د. جاك قبانجي لـ"الآداب": الحراك اللبناني بين التقصير الأكاديمي والقيم الشبابية الجديدة
15-11-2019

­­

 

(أجرته: عُبادة كسر)

 

أجرت الآداب حوارًا مع الدكتور جاك قبانجي تناول الحَراكَ الشعبيّ اللبنانيّ، توصيفًا وثغراتٍ ومآلاتٍ محتملة. ود. قبانجي هو باحث علميّ - اجتماعيّ (sociologist).

 

* ما نوع الحركات الاحتجاجيّة التي تجري في لبنان، دكتور؟

- ما يجري الآن في لبنان يُشْبه، في عددٍ من فصوله، ما حصل في بعض الدول العربيّة سنة 2011 وما بعدها؛ وأعني بذلك الانتفاضاتِ الجماهيريّةَ، التي يسمّيها البعضُ "ثورةً" ويسمّيها البعضُ الآخر "حَراكًا." ولقد حاولتُ أن أبيّنَ أنّها "انتفاضات،" وذلك في بحثيْن:

- أحدُهما بعنوان "لماذا فاجأتْنا انتفاضتا تونس ومصر؟" (صدر في مجلة إضافات، ومن ثمّ في كتابٍ جماعيّ).

- أما الثاني فبالإنكليزيّة، وقد صدر سنة 2014، وتناول الفهمَ المسبّقَ للحُكم على طبيعة الانتفاضات العربيّة بطابعٍ معياريٍّ كثيف. فهناك باحثون، في ميدان العلوم السياسيّة بالأخصّ، يقولون إنّ الانتفاضات تتوجّه فقط ناحيةَ السلطة السياسيّة، وتساهم في تجديدها، في معزلٍ عن التركيب الاجتماعيّ والإيديولوجيّ المعقّد للانتفاضات ولتوجّهاتها.

في المقاليْن الآنفَي الذكْر، كانت الإشكاليّة التي حاولتُ أن أُبرزَها هي أنْ لا قراءةَ بريئةً للانتفاضات، بل كلُّها قراءاتٌ تُضمر أحيانًا، وتَكشف بصورةٍ صريحةٍ أحيانًا أخرى، منطلقاتٍ منهجيّةً ونظريّةً، تنحو غالبيّتُها إلى "إسقاط" إفكارٍ جاهزة. مثلًا: أغلبُ المقاربات التي تناولتْ مسألةَ السلطة والانتفاضات في العالم العربيّ هي من منطلقٍ فيبريّ (نسبةً إلى Max Weber) مبدئيًّا. لكنّ هذه المقاربات بدت محكومةً بتعريفٍ شكلانيّ وحصريّ تَرَكَّزَ على أولويّة "العقلنة السياسيّة" (عقلنة السلطة والفاعل السياسيّ)، انطلاقًا من نموذجٍ معطًى سلفًا؛ بالإضافة إلى إعلاء شأن البيروقراطيّة و"حصْرِ العنف المنظَّم" بالدولة وحدها.

طبعًا، عندما ننطلق من مفهوم غير دقيق الصلة بماكس فيبر، فإنّنا لن نستطيعَ أن نكشفَ تحليليًّا طبيعةَ السلطة في العالم العربيّ، وإمكانيّةَ تغييرها، وكيفيّةَ ذلك. ولذلك، فإنّ غالبيّة الكتابات "الأكاديميّة" التي تناولت الوضعَ العربيّ وإمكانيّةَ التغيير فيه لم تكن تتوقّع إمكانيّةَ حصول انتفاضة، لأنّ النظر كلّه موجَّهٌ إلى السلطة. إذًا، لم يعد لدى هذا الناظر أيُّ قدرةٍ على أن يرى ما هو خارج السلطة: الشارع، والقوى العميقة في المجتمع، والعلاقات الاجتماعيّة، وتحوّلات البنية الاجتماعيّة والفكريّة.

لذلك فاجأت الانتفاضاتُ العربيّةُ الجميعَ تمامًا، كما فاجأتنا في لبنان وإنْ بصورةٍ أقلّ. ذلك لأنّ التراكمات في لبنان مرئيّةٌ دومًا بمنظارٍ "طوائفيّ" (بمعنى أنّه يُحْكم عليها فورًا بمنطق "هذه الطائفة ضدّ تلك") أو بمنظارٍ "سياسويّ" (محور إقليميّ ضدّ آخر) أو بمنظار البنية الاجتماعيّة (طبيعة القوى وتكوينها وتحوّلاتها في سياق طبقيّ أو من موقع جماعاتيّ أو من موقع يعبِّر عن النخب...).

بالعودة الى سؤالِكِ. في لبنان، الانتفاضة تكاد تشبه عنوانَ رواية غبريال غارسيا ماركيث، وقائعُ موتٍ معلَن. فكلُّ ما قيل وكُتب عشيّةَ الانتفاضة اللبنانيّة الهائلة كان يوحي أنّ شيئًا ما كان يمور في هذا المجتمع، لكنْ لم يكن أحدٌ قادرًا على تقدير الاتّساع والفعّاليّة اللذيْن برزا من خلالها.

 

* إلى أيّ حدٍّ يشير ذلك إلى التصاق الباحث الأكاديميّ بالسلطة؟ كأنّنا بهذا الباحث يرى السلطةَ ولا يرى الناسَ!

- في الثقافة العربيّة السائدة، الكتاباتُ النقديّة محدودةٌ جدًّا. ومنذ انهيار الاتحاد السوفياتيّ، وإعلانِ الانتصار الحاسم للرأسماليّة كنظام اجتماعيّ اقتصاديّ، ومعه انتصار الفكر الليبراليّ، أصبح صعبًا أن تجِدي فكرًا نقديًّا من دون أن يكونَ "مؤسَّسًا" له.

في لبنان، يكفي أن نعودَ إلى تجربة "معهد العلوم الاجتماعيّة" في الجامعة اللبنانيّة. فحتى بداية التسعينيّات، كان الفكرُ النقديّ بمنطلقاته المختلفة (ماركسيّةً وغيرَ ماركسيّة) ذا حضورٍ ملموسٍ، تعليمًا وبحثًا. وكان يعمل على أن لا يقفَ عند حدود القراءة المباشرة لـ"الواقع" (التفكير الوضعيّ)، ولا عند الإسقاطات (التفكير الثقافويّ)، ولا عند استخدام المفاهيم من دون أيّ قدرةٍ على تعريفها نقديًّا أو تحليلها كأدوات (شأن المثال الذي ضربتُه حول الفهم الشائع لماكس فيبر ونتاجِه). إذًا، غيابُ الفكر النقديّ لم يكن مطلقًا، لكنّ غيابَه الكبير بعد تلك المرحلة عن ساحة تشكيل المعرفة الجامعيّة وغير الجامعيّة في لبنان أدّى إلى الاستكانة بشكلٍ واضح.

فمنذ بداية التسعينيّات على الأخصّ، بدا أنّ الأمورَ في لبنان حُسمتْ لصالح تركيب السلطة بحسبِ ما ارتآه النظامُ السوريُّ آنذاك (بغطاءٍ غربيّ - إقليميّ). وبرزتْ نقطةُ التقاءٍ عند القوى التي خرجتْ من الحروب في لبنان بربحٍ صافٍ، تمثّل في إعادة اقتسام المجال العامّ والثروة العامّة. وقد أنتج ذلك هامشًا واسعًا جدًّا من الزبائنيّة؛ فلم تعد هذه محصورةً بفئة، وإنّما أصبحتْ قاعدةً معمَّمة. ومع أنّ الاستفادة منها تفاوتتْ، فقد كان ثمّة قبولٌ شعبيٌّ بهذه الزبائنيّة (أو سياسة إعادة التوزيع القسريّ للمال العامّ)، فنمت بشكلٍ مهول، حتى بدوْنا "محصَّنين" ضدّ أيّ انتفاضةٍ غير متوقّعة!

سنة 2015 نشأ حراكٌ في مواجهة أزمة النفايات. حتى ذلك الحين، كانت الحَراكاتُ السابقة محصورةً بمواضيع محدّدة، كالزواج المدنيّ ومدنيّة الدولة. لكنّ الحَراك آنذاك فتح المشهدَ على مدًى كان مخفيًّا بحكم الواقع، الذي ظهَّرَ بنيةَ المجتمع اللبنانيّ وكأنّها "مجموعةُ طوائف ومذاهب" - - لا بنيةٌ اجتماعيّةٌ تَخدم فيها الطوائفُ الرأسمالَ الريعيَّ والتوزيعيَّ بفضل الهيمنة التي تمارسها، وتصادر التفكيرَ النقديَّ بواسطتها.

 

*هل هناك قضايا أخرى غابت عن النظر؟

- نعم. غابت عن النظر أيضًا التحوّلاتُ الاجتماعيّةُ التي بدأتْ في التسعينيّات. المجتمع غشّاش، إذ تبدو الأمورُ هادئةً على السطح، والقواعدُ محترمةً، والضوابطُ فعّالةً. لكنْ - لأنّ الفكر النقديّ غائبٌ إلى حدٍّ كبير - فإنّه لا يجري الانتباهُ إلى تبلوّر عمليّة بناءٍ من نوعٍ آخر، لم يقصدْها النظامُ، بل هو على العكس أسّس لها من دون أن يدري مردودَها اللاحق.

خذي مثلًا: التعليمَ الجامعيّ الذي أعقب الحروبَ في لبنان في التسعينيّات. عدد كبير من الشابّات والشباب بلغ مرحلةَ التعليم العالي، وبدأ يرتاد الجامعةَ اللبنانيّة باختصاصاتها المختلفة؛ لكنّ قسمًا كبيرًا أيضًا ارتاد الجامعات التي تعتمد البرامجَ والمرجعيّات الثقافيّةَ والعلميّةَ الأميركيّةَ أو الفرنسيّة. إذًا، ثمّة جيل جديد بدأ يتكوّن، ولديه نوعٌ من الانفصام، لأنّ ما يتعلّمُه مختلفٌ عمّا يعيشُه. وهكذا بدأ يتساءل: كيف يمكن أن يُعاشَ شرطُ المواطَنة في الخارج؟ كيف يمكن ألّا ننساقَ وراء فكرةٍ لمجرّدِ أنّنا ورِثْناها؟ وعليه، فقد دخل إلى ثقافة هذا الجيل منطقُ الاختبار والتجريب والنقد.

إذًا، لبنان بين التسعينيّات والألفيّةِ الأولى من القرن الحاليّ صارت لديه، بفعل التكوين الجامعيّ المحلّيّ أو الدوليّ، ثروةٌ بشريّةٌ متركّزةٌ في الاختصاصات العلميّة - التقنيّة، وتحوّلتْ هذه الثروةُ إلى "مادّة ناجزة وجاهزة" للتصدير. وبتعبيرٍ آخر، أصبحتْ هذه الثروةُ البشريّة أبرزَ "سلعة" يصدِّرُها النظامُ الاقتصاديّ اللبناني،ّ المحكومُ برأسمالٍ ريعيّ، تأمينًا لتحويلاتٍ ضروريّةٍ لتشغيل هذ الرأسمال بالأخصّ، ولإنتاج شريحةٍ متوسّطةٍ ذاتِ ملاءةٍ ماليّةٍ ضروريّةٍ للاستهلاك (الترفيّ في قسمٍ مهمّ منه). فانفتحتْ سوقُ الخليج العربيّ أمام قوّة العمل هذه، وكذا السوقُ الدوليّة نسبيًّا، فغدا عالمُ هذه الثروة البشريّة أوسعَ بكثيرٍ من أن يبقى محصورًا في لبنان. وهذا معناه أنّ هذه المجموعات المؤهَّلة والمقتدِرة (بسبب مستويات الأجور المرتفعة التي تحصل عليها) كانت قادرةً على أن تغذّي النظامَ القائم، خصوصًا النظامَ الاقتصاديّ "الريعيّ" في لبنان، بمواردَ مهمّة (التحويلات). وبذلك صارت عنصرًا شبهَ مقرِّرٍ في السوق لأنّها تحرِّك الطلب على الاستهلاك.

لكنّ هذه المجموعات ليست مستهلِكةً فحسب. فبعضُها مهتمّ، خصوصًا، بنشر فكرٍ مدنيّ، مقارنةً بالتفكير النقديّ الذي اكتسبوه بالتعليم والخبرة. صارت لدينا نواةُ جيلٍ جديدٍ من الشرائح الوسطى، قد لا تكون لديه ثقافةٌ نقديّةٌ متماسكةٌ بالكامل، لكنّ لديْه "نُتفًا" محكومةً بتجربةٍ يصعب أن تجد لها وجهةً واضحةً بسبب عوائق الوضع القائم في لبنان، اقتصاديًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا وطائفيًّا. هذه الفئة من الناس تعكس قلقًا، وهي متواصلةٌ مع الفكر النقديّ الجديد، كما يعبِّر عن نفسه راهنًا في الغرب. ولقد أصبح لديها منظورٌ للعالم الصغير، المتمثّلِ في لبنان، ينطوي على الرغبة في التغيير...

 

*اعذرْني على المقاطعة، دكتور. هؤلاء الشباب والشابّات هم نواةُ الحراك الحاليّ؟

- نعم! ولكنْ بأيّ معنًى؟ بمعنى التواصل الكتابيّ أو الشفهيّ، وتقديم نموذج سلوكيّ ملتصق بوسائل التواصل الجديدة، التي تَشاركوها مع أقرانهم في لبنان. فهؤلاء، في تبادلهم وتمازجهم، خلقوا بيئةً فكريّةً جديدة. هكذا بات الحاكمون يواجهون جيلًا جديدًا نما على نظامِ قيمٍ مختلف. هذه الفئة أسميتُها "اللاعبَ الجديد،" وهي مكوّنة من الشرائح الشبابيّة الوسطى. وبالإجمال، فإنّ فعّاليّة هذه الشرائح، سواء الموصولة بالعمل في السوق الخارجيّة أو التي احتلّت داخل الوطن موقعًا مهنيًّا واجتماعيًّا يُكْسبها الاعترافَ المجتمعيَّ بالتميّز، هي الأوضح في انطلاقة الانتفاضة الحاليّة.

هذا وقد شاركتْ في انطلاق الانتفاضة أيضًا فئةُ الأُجَراء، والمعطَّلين عن العمل، وذلك حين اكتشف عشراتُ الآلاف منهم أنْ لا ضمانةَ لديهم للحصول على فرصة عمل؛ ناهيكِ بغياب الضمانات الاجتماعيّة. فتراكمتْ عندهم القضايا والمطالبُ المتّصلة بعالم العمل: كالأجر، والالتزامِ بقانون العمل (استدامة العمل والصرف منه)، وعدمِ التصريح عنهم لمؤسّسة الضمان الاجتماعيّ - ما يُفقدهم إمكانيّةَ الاستفادة من التعويض العائليّ، ومن الضمان الصحّيّ، ومن تعويض نهاية الخدمة، ومن الحقوق التي تنشأ عن العمل (كالإجازة السنويّة والإجازة المَرضيّة).

تركّزت الانتفاضةُ أوّلًا في بيروت، حيث كان جمهورُها من شابّاتٍ وشبّانٍ من مختلف المواقع والمشارب، فنّانين ومثقّفين وموسيقيين ومهنيين، ومن غير العاملين أيضًا. وهذه المجموعات خَلقتْ - بديناميّتها - عالمًا من التفاعل المستمرّ، وخصوصيّةً في المطالب والشعارات وطرائقِ التعبير التي لم تكن متداولةً خارج محيطها المباشر والضيّق. كلُّ ذلك يعكس نظامَ قيمها، الذي يسمح مثلًا باختلاطٍ حرًّ للجنسيْن، لا بل بتقدّم الشابّات على الشباب في المبادرة أحيانًا، وأظهر عبورَ هذه المجموعات للانقسامات العموديّة والأفقيّة إلى حدٍّ ما.

في اليوم الثاني للانتفاضة بدأ التوسّعُ في المناطق. وقد عبّرتْ ديناميّةُ المناطق عن نفسها بشعاراتٍ ومطالبَ لم تكن حاضرةً ضمن مطالب "المركز" (بيروت) وشعاراته. وهذا ما كشفتْه المقابلاتُ التلفزيونيّةُ مع الناس.

لاحظنا في اليوميْن الأوليْن للانتفاضة أنّ المطلبَ العامّ، بين "المركز" بيروت وصولًا إلى مدينة البترون شمالًا، كان سياسيًّا في الغالب، وموجَّهًا إلى الحُكم تحديدًا. لكنْ، مع تمدّد الانتفاضة جنوبًا وبقاعًا وشمالًا، بدأت المطالبُ تعبِّر عن نفسها اجتماعيًّا بشكلٍ متزايد: "نريد ضمانًا، شغلًا، حمايةً اجتماعيّة، استشفاءً..." إذًا، تفجّر الخطابُ الاجتماعيّ في المناطق، مقابل الخطاب السياسيّ الراجح في المركز.

هكذا، حضر السياسيُّ والاجتماعيُّ، على تفاوتٍ في القوّة، بين المركز والمناطق. وكان خطابُ المقاومة، أيضًا، جزءًا من هذا الحضور، على الرغم من اعتراض أحزابٍ معيّنةٍ على الانتفاضة ؛ بل أقدمتْ عناصرُ مواليةٌ لها على حرق الخِيَم في ساحة رياض الصلح في بيروت، والاعتداءِ على المحتجّين. غير أنّ الحادثة لم تتركْ تأثيرًا كابحًا على حركة الناس، وتحديدًا في الجنوب، لا بل بالعكس.

لكنّ اللافتَ كان حضورَ الخطاب الاجتماعيّ النقديّ بعد فترة طويلة من سيطرة النظام السوريّ على الحياة في لبنان، عمل خلالها هذا النظامُ على ضبط حركة الطبقة العاملة بعد النضالات التي حصلتْ بين العاميْن 1992 - 1997، فأحلّ مكانَ قيادة "الاتحاد العماليّ العامّ،" الألصقِ تاريخيًّا بالعمّال والأُجراء، قيادةً تأتمر بأمر القوى الطائفيّة. عندها تعطّل الخطابُ المطلبيّ، وهُمِّشت الطبقةُ العاملة التي تمثّل٦٠٪ من مجموع السكّان.

 

* في المقدِّمة حدّدنا هُويّةَ الحَراك، وسماتِه، والفاعلين. على مستوى الشعارات برزتْ فروقٌ بين الساحات. ففي بيروت مثلًا رُفع شعار "إسقاط النظام الطائفيّ،" بينما في جلّ الديب غلب شعارُ "إسقاط العهد." ما السبب في رأيكم؟

- في بيروت عند بداية الانتفاضة، وَضع الشبّان/الشابّات أنفسَهم خارج المنظومة الطائفيّة. أمّا في الحالة الثانية فغلبتْ فيها فكرةُ أنّ النظام الطائفيّ، في ذاته، ضمانٌ لمن لا يَمْلك أكثريّةً عدديّة؛ ولذلك فإنّ إسقاطَ "العهد" هو ضمنًا إسقاطٌ لمن يُفترض أنّه يتحكّم به من خارج الطائفة التي عليه أن يمثِّل.

 

* ماذا تعني حكومةُ تكنوقراط؟ وهل يمكن أن تقوم بإصلاحاتٍ في لبنان؟

- تعني أن يشارك شخصٌ ذو معرفةٍ وخبرةٍ تقنيّة في الحكومة. لكنّ إدارة الدولة لا تقوم على الخبرة التقنيّة في الأساس. الحكم سياسيّ لأنّه يسوس الناس. ومن ثمّ لا يستطيع حكمٌ تكنوقراطيّ، مثلًا، أن يتّخذَ قراراتٍ سياسيّةً واجتماعيّةً بشأن إحالة ناهبي المال العامّ على المحاكمة، أو تقليص العاملين في القطاعات التي يتضخّم فيها عددُ الموظّفين والمستخدَمين.

ثمّ إنّ الحكمَ التكنوقراطيّ لا يمكن أن يكون ديمقراطيًّا في بلدٍ كلبنان، حيث كلُّ كتلة نيابيّة تتعامل انطلاقًا من مصالح ناخبيها، وارتباطًا بالتوازنات الطائفيّة، وبعدم المسّ بالامتيازات الطبقيّة. ولذلك يسود منطقُ التوزيع - - وهذا وضعٌ لا تستطيع أن تكسرَه حكومةُ تكنوقراط. حكومةٌ كهذه لا يسعُها إلّا أن تطبّقَ برنامجًا محدّدًا سلفًا بحذافيره (اتفاق "سيدر" مثلًا).

 

* ما المقترح لشكل الحكومة، مقارنةً بحاجات المجتمع ومطالبِ الحَراك؟

- لقد أنتج الناسُ شيئًا استثنائيًّا هو البرلمان الشعبيّ، أو المنتدياتُ الشعبيّة التي تؤسِّس لفهمٍ مشتركٍ للقبول بإجراءاتٍ عادلة. ما حصل في مدًى زمنيّ قصير نقل العملَ السياسيَّ من مؤسّسات البرلمان والحكومة والأحزاب الطائفيّة إلى الشارع. هذه الخطوة المذهلة درسٌ في الديمقراطيّة!

 

* نسمع أنّ نصفَ الشارع عبّر عن نفسه، لكنّ النصف الآخر (الموالي للسلطة) لم يعبّرْ عن نفسه بعدُ. أين موضوعُ الديمقراطيّة هنا؟

- تحدّثتُ عن التجربة ككلّ. أنا لا أزيّنُ الأمور هنا. الديمقراطيّة "المباشرة" التي نشهد بعضَ سماتها في الشارع يمكن أن تؤسِّس لشرط المواطَنة.

 

* في رأيك أنّ هذه الحالة ستولِّد حياةً برلمانيّةً جديدة؟

- هذا صعب. إلّا أنّ الأكيد هو أنّ مفعولَها لن ينتهي بسهولة، خصوصًا إذا استطاع هذا الحراكُ أن يتجدّد. لكنْ، حتى تتّضح الصورة، ينبغي أن يمضي وقتٌ كافٍ لتعيدَ الناسُ مراجعةَ ما قامت به، ولكي تفكّرَ بأيّ "عُدّةٍ" جديدةٍ سوف تعود.

 

* البعض يلوم الحراكَ لأنّه لم يفرزْ قياداتٍ حتى اللحظة، ولا مشروعًا وطنيًّا جامعًا. لكنّك تقول إنّ الحراك أسّس لفهمٍ مشترك.

- نعم، أسّس لثقافةٍ مدنيّة! ماذا تعني الثقافة المدنيّة؟ غالبًا ما يجري الخلطُ بينها وبين الثقافة البرجوازيّة باعتبار أنّ مؤسَّسات الدولة الحديثةَ نشأتْ في دولٍ تتحكّم فيها برجوازيّةٌ لا تشبه برجوازيّتَنا. وأنا أرى أنّ الحالة اللبنانية اليوم ستؤدّي في نهاية المطاف إلى تعديلاتٍ مهمّة - - مثلًا على المستوى المدنيّ، كالمساواة المطلقة بين الرجل والمرأة، وخفضِ سنّ الاقتراع إلى 18 سنةً.

 

* إلى أيّ حدّ تتوقّع أن يحدث اصطدامٌ بين المدنيّ والطائفيّ؟

- عندما نسمع شعار "شيعة شيعة شيعة،" أو ردّاتِ فعلٍ عقب استقالة "الرمز السنّيّ" الرئيس سعد الحريري، نشعر بالمطبّات الطائفيّة. لكنْ كلُّ هذه المظاهر ستكون موقّتةً وتخدم وظيفةً معيّنة. أمّا لماذا حصلتْ تلك الشعارات، فلأنّ للنظام القائم أدواتٍ فعّالةً، وقدرةً عاليةً على الضبط المجتمعيّ، يستطيع من خلالها أن يعيدَ إنتاجَ ذاته. وعندما يُضطرّ فريق إلى استخدام شعار طائفيّ للهجوم على "الآخر،" فمعنى ذلك أنه لم يعد يمتلك - لتأكيد رأيه - إلّا الاحتماءَ بآليّة "الحفاظ على الذات الجمعيّة."

 

* هل معاناةُ الجمهور المدنيّ والطائفيّ مشتركة؟

- في لبنان لم يكن المشتركُ جزءًا حاسمًا من الثقافة الشعبيّة السائدة في اللحظات السياسيّة "المصيريّة،" إلى أن حلّت الانتفاضة! قبل ذلك، كان  الشخص، حين يشعر بحاجةٍ ما، يفكّر بالمرجعيّة التي سيلجأ إليها لتؤمِّنَ له شروطَ تلبيتها، وذلك في معزلٍ عن مفهوم "الحقّ" وشرطِ "المواطَنة." هذه المسألة مهمّة جدًّا لأنّها تتّصل بآليّة اعتقال الفكر ومنعِه من التحوّل إلى تفكيرٍ نقديّ، أيْ تتصل بقدرته على كشف الشرط الذي يُعتقَل ضمنه. وهذا الشرط طبقيّ - ثقافيّ، ومؤسَّسيّ، وسياسيّ. وبذلك تظهر كثافةُ الحُجُب التي تغلّف "الوعيَ الشقيَّ" لـ"المواطن/ـة اللبنانيّ/ـة" كما يتمظهر في اللحظة التاريخيّة الراهنة.

 

* دكتور، ما هي في رأيك ثغراتُ الحَراك؟ وما هي مآلاتُه؟

- انطلقنا في البداية ممّا يُسمّى "عفويّة الحَراك." وواقعُ الأمر أنّه ليس عفويًّا بالكامل لأنّ عُدّتَه حاضرة. لكنْ لم يكن ثمة أيُّ حدثٍ رئيسٍ يَجْمع هذه العُدّة ويجعلها تعمل كـ"آلة" تنتج مفاعيلَ ذاتَ تأثير. العفويّة ليست شرطًا سلبيًّا بالضرورة؛ فالثورات التي غيّرت العالمَ في لحظة تاريخيّة معيّنة وظرفٍ محدّد انفجرتْ من دون تخطيط. خذي  الثورةَ الفرنسيّة مثلًا، أو ثورةَ أكتوبر 1917، التي كان العنصرُ العفويُّ مهمًّا جدًّا فيها على الرغم من كلّ التمهيد لها. في حالة لبنان، المختبَر هو المساحاتُ العامّة التي جرى "احتلالُها" (اسمحي لي بهذا التعبير الذي أستخدمُه لقوّته فقط). وهو ما خلق مجالًا تواصليًّا هائلًا: آلافُ البشر تواصلوا بعضُهم مع بعض، فصنعوا جوًّا يستطيعون من خلاله أن يواصلوا حراكَهم إنْ سعوْا إلى تقويم تجربتهم من أجل الوصول إلى قواعدَ للتعامل. وفي ذلك شيءٌ من الابتكار ساهم في تأمين استمراريّة الانتفاضة حتى الآن.

 

* أين لبنان من الانتفاضات العربيّة التي أدّت إلى احترابٍ أهليّ واستحضرت الغربَ؟ وأين نحن من الحروب الأهليّة؟

- أقترح أن يكون السؤال كالآتي: لماذا نجح "الربيعُ العربيّ" في تونس، وفي السودان بعدها بسنوات، ولكنّه تعثّر إلى حدّ الفشل في مصر، وانتهى حربًا أهليّةً في ليبيا، وأهليّةً وإقليميّةً في اليمن، وأمّا في سوريا فهي في حدّ ذاتها مختبرٌ هائلٌ متفجِّر؟

عندما نطرح السؤالَ بهذه الطريقة نعرف أنّه لا يمكن الحصولُ على إجابةٍ واحدة.

أستطيع القول إنّ التاريخ لا يكرِّر نفسَه فقط على شكل مأساة، ولا يعبِّر عن نفسه دائمًا بطريقةٍ مأساويّة في حال التكرار. ويعود ذلك إلى شروطٍ بنيويّة، وإلى وجود محدِّداتٍ تتعلّق بقدرة الناس على صناعة السياق التوليفيّ العامّ.

هذا ما يؤكّده مسارُ الانتفاضة اللبنانيّة التي مرّ على انطلاقها شهرٌ تقريبًا. فهي بدأتْ "عفويّةً" وتركّزتْ في العاصمة وامتدادها الشماليّ أوّلًا، ثم انتشرتْ على امتداد الوطن، كما قلنا. غير أنّ عمليّة التوسّع لم تكن أفقيّةً فقط، بل توسّعتْ رقعةُ المطالب السياسيّة والاقتصاديّة - الماليّة والنسائيّة والمناطقيّة والاجتماعيّة والقانونيّة - القضائيّة والتربويّة. أمّا مطلب "حكومة التكنوقراط"، فعلى الرغم ممّا ينطوي عليه من وهم إمكانيّة فصل "الكفاءة" عن السياسة، أيْ فصل التقنيّ عن الطبقيّ، فإنّه يعبّر - في ذاته - عن نزع الثقة أخلاقيًّا بمن تولّى ممارسةَ السلطة منذ عقود، فأهدر مئاتِ مليارات الدولارات على بناء نظام تحاصصيّ وزبائنيّ قاد إلى انفجار الانتفاضة الحاليّة.

وهكذا تفتح هذه الانتفاضة أفقًا تاريخيًّا استثنائيًّا وغيرَ مسبوق على طريق إعادة تأسيس النظام السياسيّ اللبنانيّ، بحيث يصبح أشملَ تمثيلًا وأدقَّ تعبيرًا عن تطلّعات مكوِّنات الشعب اللبنانيّ. يبقى أنّ كلَّ ذلك مرهون بتوازن القوى الطبقيّة والطائفيّة، كما بحضور النساء ومشاركتهنّ الحثيثة والفاعلة.

وفي مطلق الأحوال، فإنّ الانتفاضة سجّلتْ، حتى الآن، هدفًا غيرَ مسبوق في مرمى النظام السياسيّ - الاقتصاديّ - الطائفيّ. فقد تمكّنتْ من تعرية انتهاكاتِه، التي تجاوزتْ أسوأَ التوقّعات في مجالاتٍ شتّى، أبرزُها: نهبُ المال العامّ، وتخلُّفُ السلطة القضائيّة عن محاسبة الفاسدين من أهل السلطات المتعاقبة، وانصرافُ السلطة التشريعيّة عن مراقبة السلطة التنفيذيّة ومحاسبتها وعن إنجاز التشريعات الرادعة للاستيلاء على المال العامّ من طريق التعاقدات المشبوهة وتواطؤ مراتب السلطة المختلفة. وهكذا، تبدو الانتفاضة انعطافةً (محتملة) في مجال تعزيز الرقابة الشعبيّة على أداء السلطات، منفردةً ومجتمعةً.

بيروت