ذلك الصيف
04-05-2016

 

لماذا أتذكّرها الآن؟ أهو الطّقس؟ أهي درّاجة تلك الفتاة الصّغيرة، تحمل شعرها القصير، ذلك الذي يقتبس مشهدًا لباريس ولرائحة الخبز الفرنسيّ؟

لا أتذكّر متى رأيتُها أوّلَ مرّة. حين انتقلتُ إلى حيّنا كان كلُّ أطفال الحيّ قد انتقلوا قبلي، فهل انتقلتْ بعدنا أمْ قبلنا؟ أتذكّر أنّ فترة تعارفنا كانت قصيرةً جدًّا، كسمكةٍ وقعتْ في الأسر، فلم تكد تبدأ بالتهام الطّعم حتّى وضعها الصيّادُ في علبة الثّلج.

كانت تسمّى تينا، ولكم أن تتخيّلوا وقعَ الاسم على طفلٍ لم يعتدْ طوال حياته القصيرة سوى أسماءٍ غليظةٍ كجذوع الأشجار. تينا! يا له من اسمٍ تقفز الغزلانُ فيه! يا له من اسمٍ يشبه صاحبته!

كانت تربط شعرها الأسود دائمًا، قبل أن تقصّه في أُسبوع الوداع. ولا أذكر أنّي رأيته يومًا مسرّحًا. كثيرًا ما كانت تضع قبّعة رياضيّة على رأسها، وحين يبتعد العصر كانت تعكسها كأنّها تعطي الإذنَ لليل بأن يصبح قبّعة. سروالها القصير يُبرز ساقين تعجّان بجروح الصيف كنهرين من سمكٍ ملوّن. وكانت تخبّئ يديها في جيوبه.

أتذكّر يومَ شاهدتُها أوّل مرّة: كنتُ قد تشاجرت مع أُمّي حول نصف علامةٍ ضاعت مني في امتحانٍ ما كالعادة. وربّما صرختْ أُمّي وقتها:

ــــ خلِّ عمر يسبقك، بيناتكم بس خمسة أعشار، خلّيك تصير الطُّش (الأخير) في الصفّ.
ــــ خلّيه يسبقني مش هامِمني، بس عُمرو ما بسبقني بالبسكليت، أنا أسرع واحد بالصف!
ــــ بسكليت؟  شو بدّك تصير لمّا تكبر يا حمار؟ سواق بسكليتات؟!

ــــ آه، أحلى إشي، وانتِ لحالك حمارة.

لا شكّ في أنّ الصفعة كانت قويًةً، فطيّرتني ألمًا إلى السّاحة. جاءت تينا. مدّت يدها إليّ بتفّاحة، واليد الأُخرى بالملح، وقالت:

ــــ زاكيِة مع الملح كتير. إنتَ زَلَمة، والزلام ما بُبكو.

ــــ أنا صالح مش زلمة، شو إسمك إنتِ؟

ــــ أنا تينا.

ــــ جَد؟ أوّل مرّة بسمع بهيك اسم.

ــــ هادا لأنّك أهبل. حلوة بسكليتك. تسابقني؟

هل كانت سريعةً حقًّا وقتها؟ أم أنّني تعمّدتُ البقاءَ خلفها كي أرى ذيلَ شعرها إذ يضرب الهواءُ رقبتها؟

اشترينا بوظة وضحكنا على العشب. أخبرتني بأنّي أبطأ ولد شاهدته في حياتها، فتعلّلتُ بأنّها بنتٌ وبأنّي أخاف أن تبكي إذا خسرتْ، فضحكتْ.

كانت لها أُختٌ تكبرها بأعوام كثيرة . كانتا دائمتي التشاجر، أسمع أصواتَهما حين أمرّ بالقرب من باب منزلهما. كانت أُمّها بيضاء الشعر، وكانت تينا تقول لي إنّ أُمّها تكرهها وتقف دائمًا في صفّ أختها، ثمّ تجهش: "بس لو كان هون!" لم أرَ والدها أبدًا، ولم أجرؤ على سؤالها.

ــــ مين هادا إلّي حاطتّيه بسنسالك؟

ــــ ما بتعرف حنظلة يا حمار؟

ــــ ...

ــــ هادا الولد رسمو ناجي العلي. ولد صغير كتير، هادا زيّي. الكل داير ضهرو إلو. بتعرف إنّهم قتلوه؟

ــــ ليش قتلوه؟

ــــ واحد طخّو بفرد لأنّو ما عمل غير إلّي براسو. وأنا زيّو ما رح أردّ عحدا حتّى لو طخّوني.

ــــ وانتي كيف بتعرفي كل هادا؟

ــــ ناجي قلّي قبل ما يروح!

لم أكن وقتها أعرف أنّ ناجي هو اسمُ والدها، ولا أدري إنْ كانت سلسلتُها ذكرى منه أمْ لا. رغبتُ في سلسلة مثلها. أُمّي قالت إنّ السلاسل للبنات فقط: "إنتَ بنت؟"

ــــ في عصفور بشعرك!

ــــ خلّيه، شعري كنبايتو لمّا يتعب من السما بقعد عليه.

ــــ تبيعي حنظلة؟

ــــ مستحيل! هادا أغلى إشي عَقلبي. تلعب الزّقطة؟

في تلك الفترة، حين بدأتْ علاقتنا تتوطّد، ظهر ابنُ الجيران عبد الله. لم أكن قد لاحظتُه إلّا حين بدأ يُكثر اللعبَ والكلام مع تينا. كانت تينا تكبرني بعامين، وكان هو يكبر تينا. كان يسكن في العمارة المجاورة، ولا شكّ في أنّ دراجته الحمراء الحديثة، بغِياراتها العديدة، تجعل من دراجتي الزرقاء "الأُوتوماتيك" ـــــــ كما كنت أواسي نفسي ــــــــ دميةَ أطفالٍ أمام شاحنةٍ تسحقها بلمسةٍ واحدة. وحين تسابقنا، كانت تينا هي الجائزة. وأقسم أنّ كلمة "تلات" لم تكد تنتهي حتّى وصل نهاية الطريق. كانت دراجته مزيّنةً بجرسٍ يُصدر العديدَ من الأصوات، وكان قلبي يهتزّ كقدّاس الكنيسة حين أرى تينا تركب خلفه.

تشاجرا مرةً في ليلةٍ كان أطفالُ الحيّ الأكبر سنًّا يشوون فيها البطاطا. كانت البطاطا محروقةً. تجمّعنا حول نارٍ. أخذنا نغنّي حينًا، ونلقي القصص أو النّكات أحيانًا أُخرى. كانت تينا تجلس قربي، وعبد الله في الجهة المقابلة. وضعتْ تينا رأسها على كتفي، ثمّ تكلّمتْ بعينين تشتعلان حزنًا يلمع:

ــــ إنت أخي، أنا ما عندي إخوة غيرك.

أتذكّر فرحي وقتها. شعرتُ أنّ دراجتي فجأةً أصبحت بمحرّك سيّارةِ سباق، وبأنّي سبقت عبد الله.

في ذلك الصّيف أمطرت. كان جبلنا غبارًا منفوشًا يلمع تحت الشمس، إذ حفرته الجرّافاتُ كي يُقام بعد ذلك بسنةٍ مبنًى قبيحٌ يحجب الشمسَ عنّا. ولأنّها أمطرتْ بغزارةٍ ، فقد صار الجبلُ بحرًا. وقفنا على أحجاره. اصطادت تينا سمكةً، وحين حاولتِ اصطيادَ واحدةٍ أكبر زلقتْ قدمهُا على الصخرة الرطبة، فاصطادتها موجةٌ عالية. ولا أدري كيف قذفتُ جسدي خلفها.

لم أتعلم من أوّل غرق لي: كنّا في البحر الميّت، وكان أبي قد اشترى قاربًا يُنفخ. ركبه أولادُ خالتي وأبي، وتركوني في أوّل الماء. طاردتهم من دون انتباه، حتّى انتبهتُ أنّ الرمل استُبدل تحت قدميّ بالهواء. عندها انتبهتُ أنّي أغرق. بلعتُ كثيرًا من الماء، وضحك الكثيرون مني، وقالوا: "هذا أوّل غريقٍ في البحر الميت!"

غرقتُ مرّتين إذًا: مرّةً حيث لا يغرق حجر، ومرةً في حفرةٍ قرب البيت. لكنّي أقسم أنّي لم أكن خائفَا على نفسي أبدًا في المرّة الثانية. شاهدَنا جارنا أبو محمد فانتشلنا. صفعني أبي أوّل مرّةٍ في حياته. بلعتُ دموعي كأنّني أغرق مجدّدًا في البحر لأنّي تذكّرت أنّني "زلمة." مُنِعتُ من اجتياز بوّابة الساحة السوداء، وبالتالي كان على تينا أن تأتي إلى ساحتنا حتّى نتمكّن من اللعب معًا. لكنّها كانت تفضّل جبالًا جديدةً وصحبة آخرين.

لم أكن أعرف حين جفّت الحفرة أنّ حكايتنا أيضًا بدأتْ تجفّ. قالت إنّ والدتها لم تعد قادرة على دفع الإيجار في منزلهم هذا، وإنّهم سينتقلون إلى منزلٍ جديد

ــــ رح تاخدي العصفور معك؟

ــــ العصفور؟ بطّل يجي. شكلو بِحبِّش الدم!

ــــ أَنُو دم؟

ــــ لِسّاتَك صغير، بس تكبر بتعرف.

كانت ترتدي بنطالًا طويلًا. صافحتني لأولّ مرة، وهمست: "لن أنساك." ركبتْ درّاجتها التي ستبيعها أُمّها كما قالت. كان شعرها لا يزال مربوطًا.

نزلتُ عن الدراجة. ركبتُ السيّارة. ولأوّل مرّة منذ العقاب، تخطّيتُ البوّابة السوداء. كنت سريعًا جدًّا، لكنّ السيارة كانت أسرع.

وقفتُ قرب بابها على بقايا الجرس المكسور. لمعتْ كفُّ أبي على خدّي. بدا أنّ كلّ الدموع المكتومة بقيتْ في مكانٍ ما تحفر نهرًا خفيًّا، وفاض، حين شاهدتُ عبد الله عائدًا من جهة السيارة، وسلسلةُ حنظلة في رقبته!

القدس

 

امير حمد

كاتب من القدس المحتلّة. طالب في جامعة بيرزيت.