بابٌ بدرفتيْن
28-02-2016

 

في ذلك المنزل الذى يبتعد شارعين عن البحر، كان هذا الرجل، الذي نراه دومًا يدخل أو يخرج من المنزل، يقيم وابنه وحدهما في شقّةٍ في الطابق الثاني.

هو الرجل الذي لا يتحدّث كثيرًا، ويعيد ضبطَ نظارتيْه على عينيْه دائمًا، وهو يهمّ بالدخول إلى البيت، مصطحبًا جريدةَ اليوم مطويّةً بعناية. وحين يعود إلى شقّته عصرًا يعلو صوتُه نابيًا فظًّا: شتائم متوالية لا تهدأ، كلّها تتّجه نحو ابنه؛ الابنِ الذي يحمل حقيبته المدرسيّة كلّ صباح سيرًا نحو المدرسة الإعداديّة الوحيدة عند نهاية الشاطئ الممهّد. كلّ عودة للرجل تتحرّك معها كومةُ الشتائم المكرّرة، قبل أن يحلّ صمتٌ تامّ فجأة. وسط كلّ ذلك، قد يتناهى إلينا صوتٌ نخمّن أنّه صفعةٌ قويّة.

لكن، اليوم، هناك ماهو مختلف: هناك صوتُ ارتطامٍ قويّ بالجدار، ثمّ بدلًا ممّا نظنّه الصفعة الوحيدة اليوميّة، هناك ما يشبه صفعاتٍ تتتالى. لا شتائم اليوم، فقط تلك الجملة: "ناقصك إيه تاني... مش عارف تبقى زيّ طه حسين."

فاجأتْنا الكلماتُ والأصواتُ المتضاعفة. أزالت حفيظتَنا التي تمنحنا تريّثًا كلّ يوم في أن نستكشف ما يجري، وزادت من رغبتنا في اتّخاذ موقفٍ فوريّ من دون مزيدِ تفكير.

كنّا ثلاثة زملاء قد ذهبنا في مأموريّة عملٍ في تلك المدينة التي تشبه قريةً كبيرة، والتي تبعد عن مقرّ العمل ثلاثين كيلومترًا، تقطعها العربةُ كلّ صباح، وتعود بنا في الثانية ظهرًا.

أسرعنا نهبط السلالم حتّى صرنا أمام الباب. تردّدنا قليلًا، ثمّ طرقنا بقوّة. ظهر الرجلُ بعينين لا يشوبهما إحساسٌ بالمفاجأة. كان بابُ الشقّة يتكوّن من درفتين: إحداهما مغلقة كليًّا، والأخرى تُفتح للدخول إلى الشقّة والخروج منها.

فتح الرجل درفة الباب ليكون مواربًا، وتكفّل جسدُه ويداه ـــ اللتان طوّقتا الدرفة ـــ بإغلاق معظم مساحة الصالة فى وجوهنا. فتّشتْ عيونُنا الفضاءَ المتاح، تحاول أن تقفز نحو الداخل بحثًا عن الولد. "في إيه؟" تحدّث الينا مستنكرًا وجودنا. نظرنا بعضُنا إلى بعض قليلًا، وحاول واحدٌ منا التباسطَ معه لتهدئة الموقف. قال زميلنا: "فين مصطفى؟ لِيه معايا فلوس حاجات اشتراها لنا وما أخدش تمنها."

نظر الرجلُ نحونا مستغربًا، وسأل: "حاجات إيه؟" أسرع زميلنا مضيفًا: "حاجات،" ثمّ صمت لا يعرف ماذا يضيف. تبادلنا النظرات لا ندري كيف نساعده. رمقه الرجلُ غاضبًا وهو ما زال ممسكًا بدرفة الباب حتّى لا تزيد المساحةُ الضيّقة الموارِبة، ثم نظر إلى الداخل كمن يستفسر من الولد، الذي نحاول أن نرى ظلّه من المساحة المنكشفة من الصالة؛ نحاول كثيرًا، لكنْ لا شيء يظهر.

عاد الرجل ينظر نحونا بغضبٍ أكبر، ثمّ مدّ يده ملتقطًا ورقة الجنيهات الخمسة، التي كان زميلنا قد أظهرها محاولًا تأكيدَ صحّة ما قاله. "حابقى اديهاله،" قال الرجل وهو يسارع في إغلاق الباب. وضع زميلنا قدمَه ونادى: "مصطفى... إنت فين؟ تعالَ!"

من أحد طرفي الصالة مال الولدُ بجسمه لنرى وجهَه، ثمّ اختفى سريعًا. بدا وجهُه مصفرًّا باهتًا، وعيناه مذعورتين، تحيط بهما خيوطُ دموعٍ عريضة. "تعالَ يامصطفى،" أكمل زميلُنا وهو يضغط على يد الرجل اليسرى الممسكة بدرفة الباب المواربة. اضطرّ الرجلُ إلى أن يُنزل يدَه، فانفتح الباب. كان الولد ينظر إلى أبيه ثم نحونا صامتًا. عاد صوتُ الرجل يعلو في غلظةٍ أكبر، ووجهُه يزداد احمرارًا: "عايزين إيه تاني؟ اتفضّلوا بقى."

لم يمهله زميلنا الذي كنّا نقف حوله، وكأنّنا منحناه كلّ طاقتنا وأصواتنا ليتصرّف، فانطلق نحوه: "إنت راجل أهبل، كلّ يوم تضرب في الواد علشان مش مصدّق إنه مش عارف يكون زيّ طه حسين. وانتَ ليه ماطلعتش برأسك الضخم أحمد زويل؟"

بدت دهشةٌ وارتباكٌ على وجه الرجل، وطال صمتُه، وزادت مساحةُ الضيق منّا في عينيْه. وحين كنّا ننتظر منه ردًّا، فاجأنا بأن أغلق درفةَ الباب بقوّة. وقفنا قليلًا متحيّرين، ثمّ مضينا. خرجت السيّدة العجوز التي تقيم في الشقّة المقابلة، وتحدّثتْ إلينا بصوتٍ مرهق: "الراجل شقيان، والواد لُعبِي، ونفسه بس ما يتبهدلش زيّه!"

زاد صمتنا، وواصلنا الصعودَ ولم نردّ.

كلَّ يوم، حين نعود من عملنا، نجلس وقد خفضنا صوتَ التليفزيون إلى حدّه الأدنى في انتظار ما نعرفه. كلَّ يوم ننتظر طويلًا، ويكون الصمتُ قويًّا، ثمّ لا شيء.

القاهرة

هشام عطيّة عبد المقصود

أستاذ في كليّة الإعلام في جامعة القاهرة. له العديد من الأبحاث في مجال الإعلام ــ العربيّ والغربيّ ـــ وأثره الاجتماعيّ.