مرطبان المربّى
30-04-2019

 

لم أعرفْه جيّدًا، لكنّني لم أتصالحْ مع فكرة ابتعاده. حين رحل كامل، أخفيتُ ألمًا من نوعٍ نادر: ألمَ الإصابة بحبِّ شخصٍ ميّت. لا أعرفُ لِمَ يراودُني شعور أنّه مازال في مكانٍ ما، في نِيس أو موناكو، يدخِّن سيجارَه التوسكانيلّي، ويحتسي بيرةً باردةً، ويجلس تحت الشمس، رأسُه الأقرع اللامع فارغٌ من كلّ شيء، حتّى من اسمِه، ينظر إلى أوجه العابرين من دون أن يراهم.

كان كامل ــ كعادته في ذلك النهار ــ نائمًا، حين هاتفَه عوْني، أخوه الأكبر. صمت عوني طويلًا قبل أن يقول، وهو يصحِّح وضعَ نظّارتيْه فوق أنفه الأفطس: "أمُّكَ في ذمّةِ الله." مضت أيّامُ الحداد الأربعون، كانت زياراتُ الأهل والأقارب تتوالى خلالها متقطِّعةً، وتتكثّف في العطل الأسبوعيّة. كان كامل يستمع، ويبتسم، ويَلْزم الصمتَ. وكان صمتُه يُحْرجهم، أو يُشْعرهم بأنّ إقامتَه سنواتٍ في أوروبا جعلته يتكبّر عليهم. حاول أولادُ عمّه استرجاعَ أيّام الطُّفولة التي قضوْها في الملجأ، وضحكوا. لكنّ كامل بقي صامتًا.

في آخر الليل، حين يغفو كامل، كان يرى حلمًا غريبًا: أبوه يمسك بيده ويأخذه إلى مكانٍ واسع، فيه صفرةٌ مشوبةٌ بالغبار أو الضّباب. يركض كامل نحو أبيه، لكنّه لا يصل إليه. وحين يتلفّت لا يجده، فيصحو وهو يصرخ "أبي!"

تكرّر ذلك الحلمُ، فلم يعد كامل ينام. كان قد عوّد ذاكرتَه على النّسيان. لذلك فقد أشعره طغيانُ الذّكريات، مع زيارات الأقارب، بالضّياع. ثمّ صار، هو نفسُه، يستعيد تفاصيلَ ظنّ أنّها ماتت منذ زمن.

تذكّر يومَ سفره. كان قد أخبر والدَه أنّ طيّارتَه بعد ساعتين. لم يلتفتْ إلى الوراء. حين وصل إلى مطار روما، أعطى الرّجلَ الذي ساعده في العثور على فندق رخيص ذلك المرطبانَ المحشوَّ بالقاورما، الذي كانت أمُّه قد ركضتْ به خلفه وأصرّت على أن يأخذَه معه. ظلّ شهرًا لا يفعل شيئًا سوى المشي ليلَ نهارَ في شوارع روما. كان يبيتُ في الشارع أحيانًا. وحين صادف روبيرتو في تلك الحانة، لم يتردّدْ لحظةً في العودة معه إلى بيته. قال له ليلتَها معتذرًا عن عدم امتلاكه أيَّ نقود: "لقد تأخّرتْ حوالتي المصرفيّة. أنت تعرف الأوضاعَ في لبنان. إنّها الحرب!" وكان روبيرتو يصحو على صراخه كلَّ ليلة، يمسح عرقَه عن صدره وجبينِه، يطوِّقُه بذراعيْه، يسأله: "الحلم ذاته؟" يومئ كامل برأسه إيجابًا. يرشف من كأس الماء التي على المنضدة بجانب السّرير، ثمّ يدسّ رأسَه في صدر روبيرتو.

بعد أسبوع، طلب منه روبيرتو أن يغادرَ البيت. لم يُبدِ كامل أيَّ رفض. لم يرجُه أنْ يستبقيَه في منزله، ولم يندمْ لاحقًا على تلك العلاقة. ولأوّل مرّة منذ سنتيْن هاتف والدَه: "أبي أحتاج مبلغًا. اعتبرْه ديْنًا، سأردُّه قريبًا. تأخّر معاشي هذا الشّهر لظروفٍ تمرّ بها المصارف، وأنت تعلم أنّ صاحبَ البيت لا يصبر على الأجرة." كان أبو كامل يسمعه وهو يعلم أنّ كلّ كلمةٍ يقولها كذب. قال بهدوء: "آخرَ الأسبوع تصلك. أجريْنا لأمّكَ عمليّةَ قلبٍ مفتوح منذ شهرين. هل تودّ أن تسلّم عليها؟" ادّعى كامل أنّ تشويشًا يمنعه من سماع بقيّة المحادثة، فقال وهو يمثّل الصّراخَ: "حسنًا أبي، إنْ كنتَ تسمعني فإنّي سأردّ إليك المالَ قريبًا. هل تسمع؟"

هام خمسةَ أيّام في الشّارع، لكنّه لم يفكّر في الرّجوع إلى لبنان؛ فما تركه هناك كان موتًا ساخرًا يلعب دورَ الحياة. وجد سقيفةً احتمى تحتها، لكنّها لم تكن كافيةً لردّ تلك المسامير التي تقذفُها السّماء. لم يعد يملك من المال الذي جاد به المارّةُ إلّا ما اشترى به مرطبانًا من المربّى وبعضَ التّوست. في الأيّام التي تلت، اكتفى بالمرور إلى جانب المطاعم، يستمع إلى قرقعة الملاعق، ويكتفي بالتلمّظ. كان قد مرّ أسبوعٌ على مكالمته أباه، فعرف أنّ تلك الحوالةَ لن تصل مطلقًا، وكان عليه أن لا يموتَ من الجوع.

لم يكن السّجنُ يزعجه؛ على العكس تمامًا، فقد أمّن له مأوًى من ضجيج العالم، وسببًا للصّمت. غير أنّ السّجنَ لم يدم، فكان عليه أن يغادر، وأن يعودَ لتدبُّر أمره. أعطاه مسؤولُ السِّجن الذي كان يعطف عليه عنوانًا وقال له: "هناك ستجد مَن يعلّمُكَ شيئًا تعيش منه." أخذ كامل الورقةَ منه، وقصد العنوان، فوجده محطّةً للوقود، صاحبُها لبنانيّ يقيم في إيطاليا منذ عقود. اتّفق مع مدير المحطّة على أن يباشر العملَ فورًا، وصار يبيت فيها.

أتاح عملُ المحطّة لكامل أن يتعرّف إلى كثيرين، رجالًا ونساءً. بعضُهم تجمعه بهم، بعد العمل، سهراتٌ مسلّية، يشربون فيها ويرقصون. وبعضُهم كان يأتيه بالمخدِّرات. وأثناء ذلك، تعرّف إلى بنيلوبي، وهي ممثلّةُ أفلامٍ إباحيّة قالت له: "أنت جميل جدًّا، ولديك جسدٌ مثير جدًّا. لِمَ لا تعمل في السّينما؟" ثمّ عرّفتْه إلى مُخْرج أفلامها. كان كامل يحبّ الخمرَ، ويقول لمن حوله وهو يرفع كأسَه بنشوة: "الجنّة الآن وهنا..." ثمّ يكرعهُا دفعةً واحدة، ويروح يحكي بصوتٍ عالٍ، وبسرعةٍ جنونيّة، كلامًا بالعربيّة، لم يكن أحدٌ يفهمه.

***

في رحلة عملٍ، لتصوير أحد الأفلام خارج إيطاليا، التقاه في أحد المقاهي. سلّم الرّجلُ بهدوء. ردّ كامل التحيّةَ ببرودٍ أيضًا، وعاد يدخّن سيجارَه. لاحظ كامل أنّ الرّجلَ الأسمر، ذا اللحية، ينظر إليه باستمرار. تبرّم وظنّ أنّه أحدُ سجّانيه؛ فهو لم يعد يحتفظ بصورٍ واضحةٍ عمّن حوله. لاحقّا لم ينسَ كامل، لسنوات، الشّيخ سالم.

خلال علاقتهما، اشترى الشّيخ سالم له قصرًا، في روبليوفكا، بضواحي موسكو، بمئة مليون دولار، كان فيه حمّامٌ من الذّهب الخالص. سافرا باليخوت والطّائرات الخاصّة. قابل كامل رؤساءَ العالم. عرف معنى أن تكون ملكًا من دون الحاجة إلى لقب. كان الشّيخ سالم مولعًا باقتناء اللوحات الفنّيّة، يختار تلك التي فيها وجوه، الكثيرُ من الوجوه. وفي ليلهما الأحمر، أكانا معًا أمْ ضمن مجموعة، كان سالم يقلّد تلك الوجوهَ، ثمّ يضحك عاليًا، وبعدها يبكي بحرقة، وينادي أمَّه منتحبًا، طالبًا منها العفوَ عنه، وعدمَ إدخاله "غرفةَ الفئران." ثمّ يأمر كامل أن يفعلَ مثله.

***

راقبتُه حين زار بيروت. كان يجلس ساهمًا ضجرًا في أحد مقاهي الرّوْشة. لم ينتبهْ إلى وجودي. لعلّه نسيني. وجهٌ مريبٌ، حائرٌ، عينان غائرتان في سوادٍ حولهما، لحيةٌ بيضاء غير مرتّبة، سيجار مطفأ في زاوية فمه، قلمٌ وورقة. لاحظتُ أنّه يترك الورقةَ على الطّاولة كلّ يوم. طلبتُ من النّادل أن يعطيني تلك الأوراقَ، فوافق بعد أن دفعتُ له مبلغًا مغريًا.

في اليوم الأوّل لم أجد شيئًا على الورقة. خطٌّ أفقيّ وبقعةٌ سوداءُ فقط. في اليوم التالي رشف كامل آخرَ رشفةٍ من فنجان قهوته، ثمّ رحل. جاءني النّادلُ بالورقة، فلاحظتُ أنّه فعل الشيءَ نفسَه، إلّا أنّه ألحق الخطَّ الأفقيَّ بخطٍّ عموديّ، وبدت النقطةُ السّوداء أقربَ إليه. توالت الأيّامُ وأنا أمرّ بالمقهى قبل أنْ أقصدَ عيادتي، فأتفحّص الورق. كان الخطُّ العموديّ يكبر، والنّقطةُ السوداءُ تزداد اقترابًا منه.

قلتُ للضّابط بصوت واضح ونبرة واثقة: "أنا معالجة نفسيّة لا أكثر. طلبتُ تلك الأوراق فضولًا لا أكثر. قلتُ لك للمرّة الألف إنّني أتلفتُها جميعًا. لم يكتب سوى كلمةٍ واحدةٍ بجانب العمود. ولا أعلم شيئًا عن أسباب انتحاره."

- ألم يقصد المدعوّ كامل عيد عيادتَكِ؟

- أبدًا. التقيتُه مرّةً أو مرّتين في المقهى، وقد بدا هادئًا جدًّا.

- وبمَ تفسّرين انتحارَه بتلك الطريقة؟

- ينتحر النّاسُ لأسباب كثيرة. قد يوصل الاكتئابُ الشديد إلى الانتحار.

- وكيف عرفتِ أنّه عانى اكتئابًا شديدًا؟

- لم أعرف. أحاولُ فقط أن أوضح أحدَ أسباب الانتحار. هل يمكنني أن أعود إلى عملي؟

- تفضّلي، آنسة رزق. لكنّنا قد نحتاجُ إليك. لذا، لا يمكنك السّفر في هذه الفترة.

لم أقل للمحقِّق كلَّ شيء. هناك أمور يجب أنْ يقتلَها الكتمان. ولكنْ كان عليّ أن أستعيد لقاءنا كي أرتّب كلّ شيء.

عرفتُ كامل في مطار باريس منذ عامٍ تقريبًا. كنتُ عائدةً إلى بيروت ليلًا لقضاء عطلة الميلاد ورأس السّنة. رأيتُه يجلس وحيدًا. ثيابُه السّوداء أكسبتْه غموضًا شهيًّا. ثمّ وجدتُني أجلس إلى جواره في الطّائرة. تحادثنا. بدا مثقّفًا محبًّا للفنّ، لكنّه كتومٌ ولا يبادر إلى الحديث. شرب كثيرًا. قال شيئًا عن مذكّراتٍ يريد كتابتَها. كنتُ تعبة، فنمتُ ساعةً كاملةً ورأسي محنيّ فوق كتفه. صحوتُ على يدٍ تلمسني وتضغط على أعلى فخذي. الظّلامُ يسود المكان. الرُّكّاب يغطّون في نومهم. كانت تلك هي المرّةَ الأولى التي أقيم فيها علاقةً سريعة. لم أنسَ لذّةَ ذلك.

"لابيلّا سينيورا،" ناداني كامل وهو يرفع قبّعتَه مودِّعًا بعد أن حطّت الطّائرةُ في بيروت. وصلتُ بيتي في الرّملة البيضاء صباحًا. نمتُ حتّى أوّل الليل. حين أفرغتُ حقيبةَ حاسوبي المحمول من محتوياتها، عثرتُ في جيبها الدّاخليّ على كرّاسة جلديّة سوداء صغيرة:

"ها أنا معلّقٌ على خشبة. مشيتُ دربَ آلامي وحيدًا. كلُّ مَن مرّوا بي رموا الشّوكَ في طريقي. انتهت تلك الحربُ منذ أعوام، وبقيَتْ نارُها هائجةً في ذاكرتي. ها أنا أركضُ منها نحو الظَّلام. لا أجد طريقًا ولا أصل. أمّي تصرخ وتلملمنا تحت إبطيْها. المقاتل يقترب. يتناول عوْني من رقبته. أبي في الخارج. كان مع بعض الجيران في الملجأ. شعر أنّنا تأخّرنا في جلب الحاجيّات التي قصدْنا البيتَ لجلبها، فلحق بنا. أبي يطلب من المقاتل أنْ يتركَنا ويأخذَه هو. المقاتل يأمره أنْ يقف ووجهُه إلى الحائط. أبي يمدّ يدَه عاليًا. صوتٌ مكتوم. عينُ المقاتل تضحك. يدُ أبي تنزلق ببطء عن الحائط. بقعة حمراء راحت تكبر وتكبر حتّى غطّت وجهي..."

 

صيدا

وداد طه

روائيّة فلسطينيّة. تعمل في حقل التعليم. تحضّر أطروحةَ دكتوراه في الأدب العربيّ. لها ثلاثُ روايات منشورة: ليمونةان، أخون نفسي، حرير مريم. ولها عدّة مقالات ومراجعات نقديّة في الرواية، بالإضافة إلى عدد من القصص القصيرة المنشورة في صحف ومجلات عربيّة.