلِّ ملفِّ المباحثات النوويّة مع إيران والتفاهم معها حول أمن إسرائيل واستقرار الخليج.

إذن، سيُضعف العملُ العسكريُّ السعوديّ قوى التحالف الصالحيّ ـــــ الحوثيّ أكثر فأكثر، ولاسيّما مع صعوبة تعويض الآليّات والعتاد العسكريّ في ظلِّ الحصار. كما أنّ المقاومات المحليّة والشعبيّة تزداد تصلّبًا وقوّةً وتنظيمًا، ولاسيّما في مأرب وتعز والضالع وأخيرًا في الجوف، وهذا ما يجعل عاملَ الوقت في غير صالح التحالف المذكور، ولاسيّما أنّ السعودية لا تخضعُ لأيِّ ضغطٍ جدّيٍّ دوليّ، بل إنّ احتمالات التدخّل البريّ تبدو اليوم أكبر من أيّ وقتٍ مضى مع قصف الحوثيّين لنجران وجيزان.

لكنّ توسّع القصف السعوديّ سيعزّز من التحالف الصالحيّ ـــــ الحوثيّ. كما أنّه سيدفع بقطاعاتٍ شعبيّةٍ تعتبر السعودية عدوًّا تاريخيًّا لليمن إلى الانضمام إلى ذلك التحالف لسببين رئيسين هما : 1) احتلالُها جزءًا من اليمن الطبيعيّة (جيزان ونجران وعسير)؛ 2) ووقوفُها ضدَّ الثورة اليمنيّة (26 سبتمبر) ودعمها للملكيّة الإماميّة.

 

اليسار اليمني والأزمة

يُعتبر اليسارُ اليمنيُّ، وخصوصًا الحزبُ الاشتراكيُّ اليمنيّ، الأكثرَ تجذّرًا وشعبيّةً، مقارنةً بالتنظيمات اليساريّة في الوطن العربيّ. نحن هنا أمام تجربة يسار ٍ قاد الكفاحَ المسلّح ضدَّ الاستعمار البريطانيّ، ليحكمَ منفردًا جنوبَ اليمن بمرجعيّةٍ ماركسيّةٍ معلنة، قبل أن يقودَ الجنوب إلى الوحدة سنة 1990. نقول ذلك بغضِّ النظر عن حكمنا على طبيعة النظام الفعليّة، والتي كانت تعبّر عن "وطنيّةٍ يمنيّةٍ بشعاراتٍ يساريّة." وقد مرّت هذه الوطنيّة بأزمةٍ، كانت أبرزَ تجلّياتها كارثةُ يناير 1986، التي تمّت بين فصيلين داخل الحزب، وأخذتْ أبعادًا جهويّةً وعشائريّةً، وصولًا إلى وحدةٍ سيّئة الإعداد، ثم حربٍ خرج منها خاسرًا عام 1994.

 كان موقفُ الحزب من ثورة فبراير 2011 هو الأفضلُ بين أحزاب اللقاء المشترك التي كانت تشكّل المعارضة. فقد كان أوّلَ من أعلن دعمها، وأدّت شبيبتُه دورًا بارزًا في قيادة التحرّكات الأولى في صنعاء وتعز  وإب، بل كذلك في الاحتجاجات على اجتياح تحالف صالح ـــــ الحوثيّ لصنعاء في سبتمبر 2014، وعلى الانقلاب في يناير 2015. كما أنّ أولى المحافظات التي تحرّرتْ من سلطة التحالف المذكور كانت محافظة الضالع، اعتمادًا على قوًى شعبيّةٍ تُعتبر معقله الأساسيّ. والأمر نفسُه في مشرعة وحدنان في تعز، وهي أولى المديريّات التي سقطتْ من أيدي التحالف؛ وأيضًا في مديريّة عتمة، وهي المديريّة الوحيدة التي انتفضت على التحالف في ذمار  في قلب المنطقة الشماليّة، وكان أبرزَ قادتها سكرتيرُ منظمة الحزب الذي قُتل لاحقًا مع مئات الاشتراكيّين في مختلف الجبهات.

في المقابل، بدا موقفُ قيادة الحزب متردّدًا، ولم يكن الحديثُ عن تواطؤ قسمٍ منها مع الحركة الحوثيّة بلا أساسٍ على ما يبدو. الموقفُ الرسميُّ للحزب بقي شاجبًا للحرب بشكلٍ عامّ، وداعيًا إلى عودة الشرعيّة والعمليّة السياسيّة، ما يعكس العجزَ عن فهم الأحداث التي تجاوزت العمليّة السياسيّة وأعلنتْ  فشلَها. يحاول الحزبُ أن يبني ما يسمّيه "قوةً ثالثةً" ــــــ وهذا هو الأمر الصحيح. لكنّه بدلًا من الانخراط في المقاومة وتنظيمها وإعطائها الشعاراتِ والبرنامجَ السياسيَّ المناسب لاستكمال ثورة فبراير 2011، فإنّه يكتفي بما يشبه الوعظَ، حارمًا نفسَه والمجتمعَ من تكوين أيِّ بديلٍ سياسيٍّ ومسلّح من خارج التحالف السعوديّ وحلف صالح ـــــ الحوثيّ.

وكما يسمح تطوّرُ القتال وتجذّرُ الحركة الشعبيّة بتكوّن تنظيماتٍ يساريّةٍ ثوريّةٍ خارج أحزاب اليسار التقليديّة، فإنّه يسمح أيضًا بتبلور تيّارٍ داخل الحزب يعيده إلى خطّه الوطنيّ والثوريّ والاشتراكيّ. وذلك أمرٌ برسم المستقبل.

إنّ اليمن الآن في أتون حربٍ أهليّة، وهي مساحةٌ لحربٍ إقليميّةٍ تتجاوزها؛ إضافةً إلى كونها، في مستوًى ما، حربًا أهليّةً عربيّة وحربًا أهليّة إسلاميّة. ومثلَ أيِّ حربٍ أهليّةٍ فإنّنا نتحدّث عن شهورٍ وسنواتٍ قد تتغيّر فيها المعادلاتُ والحسابات مرارًا. ورغم أنّ الشكلَ الظاهر يوحي بأنّ أطراف الحرب الإقليميّة هي الأطراف الفاعلة الوحيدة اليوم، فإنّ الزعم أنّ الخيار الوحيد هو إمّا الانضمامُ إلى المعسكر السعوديّ والتحالف "العشريّ" أو التمترسُ وراء التحالف الرجعيّ الصالحيّ ــــــ الحوثيّ لا يَحمل أيَّ حلٍّ حقيقيٍّ لمشكلات الشعب بل يزيد من تعميقها؛ كما أنّه يزيّف طبيعة الصراع بين قوى الحراك الثوريّ وبين أعدائها المحليّين والإقليميّين والدوليّين. وهذه القوى (الثوريّة والشعبيّة) مطالبةٌ اليوم بأن تشكّل مركزًا سياسيًّا مستقلًّا بعد أن تتجاوز أوهامها حول التنظيم وحول حمل السلاح في بلد الحرب الأهليّة والإقليميّة.  

وكما أنّ الوقتَ سيزيد من فرص تبلور مقاومةٍ ــــــ مقاوماتٍ شعبيّةٍ ووطنيّة، فإنّه سيحمل إمكانيّات زيادة التدخّل الخارجيِّ للسيطرة على أشكال المقاومة.

اليمن

 


 

 

معن دماج

مدرّس في قسم الفلسفة، كليّة الآداب، جامعة صنعاء، سكرتير القطاع الطلّابي للحزب الاشتراكيّ اليمنيّ بين العامين 1994 و1997.