جدل التنظيم والجماهير في الانتفاضة الفلسطينيّة الأولى
26-12-2018

 

الجزء الأوّل: تنظيم الانتفاضة

أ ـــ الانتفاضة المستمرّة. الانتفاضة المستمرّة استراتيجيّةٌ تصوّرتْها الجبهةُ الشعبيّةُ لتحرير فلسطين. فالانتفاضة ليست برنامجًا من الفعّاليّات أو العمليّات الكفاحيّة، بل شكلُ حياةِ الفلسطينيين اليوميّة. ومن ثمّ، ليس للقمع الهمجيّ الصهيونيّ أن يفتَّ من عضُد الانتفاضة واستمرارها، لأنّ القضاء على الانتفاضة يعني القضاءَ على حياة الفلسطينيين.

تعود ديمومةُ الدعم الشعبيّ للانتفاضة الأولى إلى قدرة قيادتها الموحَّدة على تطوير البرامج النضاليّة بالتزامن مع حفظ قدرة الناس على الصمود، واستمرارِهم (النسبيّ) في حياتهم اليوميّة وتأمينِ مصادر رزقهم. وتعود، كذلك، إلى قدرة القيادة على إدراك مستوى الجاهزيّة الشعبيّة، وإلى عدم طرح برامج نضاليّة تَفُوق الاستعدادَ الشعبيّ، بما يَخْلق نفورًا وعزوفًا وخوفًا عند الجماهير. وهو ما يذكّرنا بقول ماوتسي تونغ: "إذا عزمنا على شنّ هجوم قبل أن تعي الجماهيرُ ضرورتَه، فسيكون ذلك مغامرة. وإذا جررْنا الجماهيرَ عُنوةً إلى أمرٍ يخالف رغبتَها، فسنفشل حتمًا. وإذا أرادت الجماهيرُ التقدّم، وامتنعنا نحن، فسيكون ذلك انتهازيّةً يمينيّة ."

ب ـــ تجذير الانتفاضة شرطُ استمرارها . "تجذير الانتفاضة هو الإبقاءُ على حجر الانتفاضة القادر على إشعال لهيبها مجدّدًا، بعد كلّ مرّة يستطيع فيها العدوانُ أن يحاصر هذه الشعلةَ المتقدّة، بإنشاء البنية التنظيميّة ــــ الاقتصاديّة ــــ الاجتماعيّة للانتفاضة." (جورج حبش)

لم يراهن "الحكيم" جورج حبش أبدًا على الإرادة والشجاعة المحض، بل على البناء الهادئ للتنظيم، القادرِ على إحداث التحوّلِ الجذريّ المنشود. حدّد الحكيم هنا محوريْن أساسيْن لضمان استمراريّة الانتفاضة عبر تجذيرها: تعزيز هيكليّتها التنظيميّة، وتعزيز قاعدتها الاقتصاديّة ــــ الاجتماعيّة.

ج ـــ عن تعزيز الهيكليّة التنظيميّة للانتفاضة

ـــ منظّمة التحرير الفلسطينيّة. هي أداةُ الثورة والتحرير، التي تنصهر وتتعزّز فيها طاقاتُ الشعب الفلسطينيّ كافّةً. وفي سبيل تحقيق أهداف الانتفاضة، فإنّه لا بدّ من ثورةٍ في الثورة، للارتقاء بمنظّمة التحرير إلى مستوى المجد والبطولة الشعبيّة.

ـــ القيادة الوطنيّة الموحّدة (ق.و.م). هي ائتلافٌ عريض، يمثّل مصالحَ الطبقات والفئات والشرائح الفلسطينيّة كافّةً. وهي تنبثق عن منظّمة التحرير، وتلعب دورَ القيادة المركزيّة للانتفاضة  داخل الأراضي المحتلّة عام 67. تتمتع ق.و.م باستقلال نسبيّ في قيادتها وتوجّهاتها، ولا تخرج عن الخط العامّ لمنظّمة التحرير.

ـــ الفصائل الفلسطينيّة. تمارس الفصائل نضالاتِها وتُحْيي فعّاليّاتِها الخاصّة، لكنّها تلتزم بتوجيهات ق.و.م وقراراتها في كلِّ ما هو عامّ.

ـــ اللجان الشعبيّة. هي فروع  ق.و.م، وقاعدتُها الشعبيّةُ الواسعة، وتنشط في كلّ حيّ وشارع ومخيّم ومدينة وقرية. تتمتّع اللجانُ هذه باستقلال نسبيّ في تنفيذ فعاليّاتٍ نضاليّة خاصّة بموقعها، شرطَ الاتزام بالخطّ العامّ لـ ق.و.م.

ـــ اللجان الضاربة. هي أذرع ق.و.م. الضاربة، وقوّتها الصداميّة، ضدّ العدوّ وعملائه. تعود مرجعيّتُها إلى اللجان الشعبيّة في كلّ موقع، وإلى ق.و.م على الصعيد الوطنيّ العامّ.

ـــ خلايا التخريب الشعبيّ. تقود هذه الخلايا لجانُ المقاومة الشعبيّة، وتنبثق عنها. وهي تنشط في تخريب ملْكيّات المستوطنين، الخاصّةِ والعامّة، كما الملْكيّات العسكريّة للجيش الصهيونيّ. ويختلف نوعُ التخريب وشكلُه باختلاف الموقع.

ـــ لجان العمل الشعبيّ التطوعيّ. تغطّي هذه اللجانُ كافّة مجالات الحياة الرئيسة: الصحّة والتعليم والخدمات الاجتماعيّة. كما تشكّل بديلًا وطنيًّا لإدارة الاحتلال للأراضي الفلسطينيّة.

ـــ مختلف الأطر المهنيّة والقطاعيّة والاتحادات الشعبيّة. وهذه ينبغي أن تشكّل المحيطَ الشعبيّ الواسع لـ ق.و.م، ولجانِها، وأذرعِها.

ـــ الجماهير. تعمل ق.و.م ولجانُها المختلفة على تنظيم الجماهير، وتعزيزِ انخراطها في برامج النضال الوطنيّ. وذلك لا يعني أنّ الجماهير لن تجترح وتبدع نضالاتِها ومعاركَها أحيانًا بمعزلٍ عن ق.و.م.

عبر هذه الاستراتيجيّة الشاملة يتحقّق تجذيرُ الانتفاضة. فالتنظيم الشامل للانتفاضة جعل من رؤية الانتفاضة شكلًا لحياة الفلسطينيين اليوميّة حقيقةً واقعةً.

 

مروان نصّار، "صياغة سياسية"، أكريليك على قماش، 2018.

 

د ـــ عن تعزيز القاعدة الاقتصاديّة الاجتماعيّة. لضمان استمراريّة الانتفاضة، كان لا بدّ من ضمان استمرار قدرة الفلسطينيين على الانتفاض، وذلك بتطوير بنية الصمود التحتيّة الشعبيّة. ومن هنا تُعزِّز ق.و.م الاهتمامَ بالزراعة، والعودةَ إلى الأرض، وتعميمَ تجربة "حدائق النصر."[1] كما تشجّع الصناعاتِ المحلّيّة، وتطويرَ الاقتصاد المنزليّ، ونبذَ أنماطِ السلوك الاستهلاكيّة، وانتهاجَ سياسة التقشّف والاكتفاءِ بالضروريّات، والعملَ الحثيثَ على فكّ عرى التبعيّة بالاقتصاد الصهيونيّ، وملاحقةَ مستوردي البضائع الصهيونيّة.

هـ ـــ تصعيد الانتفاضة. شرطُ تصعيد الانتفاضة بناءُ هياكلها التنظيميّة والاقتصاديّة ــــ الاجتماعيّة. لا يُسمح للعدوّ بالتكيّف مع منسوب معيّن من الانتفاضة أو الإزعاج. فالعصيان الجزئيّ الموقّت، ومعه التخريبُ الشعبيُّ الواسع، وفعّاليّةُ اللجان الضاربة، كفيلٌ بإعداد الطاقات الشعبيّة وتدريبِها للوصول إلى هدف الانتفاضة العامّ: العصيان المدنيّ الشامل.

و ـــ توسيع نطاق عمل الانتفاضة.

ـــ نجح المشروعُ الصهيونيّ في خلق تمايزٍ موضوعيٍّ بين واقع مناطق 67، الذي يواجه خطرَ الإجلاء والاستيطان والقبضة الحديديّة والإبعاد والاعتقالات الجماعيّة؛ وبين واقع فلسطين المحتلّة عام 48، الذي يواجه خطرَ "المواطنة من الدرجة الثانية." هذا الفارق الموضوعيّ، مع الفارق الذاتيّ في حجم نفوذ القوى الثورية الفلسطينيّة بين المنطقتين، ساهما في تحديد سقف تحرّكات الفلسطينيين في أراضي العام 48 في نطاق المُسانَدة، لا المشاركة الكاملة. إلّا أنّه يجب عدمُ الاستكانة إلى هذا الواقع، بل العملُ على رفع مستوى التحرّكات في مناطق الـ48 إلى مستوى المشاركة الكاملة.

ـــ يَفرض وجودُ نصف الشعب الفلسطينيّ خارج وطنه مسؤوليّةً خاصّةً في تنظيم دوْر فلسطينيي الشتات في المعركة. وهذه، في الدرجة الأولى، مسؤوليّةُ منظّمة التحرير، التي يتوجّب عليها الزجُّ بكافّة الطاقات الشعبيّة الثوريّة في معمعان الانتفاضة. فانتقالُ ثقل العمل الوطنيّ، مع الانتفاضة الأولى، من الخارج إلى داخل الأراضي المحتلّة، لا يقلِّل أبدًا من شأن ركيزة الثورة في الخارج. وعلى كاهل جماهير الشتات تقع المهامُّ الآتية: حملاتُ التبرّع والجباية، والإعلامُ السياسيّ المُلتفّ حول منظّمة التحرير، والكفاحُ المسلّح عبر الحدود العربيّة مع فلسطين المحتلّة.

ـــ المشروع الصهيونيّ عدوٌّ للعرب جميعًا، والفلسطينيون جزءٌ من الأمّة العربيّة. لذا ينبغي الأخذُ في الاعتبار واقعَ الأنظمة والمجتمعات العربيّة في التحليل النظريّ، ووضعُ استراتيجيّة ثوريّة كفيلة بتثوير القوى الشعبيّة العربيّة، التي تعاني النهبَ والتهديدَ العسكريّ الإمبرياليّ الصهيونيّ ومؤامراتِ التقسيم المستمرّة على أسسٍ طائفيّةٍ وإثنيّة؛ كما تقبع تحت نير أنظمة كمبرادوريّة متخلّفة ومرتبطة بالاستعمار.

***

 

معتز نعيم،  "المقاوِم"،  أكريليك على قماش،  2016.

 

الجزء الثاني: مَقاتلُ الانتفاضة

أ ـ التنظيم المستحيل وسط النار. امتازت بداياتُ الانتفاضة الأولى بالقدرة التنظيميّة العالية. فقد استطاعت ق.و.م ولجانُها توحيدَ العمل النضاليّ الشعبيّ، وتصعيدَ الانتفاضة، والحفاظَ على استمرارها، والزجَّ بالأغلبيّة الساحقة من الفلسطينيين في معمعانها.

لكنْ، بعد السنين الثلاث الأولى من الانتفاضة الأولى، بدأتْ تظهر أعراضُ التآكل والرخاوة والوهن التنظيميّ. ويُعزى ذلك إلى الآتي:

ـــ انخفاض مستوى الاستعداد النظريّ والميدانيّ لدى الكادر التنظيميّ.

ـــ الاعتقالات الواسعة في صفوف هذا الكادر، ما أدّى إلى ظهور قياداتٍ جديدةٍ غير مُعَدّة تمامًا.

ـــ سرّيّة الكوادر التنظيميّة وتخفّيها فتحا المجالَ لبروز قياداتٍ ميدانيّةٍ جديدة، غير مُؤطّرة، تعمل في العلن، وتهوى جلبَ اهتمام الجماهير بجرأتها الجَهريّة.

ـــ التنافس بين الفصائل والتنظيمات أخذ طابعًا إيجابيًّا في البداية، إلّا أنّه عزّز التركيزَ على الكمّ (عدد الأعضاء والموالين) على حساب النوع (استعدادهم النظريّ والعمليّ). وهو ما انعكس في ضعف البنى التنظيميّة.

ـــ الشعور بخطورة ظاهرة القيادات الميدانيّة الشابّة غير المؤطّرة، وبتهديدِها لوحدة برامج الانتفاضة وقيادتها، دفع الفصائلَ إلى محاولة احتواء القيادات الجديدة التي تفتقر إلى التدريب والإعداد في أطرها التنظيميّة.

ـــ في البداية، ساهم اعتقالُ العناصر الجديدة غير المؤطّرة في تدريبها وإعدادها، لكون السجون الإسرائيليّة مدارسَ الثورة والتنظيم. إلّا أنّ معدّل دخول الدماء الجديدة ميدانَ الانتفاضة كان أعلى من قدرة التنظيمات على إعدادها وتدريبها، خارج السجون وداخلها.

وهذا يَطرح سؤالًا في النظريّة التنظيميّة: كيف يستطيع الفصيلُ الثوريّ، في خضمّ الانتفاضة والغليان، أن يوازنَ بين المستوى النوعيّ للكادر التنظيميّ والاندفاع الجماهيريّ العفويّ؟

ب ـ جرثومة أوسلو. الخطر الحقيقيّ على الانتفاضة كان داخليًّا. فجرثومة الاستثمار المتسرّع، وتقديم التنازلات المجانيّة، والمتاجرة السياسيّة بحجّة كاذبة هي "أنّ الجماهير منهكة وغير قادرة على الاستمرار،" كانت تترعرع في رحم الانتفاضة، وتعتاش على دمها من الداخل.
كانت هناك عدّةُ عوامل موضوعيّة وعالميّة دفعت القيادةَ الرسميّةَ اليمينيّة الفلسطينيّة إلى التسوية. إلّا أنّ هناك عواملَ ذاتيّةً أخرى، مثلَ الخوف من أن تقوم القياداتُ الجديدة التي خلقتها الانتفاضةُ بسحب بساط الزعامة المتفرّدة من تحتها. والحقّ أنّ نموّ العدوّ الطبقيّ والسمسار المحلّيّ، المتمثّليْن في البيروقراطيّة المتنفذّة في منظّمة التحرير المتحالفة مع البرجوازيّة والكمبرادور الفلسطينيّ، كان شرطًا أساسًا، ما كان لحجر الانتفاضة أن يستكينَ من دونه.

هكذا نمت جرثومةُ أوسلو وترعرعتْ في جسد الانتفاضة، متستّرةً بوهم "الوحدة الوطنيّة" ــ ــ تلك الوحدة التي أبى جورج حبش إلّا أن يدافعَ عنها في كلّ موضعٍ ومناسبة.

والواقع أنّ هذه الوحدة "اللاوطنيّة" لكافّة الطبقات والشرائح في قيادة الانتفاضة جعلت الانتفاضةَ تسير مقلوبةً، على رأسها الكمبرادوري الخائن، بدلًا من أن تقودَها الطبقاتُ الشعبيّة والمسحوقة، التي تدرك تناقضَها الأساسَ مع الاستعمار والإمبرياليّة، ولا تُغفل الحليفَ المحلّيّ لهما.

***

في الختام، مثّلت الانتفاضة الفلسطينيّة الأولى نموذجًا عربيًّا وعالميًّا من النضال والتكاتف والشجاعة، واستطاعت أن تبدع أشكالًا مختلفةً من الكفاح والتنظيم. إلّا أنّ هذه التجربة المجيدة آلت إلى مآلات محبطة وهزيلة، خصوصًا مع توقيع اتفاق إعلان المبادئ، أوسلو.

حاول هذا المقال الإشارةَ إلى بعض مَقاتل الانتفاضة الفلسطينيّة الأولى. ونرى من الأهميّة بمكان إعادةَ قراءة هذه التجربة العظيمة، بعين النقد المنفتحة والحريصة، لكي لا يأتي يومٌ آخر، تضيع فيه تضحياتٌ وبطولاتٌ جليلة على طبق الخيانة أو التنازل.

قرية عنبتا- قضاء طولكرم

 

(1) تُعتبر تجربة "حدائق النصر" إحدى التجارب التي أبدعتها الانتفاضةُ الأولى من أجل ضمان ديمومتها عبر تعزيز بنية الصمود التحتيّة، من خلال: تشجيع زراعة حدائق المنازل بالموادّ العذائيّة الأساسيّة، كالخضار والدواجن والمواشي، وتطوير نظام توزيع هذه الموارد على الأهالي، لخلق نوع من الاكتفاء الذاتيّ لكلّ حيّ أو حارة أو منطقة.

المراجع:

1) جورج حبش، أربع مقالات عن الانتفاضة (دائرة الإعلام المركزيّ للجبهة الشعبية، كانون الأوّل، 1989).

2) كرّاسات بدون عنوان موجودة في أرشيف الأسرى ومخطوطة بخطّ اليد.

3) مقابلة شخصيّة معمّقة مع أحد القادة التنظيميين للانتفاضة.

 


 

علي عامر

باحث في مركز دراسات التنمية، بيرزيت.