ستحيا في كلّ اشتباك
28-03-2019

 

سأكتبُ عنك يا ماهر بكلّ معاني الحضور ولغاتِه؛ ذلك لأنّ الغياب لا يقوى على مَن هو مثلك، ولأنّني ما زلتُ أرفضُ التسليمَ بأنّ لقاءك بات محالًا.

كانت الدهشةُ هي الأثرَ الذي حفرتَه في داخلي عميقًا مذ تعرّفتُ إليكَ. وقد امتزجتْ دهشةُ التعارف الأوّل بالتهيّب، لكونكَ من أولئك المقاومين الذين انتصبوا في مخيّلتي أبطالًا لحكايات أبي، يولُّون وجوهَهم شطر فلسطين. كسرْتَ جليدَ التهيّب بمبادرتك، وبحنوّك الذي لم تَبْخلْ بنثره نُصحًا وحرصًا. فامتزجت الأبوّةُ الناصحةُ بحرص الصديق، لتطبَعَ مسار علاقتي بك بأكملها.

تتزاحم في ذاكرتي صورُ لقاءاتنا وأحاديثنا التي امتزج فيها الخاصُّ بالعامّ؛ كأن تطمئنَّ إلى أحوال العاطفة والقلب، وتهتمَّ بحال دراستي التي شجّعتَني دائمًا على المضيّ فيها. لن أنسى، ما حييتُ، يومَ تعذّرَ عليّ الاستحصالُ على كتابيْن لسلامة موسى أثناء إعدادي البحثَ لنيل شهادة الماجستير. يومَها، جزمتَ أنّ معرفةَ فكر أحدِهم تقتضي الاطّلاعَ على مجمل نتاجه الفكريّ إذا أمكن، فابتعتَ لي مجموعةَ سلامة موسى الورقيّة كاملةً من الشام. كما أنّك استحسنتَ اختياري، موضوعًا لأطروحة الدكتوراه، أحدَ أطياف الماركسيّة المتجدّدة: مدرسةَ فرانكفورت. وأثرْتَ دهشتي لأنّكَ، خلافًا لكثيرين يجترّون مفاهيمَ الماركسيّة وفق قوالبَ مدرسيّةٍ محنّطة، كنتَ تتبنّى ضرورةَ نقد الماركسيّة في صيغتها "المبتذلة" التي تَحْصر تأويلَ أفعال البشر في الإنتاج المادّيّ وحده. وكنتَ تعتبر أيضًا أنّ مفهومَ "الطبقة" يحتاج، هو الآخر، إلى مقاربةٍ راهنة، وإلى تبيئةٍ عربيّة.

 

لن يغيّبَكَ الغيابُ يا رفيقي!

 

كنتَ سيّدَ أفكاركَ، التي ألحظُها مرتسمةً في قسمات وجهك، وفي خطوطه العميقة. أتابعُ عينيك، فأنشدُّ إلى صدقٍ عميقٍ غائرٍ فيهما. وأتلقّفُ صوتَكَ الهادئ وهو يستعرض قضايا النضال وتعثّراتِه وتوقّعاتِكَ منه - - وهي لم تكن توقّعاتٍ متفائلةً بقدر ما كانت واقعيّة.

كنتُ كلّما استمعتُ إليك أزدادُ يقينًا أنّ فهمَ الواقع ليس صياغةً جاهزةً لتصوّراتٍ نغترفُها من صفحات الكتب، وأنّ أشدَّ المفاهيم نفاذًا إلى عقولنا هي التي تُصنع من التحام مناضلين بتجارب نضالاتهم اليوميّة الصادقة الدؤوبة، لتُنتجَ "ثقافةَ اشتباكٍ" تتمرّد على أيّ نظريّة مقطوعة الصلة بظلال الواقع والناس.  

أعترفُ أنّني استنفدتُ وقتًا طويلًا قبل أن أفقهَ أمورًا كثيرةً قلتَها لي. بعضُها حفظتُه جيّدًا، كقولكَ إنّنا لا نمتلكُ في لحظات العسْر إلّا اجتراحَ المنافذ. دروسُكَ كانت شاهقةً حيال عالمي الضئيل آنذاك، ولكنّني اليوم أعايشُها وأنعجنُ بها وأستذكرُها بعد كلّ إخفاق. العناد والصلابة هما أكثرُ ما أحببْتُه فيك، وهما كانا سلاحَك الأمضى لتقاومَ به المرضَ الذي استحكم بك.

كانت مرحلةُ مرضك بالنسبة إليّ حدثًا أرقبُه من بعيد، كمن يرجو أن يكون وهمًا غيرَ قابل للتحقّق. أنت أيضًا لم تسلّمْ به، بل كنتَ تفكّر في ما يتعدّاه: بزينب، بالصيْد، بالمشْي على البحر، باجتماعٍ مرتقبٍ للجبهة الشعبيّة، بتدريب كادرٍ جديدٍ على حمل السلاح،...

عندما زرتُكَ في بيت أخيك الراحل أبي ماهر اليماني، ألفيتُكَ نائمًا، فخرجتُ وأنا أمنّي النفسَ بالعودة في الأسبوع القادم. ولكنّك لم تمهلْني يا ماهر. ألم تعِدْني بمناقشة مقالةٍ لي صوّرتُها لك بخطٍّ كبيرٍ كي لا تُرهَقَ عيناك الحبيبتان؟

في يوم غيابك، أشحتُ بوجهي عن جسدك المسجّى وخرجتُ. كنتُ أريدكَ أن تبقى في وجداني واقفًا، وبكامل إقبالك على الحياة. لكنّك ستبقى تنبض في ذاكرتي يا ماهر. سأدخُل بيتَكَ في الهرمل، وسأشمّ رائحةَ فلسطين تتضوّع: من لوحةٍ على حائط، أو تطريزةٍ على طاولة، أو كتابٍ على رفّ. سأجلس على الشرفة حيث كنتَ تستقبلُنا صيفًا، وسأستحضرُ طيفَكَ ينفث دخانَ السيجارة، وتنادي زينب بلهجتك الفلسطينيّة الجميلة وترمقُها بعين الولَه.

لن يغيّبَكَ الغيابُ يا رفيقي. ستتجلّى أمام ناظريَّ عند كلّ عملٍ بطوليّ لا يكلّ الفلسطينيّون عن خوضه. وستَمْثل في ذاكرتي كلَّ يوم جمعة، حين يرابط الفلسطينيّون، بأجسادهم العارية، عند حدود غزّةَ وتخومِ الشهادة. ستحيا في كلّ فعل اشتباكٍ يأبى المساومةَ والاستسلام. وستبقى في عقلي رمزًا يصوِّب ويوجِّه ويُلهِم ويضيء ويتوهّج، شأن الآداب، الأثيرةِ على قلبك.

الهرمل

زهراء الطشم

* أستاذة تعليم ثانويّ رسمي، طالبة دكتوراه في قسم الفلسفة، الجامعة اللبنانيّة. تنهي أطروحتَها عن أثر مدرسة فرانكفورت في الفكر النقديّ الغربيّ والعربيّ الحديث والمعاصر.