تطريز على حواشي الطعام
18-03-2016

 

لربّما خالني بعضُهم بلا موضوع، شأن الشاعر الذي رأى الهلالَ فَمًا مفتوحًا يتهيّأ ليلتهمَ الثريّا، وقد تصوّرَتْ له عنقودَ عنب، فرأيتُه يسامرني قائلًا: ما كان أبوك طبّاخًا وما ينبغي لك. ثمّ إنّ من بديهيّ البديهيّات أن تحدّث الناس عن قصعة كسكس، وهي معيشُهم اليوميّ وسلطانةُ مطبخهم...

فقلت: مهلًا سيّدي أحدّثكَ بما عَنَّ لي.

فقال مستبشرًا: إنّي من القارئين.

كلّ البديهيّات مثخنة بالفراغات التي لم تُمْلَأْ بعد، تمامًا كنصّ دراميّ لم يُخْرَجْ عرْضًا، أيْ لم يجد الساحرُ المُخرجَ الذي يخرجه من جسد الورق ويلْبسه الفضاءَ وأجسادَ الممثّلين. كذلك هي قصعةُ الكسكس: نصٌّ مغربيٌّ غُفْل، وإنْ حضر مع المغربيّ أينما حلّ وارتحل. نصّ لا تكتمل احتفاليّةُ الجمعة إلّا به. أيّةُ مصادفةٍ تلك التي تجمع بين أكلة أمازيغيّة وشريعة عربيّة إسلاميّة؟

قصعة الكسكس نصُّ عنوانٍ مليء بالدلالات؛ علامةٌ مسجّلةٌ في تاريخ الوجدان والإحساس، قبل الورق والميديا ووسائل الاتّصال. دلالات عمّا يعرّفُني بالآخر، ويتمثّل هويّتي ووجودي وإنسيّتي؛ ذاك الذي ينطق بدلًا منّي بما اصطُلح عليه بـ"تَمَغْرِبِيِتْ." فلا غرابة أن يستضيفَ ذاك المغربيُّ، المقيمُ في فرانكفورت أو فيلادلفيا أو سيدني، ضيوفًا من تلك البلاد الموزّعة بين أجناسٍ وألسنٍ وأراضٍ شتّى، ويقدّم لهم الكسكسَ لا غيره. إنّه يكتب، صَمْتًا، على بياضات مائدة الطعام: أنا مغربيّ، بأمازغيّتي وعربيّتي وإفريقيّتي وإنسيّتي... ولربّما كانت جوازَ عبورٍ غذائيٍّ إلى الأندلس، حيث مكث الغريبُ هناك على ستّمائة عامٍ من الخيل، بتعبير محمود درويش، فتغيّر اسمُها من الكسكس إلى پايلّا(Paella أو الباهية).

قصعة الكسكس طعامُ مَن لا طعامَ له من فقراء وطني، وإن غَدَتْ "تَامْبَصَلْتْ" أو خبزًا يابسًا ببصَلٍ وبهارات وقطرة زيت، هنيئًا مريئًا للآكلين؛ ففضلاتُ الخبز اليابس لا يُرْمى بها خارج البيت، بل يُعاد إنتاجُها طعامًا شهيًّا، متى ضاقت ذاتُ اليد وشحّ الدرهمُ. إنّها حكمة اقتصاديّة يتقنها الفقراءُ، تقول إنّنا أجزاءٌ في وحدة، نلتئم بعضنا مع بعض، ولا نفرّط في أحدٍ منّا.

قصعة الكسكس متنٌ بصريّ متواتر بين الأجيال، من العمّة إلى الخالة. يخترق كلّ حدود الدم والقرابة، ويتربّع على عرش المناسبات والأعياد والحفلات الاجتماعيّة والرسميّة. هو ملتقًى لحواسّ البصر والشمّ واللمس والذوق.

قصعة الكسكس تنويعةُ ألوانٍ، من أبيضها وأخضرها وأصفرها وأحمرها وبُنّيّها. وتنويعةُ طعامٍ مَفْتُولٍ على مَهلٍ، هناك في باحة البيت، رفقةَ القصعة والطحين والسميد والملح والماء تحت أشعّة الشمس. بيد الجدّة ذاكرةُ العائلة، وموطنُ الحكايا، وصيدليّةُ المرضى، ومرجعُ النسوة متى احْتَجْنَ إلى مشورةٍ بشأن الأولاد والأزواج والأحفاد. ولكون قصعة الكسكس نصًّا جامعًا فقد تَحدّد به مفهومُ الطعام في المعجم المغربيّ الدارج، دون غيره من أصناف الأطعمة التي يَحْفل بها المطبخُ المغربيّ؛ فأن يدعوك المغربيُّ إلى أكل الطعام، فهو يدعوك حقًّا وصدقًا إلى تناول الكسكس لا غيره. بل لقد وصل الحدُّ إلى القسَم به، فيقول أحدُهم: "استحلفُكَ بحقّ الطعام الذي بيننا."

قصعة الكسكس دائرةٌ وسط دائرة الطبليّة الدائريّة، وسط باحة الدار تحت قبّة السماء، حيث يجلس آكلوها على صعيد طعامٍ واحدٍ من دون تمييز، دلالةً على حضور الحسّ الديمقراطيّ في الذهنيّة المغربيّة. وإذ يَحْضر اللبنُ المصبوبُ على الطعام، تَحْضر الثقافةُ اللبنيّةُ الثاويةُ في أعماق الكائن، الجامعةُ في رحِمِها بين الجوهر والمحتوى في بعديْه الأمازيغيّ والعربيّ، والمنفتحةُ بطبيعتها الجغرافيّة على الفضاء العالميّ من غير مركّب نقصٍ أو حَرَج نرجسيّ.

قصعة الكسكس هي عنوانُ جماعيّةِ الإنسان المغربيّ. ومشاركتُه الطعامَ مع غيره باليد، من صحنٍ طينيٍّ واحد، استحضارٌ للمرجع الإنسانيّ الواحد، وتوحُّدٌ مع الطبيعة والإنسان. لذلك كان من العيب أن يتخلّف عنها آكلوها؛ فهي الدائرةُ المغلقة على ذاتها، لتشهد تذوّقَ الناس طعامَهم، وأحاديثهم المسترسلة عن همومهم وآلامهم وطموحاتِهم وآمالهم... تلك الدائرة التي متى انشطرتْ صارت قوسًا أو هلالًا يُمَوْسِقُ الأبوابَ والقبابَ والداراتِ والمساجدَ ومداخلَ الحارات والأزقّة بالسكينة والطمأنينة، ويذكّر سكّانَها ومرتاديها ببدء الخليقة ومعادِها، من التراب إلى التراب .

قصعة الكسكس هي صكُّ غفرانٍ، وميثاقُ تصالحٍ بين المتخاصمين والمتنافرين، وقربانُ مودّةٍ مع الضيوف وأبناءِ السبيل والوافدين، وإعلانُ نسَبٍ لطالبي النسب وذوي القربى. ولذلك كانت نصًّا جماعيًّا في شكلها وتحضيرها ومحتوياتها وألوانها وآكليها. ولئن تعدّدتْ ألسنُهم وروافدُهم الثقافيّة، فهم في حِلٍّ من فرقةٍ متوهّمة، أو صراعٍ مطبوخٍ في دهاليز الساسة، ما داموا يقتاتون من طعامٍ أنبتتْه هذه الأرض، وتحت ضوء شمسٍ واحدة، في وطنٍ لا يصحّ الولاءُ إلّا له دونًا عن العالمين.

المغرب

محمد الشغروشني

كاتب ومخرج مغربيّ. نشر العديد من المقالات والدراسات في المجلات والجرائد والمواقع الإلكترونيّة. شارك في العديد من المهرجانات المسرحيّة والسينمائيّة الوطنيّة والعربيّة والدوليّة. من أعماله المسرحيّة مُخرجًا: فاوست والأميرة الصلعاء (1988)، حكاية العربة (1989)، سيدي عرجون (1990). من أعماله المسرحيّة مؤلّفًا: طلاسم وتراتيل: نصّان مسرحيّان (2015). من أعماله السينمائيّة الروائيّة والوثائقيّة: أحلام هاينة (2004)، بارشمان، الدائرة 70، تافرنانت (2011)، قصبة الأوداية (إخراج مشترك 2012)، أنا قبالة أنا (2013)، أوجاع الظلّ (2013).