صفحات من تاريخ "الزحفطة" اللبنانية
01-07-2020

 

تهدف هذه الدراسة إلى تبيان تبعيّة بعض النُّخب اللبنانيّة السياسيّة والاقتصاديّة المهيمنة للقوى الخارجيّة، وذلك بالاستناد إلى مراسلاتٍ أجراها أفرادٌ بارزون من تلك النخب: أ) مع قادة دولٍ ربطتْها علاقاتُ هيمنةٍ بملوكٍ فينيقيّين في العصور التاريخيّة المبكّرة، وب) مع أمراءَ ووجهاءَ لبنانيين في فترة الحكم العثمانيّ، وج) مع نخبٍ لبنانيّةٍ، دينيّة وسياسيّة، بعد قيام دولة لبنان الكبير، ثم الجمهوريّة اللبنانيّة، قبل الحرب الأهليّة وبعدها.

بعيْد نيل لبنان استقلالَه عن فرنسا، خرج الأديبُ اللبنانيّ سعيد تقيّ الدين بمصطلحٍ جديدٍ هو "الزحفطة." والتعبير نحتٌ من كلمتيْن، "زحْف" و"بطْن،" ويشير إلى مَن يزحفون على بطونهم تذلُّلًا لنيلِ ما يريدون. وهو كان يعني بهذا التعبير رجالَ السياسة اللبنانيين "في توسّلهم وانبطاحِهم أمام ذوي الشأن، المحلّيّين والإقليميّين والدوليّين،" وكانوا يمثّلون وضعًا شاذًّا "لطبقةٍ سياسيّةٍ باعت نفسَها للشياطين لكي تَضْمن مصالحَها على حساب مصلحة الوطن والمواطن."[1]

ولمعرفة الخلفيّة التاريخيّة لتبعيّة السياسيّين والقادة اللبنانيّين للخارج، يتحدّث بعضُ المؤرِّخين اللبنانيّين عن توجّه أمراء الغرب والشوف (سواحل غربيّ جبل لبنان من بيروت شمالًا إلى الدامور جنوبًا) إلى مرج دابق في العام 1516 لمعاينة المعركة الدائرة بين المماليك والعثمانيّين. ووفقًا لهذه الرواية، فإنّ الأمراءَ اللبنانيّين، عندما رأوْا أنّ الكفّةَ تميل لصالح العثمانيّين، انضمّوا إليهم ضدّ المماليك، فنالوا رضى السلطان العثمانيّ سليم الأوّل. وتضيف الروايةُ أنّ وفدًا من أولئك الأمراء دخلوا على السلطان في مجلسه وسجدوا له وقبّلوا الأرضَ بين يديه، وأنّ أحدَهم - وهو الأمير فخر الدين المعنيّ الأوّل - انبرى لإلقاء خطبةٍ امتدح فيها السلطان، الذي أُعجِب بفصاحته، فخلع عليه لقبَ "سلطان البرّ" وولّاه "ولايةَ الغرب والأشواف." في ما يأتي نصُّ خطبة فخر الدين:

 

 امتدح فخر الدين المعنيّ الأوّل السلطان سليم الأوّل، فخلع عليه لقبَ "سلطان البرّ" وولّاه ولايةَ الغرب والأشواف 

 

"اللهمَّ أدِمْ دوامَ مَنِ اخترتَه لمُلْكِك، وجعلتَه خليفةً عندكَ، وسلّطتْه على عِبادِكَ وأرضِكَ، وقلّدتَه سنّتَكَ وفرضَك؛ ناصرِ الشريعةِ النيّرةِ الغرّاء، وقائدِ الأمّةِ الطاهرةِ الظاهرة، سيّدِنا ووليِّ نعمتِنا، أميرِ المؤمنين، الإمامِ العادل، والذكيِّ الفاضل، الذي بيده أزمّةُ الأمر، "بادشاه،" أدام اللهُ بقاءَه، وفي العزِّ الدائمِ أبقاه، وخلّد في الدنيا مجدَه ونُعماه، ورفع إلى القيامة طالعَ سعدِه، وأبلغه مأمولَه وقصدَه... أعاننا اللهُ بالدعاء لدوامِ دولته بالسعدِ والتخليدِ بأنعمِ العزّ والتمهيد. آمين."[2]

وعلى الرغم من تشكيك بعضِ المؤرِّخين، أمثال كمال الصليبي وعبد الرحيم أبو حسين وعبد الله الملاح، في حقيقة هذه الواقعة،[3]فإنّ خطابَ الاستزلام والتبعيّة سيصبح منهجًا تسير عليه النخبُ اللبنانيّةُ على مدى خمسة قرون من التاريخ الحديث والمعاصر لهذا البلد.

 

الإرث الفينيقيّ

تُظهر طبيعةُ العلاقات التي ربطتْ ملوكَ المدن الفينيقيّة بالقوى الخارجيّة علاماتِ تبعيّةٍ جليّةً. فحتى نهاية الألف الثاني قبل الميلاد، كانت مدينةُ جبيْل هي الأبرزَ بين هذه المدن، وربطتْها بمصرَ الفرعونيّة علاقةُ تبعيّةٍ، على ما تكشف مراسلاتُ تل العمارنة، إذ كان ملكُ جبيل يتصرّف كأنّه تابعٌ لملك مصر.

يتحدّث كارل نيبور عن حادثةٍ وقعتْ في أواخر الألف الثاني قبل الميلاد بين ملكيْن تنافسا على حكم جبيْل: ريب عدي من جهة، وأزيرو (ووالدِه ربّ العشيرة) من جهةٍ أخرى. وتَكشف إحدى الرسائل تبعيّةً وتذلّلًا من قِبل ريب عدي، الذي يُفترض أن يكون رجلًا مُسنًّا، لـ"أمانابا،" فرعونِ مصر:

"أمانابا، أبتي، أنا ريب عدي، ابنُكَ! عند قدميْ أبي سقطتُ. سألتُكَ مرارًا وتكرارًا: ألا تستطيع أن تنقذَني من يد عبدِ العشيرة؟ كلُّ الوجهاء يقفون إلى جانبه. لن يسمعَ الرؤساءُ أيَّ مراجعةٍ لأنّهم في تحالفٍ معه؛ هكذا أصبح هو عظيمًا. لكنّكَ أجبتَني: ’أرسلْ رسالتَكَ معي إلى المحكمة، وبعد ذلك إذا لم يقلْ [أي أزيرو] أيَّ شيء ضدّها، أرسلْها مع القوات الملكيّة إليك لتأمين حياتك...‘ ما الذي يمكن أن ينقذَني؟ إذا لم أتلقَّ أيَّ قوّات، فسوف أتخلّى عن مدينتي، وأهربُ، وأفعلُ ما يبدو جيّدًا لي للحفاظ على حياتي."[4]

لذلك شنّ الفرعونُ المصريُّ حملةً ضدّ أزيرو، الذي هرب إلى الجبال، وأرسل - بدوره - رسالةَ تذلّلٍ إلى الفرعون راجيًا منه أن يغفرَ عنه. وقد جاء في الخطاب ما يأتي:

"إلى الملك العظيم، ربّي وإلهي وشمسي، أزيرو. عبدُك [أنا]. سبعَ مرّاتٍ، ومرّةً ​​أخرى سبعَ مرّاتٍ، أسجدُ يا ربُّ ، أنا بالفعل عبدُكَ. وفقط عندما أسجدُ على الأرض أمام الملكِ سيّدي، هل أستطيع أن أتحدّثَ عمّا يجب أن أقولَه؟ ولكنْ لا تسمعْ، يا سيّدي، الخصومَ الذين يشتمونني أمامك. ما زلتُ عبدَكَ إلى الأبد."[5]

قد يحاجج البعضُ أنّ لغةَ الخطاب هذه كانت لغةَ "الديبلوماسيّة" السائدة بين الملوك. إلّا أنّ وثائقَ تل العمارنة تُورد مراسلاتٍ بين ملوكِ بابل والفراعنة تُظْهر ندّيّةً بين الطرفين، إذ يخاطب أحدُهما الآخرَ بـ"يا أخي." [6]

 

نموذج من القرن 18

وبالانتقال إلى القرن الثامن عشر، فقد باشر الرأسمالُ الغربيُّ، والفرنسيُّ في الدرجة الأولى، التغلغلَ في المشرق العربيّ. وكانت الدولةُ العثمانيّة قد بدأتْ تمرّ في ركودٍ اقتصاديّ، خصوصًا بعد توقيع اتفاقيّة نيرشينسك سنة 1684 بين الروس والصينيّين - - ما أدّى إلى تقاسم هذيْن الطرفيْن وسطَ آسيا، وإلى تحويل طريق التجارة القادم من الصين بعيدًا عن أراضي فارس والدولة العثمانيّة باتجاه سيبيريا فبحرِ البلطيق. وأدّى، من ثمّ، إلى أن تَفْقد النخبُ التجاريّةُ العثمانيّة، أتراكًا أو عربًا أو أكرادًا، دورَها، ليترسّخَ النظامُ المقاطعجيُّ في أرجاء الدولة العثمانيّة في القرن الثامن عشر. وكان ذلك أحدَ أسباب تراجُعِ الدولة العثمانيّة وترهُّلِها بعد أن كانت القوّةَ الأولى في العالم حتى القرن السابع عشر.

كانت فرنسا في القرن السابع عشر قد أخذت امتيازًا تجاريًّا من الدولة العثمانيّة، وبدأتْ تركّز على منطقتيْ حلب وصيدا كمدخلٍ إلى بلاد الشام. وبها، أيْ بفرنسا، ارتبط برجوازيّو المدن، الذين كانوا في غالبهم من الروم الأرثوذكس قبل أن ينتقلوا إلى الروم الكاثوليك بالمصلحة.[7] وتَرافق ذلك مع قيام طوائفَ مسيحيّةٍ شرقيّة - - مثل الكلدان في أواخر القرن 16، والروم الكاثوليك المنشقّين عن الأورثوذوكس رسميًّا سنة 1724، فالموارنة سنة 1736 - - بالإعلان عن ولائها للكرسيّ البابويّ في روما.[8] وترافق ذلك أيضًا مع تعميق العلاقات الاقتصاديّة بين فلّاحي جبل لبنان ومصانع ليون للحرير؛ ما جعل العلاقةَ عضويّةً بين فرنسا وجبل لبنان، خصوصًا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وفي ظلّ حكم المير بشير الثاني من العام 1788 وحتى العام 1840، والحكم المصريّ بين عاميْ 1831 و1840.[9]

في هذا المناخ، أصدر ملكُ فرنسا لويس الرابع عشر مرسومًا في 1/1/1662 بتعيين أبي نوفل نادر الخازن قنصلًا مدى الحياة، على أن يَخْلفه ابنُه في المنصب عند وفاته. وطوال قرنٍ من الزمن، تَعاقبَ على المنصب أربعةُ مشايخ من آل الخازن هم: أبو نوفل نادر، فابنُه قانصوه فيّاض، فابنُه حصن، فنوفل.[10] ووفقًا للتقاليد، فقد كان على الأخير أن يُبْرِقَ إلى الملك الفرنسيّ لتثبيته قنصلًا خلفًا لوالده، فكتب:

"الجناب العالي، أمير الأُمرا الكرام، كبير الكبرا الفخام، صاحب العزّ والاحترام، السلطان دلفين، المختصّ بمزيد عناية الملك العلام، أدام اللهُ تعالى بقاه، آمين. بعد تقبيل الأديالِ الشريفة والأناملِ اللطيفة، يُنهي العبدُ بين أيادي مولاه أنّه في اثنين وعشرون [عشرين] يوم خلة من شهر كانون الأوّل، الذي هو من شهور سنة ألف وسبعماية وسبعة ربانيّة، اندرج بالوفاة إلى رحمةِ مولاه عبدُكم والدُنا حصن ابن الخازن، الذي كنتم أنعمتم عليه في قنصليّة بيروت. يبقالكم [يبقى لكم] بعده طولُ العمر مدى الأيّام والسنين، آمين. فبعد الدُّعا إلى مقامكم الشريف، خلّد اللهُ تعالى بقاكم، فنترجّى من مراحمِكم العميمة بأنْ لا تشيلونا من خاطركم الشريف، وتلاحضونا [تلاحظونا] - نحن عبدَكم ولده - في تثبيتٍ تاني [ثانٍ] في اسمي على قنصليّة بيروت، كما كانت على عبدِكم والدِنا. المرجوّ أن لا تمنعوا إحسانَكم وإنعامَكم الغزير عنّا حتّى نضلّ [نظلّ] ناشرين بيْرقَكم واسمَكم على رُوسِ الأشهاد في بلاد الشرق جبل لبنان، لأنّنا دايمًا ملتجيين إلى بابِ سعادتكم ومستظلّين تحت كنفِكم الحصين، نحن وطايفتنا الموارنة، لأنّنا عبيدُ باب سعادتكم على البعد والقرب، ودائمًا لا تُخْرجونا من خاطركم السعيد. باقي، ودمتم في أمان الله وحفظِه على الدوامِ والدعاء. من بعدكم نوفل، ابن حصن الخازن، قنصل بيروت." [11]

 

نوفل الخازن لملك فرنسا: "نحن وطايفتنا الموارنة عبيدُ باب سعادتكم على البعد والقرب!"

 

وبناءً على هذه الوثيقة ثُبِّت نوفل قنصلًا لفرنسا في بيروت سنة 1708، ليبقى في هذا المنصب حتى العام 1753. ولأنّه مات من دون عقب، فقد انتقل منصبُ القنصل الفرنسيّ في بيروت إلى آل السعد، من بلدة عين تراز.[12]

 

زمنُ المتصرّفيّة

كان جبل لبنان وبلادُ الشام تحت الحكم المصريّ بقيادة إبراهيم باشا، ابنِ محمّد علي باشا، حاكمِ مصر منذ العام 1831. لكنْ في العام 1838 وقّعتْ بريطانيا مع الدولة العثمانيّة اتفاقيّةَ بالتاليمان، ومن بنودِها غيرِ المعلنة مساعدةُ بريطانيا للسلطان على استعادة سيادته على بلاد الشام. فكان الضغطُ على محمّد علي باشا للخضوع للاتفاقيّة بصفته تابعًا للسلطان العثمانيّ، ولو اسميًّا. وعندما لم يستجبْ للتهديدات، وَجّهتْ بريطانيا والنمسا وبروسيا وروسيا قوّاتِها إلى السواحل اللبنانيّة، وجرت معاركُ محدودةٌ مع الجيش المصريّ، الذي انسحب عائدًا إلى مصر، تاركًا جبلَ لبنان والشامَ للدولة العثمانيّة.[13]

غير أنّ فرنسا، التي كانت تتمتّع بامتيازاتٍ تجاريّةٍ مع الدولة العثمانيّة منذ القرن السابع عشر، وكانت حليفةً لمحمّد علي باشا، وقفتْ في وجه المطامع البريطانيّة، مطالبةً بحصّتها. ونتيجةً لعقديْن من الصراعات المحلّيّة والإقليميّة والدوليّة، أُقِرّ نظامُ المتصرّفيّة في جبل لبنان، فقسّم النفوذَ بين القوى الكبرى (إنكلترا وفرنسا وبروسيا وروسيا والنمسا)، إضافةً الى الدولة العثمانيّة، وشَكّل توازنًا بين الطوائف التي ترعاها هذه الدول، فنشأ مجلسٌ إداريّ للمتصرّفية على الشكل الآتي: 4 موارنة، و 3 دروز، و 2 روم أورثوذوكس، وواحد لكلّ من الكاثوليك والسنّة والشيعة. ونصّ النظامُ الأساسيّ على أن يكون المتصرِّفُ مسيحيًّا من رعايا الدولة العثمانيّة.[14] وكانت المناصبُ في المتصرّفيّة توزَّع وفقًا للتقسيمات الطائفيّة، وبدعمٍ من الدول الراعية للطوائف والزعامات المحلّيّة.

في هذا الإطار، يمكن فهمُ الرسالة الآتية، التي وجّهها الوجهاءُ الدروز إلى القنصليّة الإنكليزيّة في اسطنبول، مطالبين بتعيين دروزٍ في الوظائف العامّة:

"عرضحال لجانب معالي سفارة دولة إنكلترة الفخيمة بالأستانة العليّة، أدام اللهُ إجلالَها. نعْرض لبابِ معاليكم أنّه، لأمرٍ معلومٍ لدى الخاصّ والعامّ، بالمشرق والمغرب، فإنّ طايفتنا الدرزيّة هم من المعروفين بصدقِ الوَلا، وخلوصِ العبوديّة، إلى الدولة العادلةِ الإنكليزيّة، ولسايرِ رجالها العظام، ووزرائها الفخام، نظرًا لِما أبدتْ من العناية والمساعدات فيما مضى من الأوقات، وبالأخصّ في حادثة الستّين [المقصود 1860]، غبّ ما حصل لنا من الاضطهادات النابوليونيّة، وحضور أخصّ رجالها، سعادةِ اللورد دفرن والمرحوم الكردنال فريزد... ونطلب المساعدةَ من الله، ومن عناية دولتِكم، بالتوسّط أمام رجال دولتنا العليّة، بإعطائنا حقوقَنا، ومعاملتِنا بالعدالة، وإجراءِ التسوية فيما بيننا وبين أبناءِ وطننا، الذي لم يُمكنّا الحالُ أن نقيم بالجبل بدونه... دروز جبل لبنان، 8 ك 2، 1873."[15]

 

المرحلة الممهِّدة لدولة لبنان الكبير

يصف بعضُ المؤرِّخين اللبنانيين البطريركَ المارونيّ إلياس الحويِّك بأنّه زعيمٌ دينيٌّ "واجه" الاحتلالَ العثمانيَّ للبنان وناضل من أجل استقلاله.[16] إلّا أنّ مراسلاتِه مع السلطات العثمانيّة تقدِّم صورةً أخرى عنه، بحيث يبدو مولًى مخْلصًا للدولة العَلِيّة. من ضمن هذه المراسلات رسالةٌ إلى السلطان عبد الحميد سنة 1905 مهنّئًا إيّاه بالسلامة من محاولة اغتيالٍ تعرّض لها في 21 يوليو 1905 على يد أرمنيٍّ يثأر لتنكيل السلطان بالأرمن. وقد جاء في الرسالة:

 

الحويّك للسلطان عبد الحميد: "نحن، عبيدَكم الأخصّاء، لم نَغْفل عن أداء واجب العبوديّة والتعلّقِ البَنويّ!"

 

"الوثيقة 20 من الملفّ 9: خطاب غبطتِه للسلطان عبد الحميد سنة 1905

يوم سعيد، بل هو أسعدُ الأيّام للملّة المارونيّة، يوم أتاح اللهُ سبحانه فيه للعبد الداعي، ولإخوانه المطارين ومَن بمعيّتهم، أن يفوزوا بنعمةِ شرفِ المثولِ لدى أعتاب جلالتكم السَّنِيّة، ويرفعوا إلى سدّتِكم الملوكانيّة ما كنّتْ قلوبُهم وضمائرُهم من شعائرِ الإخلاصِ والصداقةِ والعبوديّةِ للذات المقدَّسة الشاهانيّة، صانها باري البرِيّة.

كيف لا، وجميعُنا نعتقد بأنّنا ماثلون الآن أمام مليكِنا الأعظم، الذي قلّده اللهُ إدارةَ شؤوننا وتدبيرَ أمورنا، وقد رأيناه وعرفناه بأنّه أعظمُ وأحكمُ وأعدلُ سلطانٍ يَفتخر به هذا العصر. وقد طَوَّق أعناقَنا بقلائدِ مِنَنِه السَّنِيّة، وغمر طائفتَنا المارونيّةَ بأكبر مكارمِه الخلقانيّة، بما لم يسبقْ له من مثيلٍ قبل عهدِه الميمون. حقًّا، أيّها المولى العظيم، إنّكم قد تفرّدتم بحكمتكم السليمانيّة، وشفقتِكم الداووديّة، وفُقْتُم مَن سَلَفَكُم في كرمِ الأخلاقِ العثمانيّة. كم وكم من الأيادي البيضاء، وكم وكم من التعطّفات والإحساناتِ التي شاءت جلالتُكم أن تفيضَ من بحرها الطامي على عموم رعاياكم وأفرادها الأمناء! وكم وكم من الامتيازات والنِّعَم الخاصّةِ قد توالت بفضل عنايتكم الأبويّة على عبيدِكم اللبنانيين عمومًا، وعلى الملّةِ المارونيّة خصوصًا! فنحن الداعون، وكامل الشعب اللبنانيّ الذي يشاركنا بالوطنيّة والجامعة العثمانيّة، نعترف سرًّا وعلنًا، في كلّ زمانٍ ومكان، أنّنا وَجدنا في ذاتكم المقدَّسة أبًا حنونًا لا يَفْتر عن الاعتناء ببنيه لكي يخوِّلَهم تمامَ الراحة والرفاهية، ويهطلَ عليهم نِعمَه وإحساناتِه، بنوعٍ لا مزيدَ عليه، حتى أصبح كلُّ مَن عَرَفَنا يَحْسدُنا على حالتنا ويودُّ الانضواءَ تحت اللواء الحميديّ الأسنى.

فعند مقابلة هذا العبد الداعي، ومَن معه، للحضرة البابويّة، وتبيانِ ما للمسيحيين عمومًا، والطائفةِ المارونيّة خصوصًا، من المنزلةِ والاعتبار لدى مليكِهم الأعظم، وكيف أنّهم جميعًا حاصلون على تمام الراحة والحريّة الدينيّة في ظلّه الشاهانيّ، فقد اهتزّت [المقصود: الحضرة البابويّة] طربًا، ورفعتْ أكفَّ الدعاء نحو السماء لدوام عزّ جلالتكم واقتدارِها، وسلّمتني رسالةً خطّيّةً تعرب عن حاسّات إخلاصها وشواعرِ اعتبارها وصداقتها لجلالتكم. ولمّا قابلْنا رئيسَ الحكومة الفرنساويّة، وأعربنا له عمّا كنّت قلوبُنا من خالص التعلّق بعرشكم الأسنى، معدِّدين أياديَكم البيضاءَ وإحساناتِكم الغرّاءَ التي غمرتْ جميعَ المسيحيين العائشين في ظلّكم الوارف، وبيّنّا ما خصّكم من المولى سبحانه من المزايا الفريدة والسجايا الحميدة، مبرهنين لحضرته أنّ مبدأ سعادة العثمانيين عمومًا، والملّةِ المارونيّة خصوصًا، كان يومَ جلوسِكم المأنوس على عرش أجدادكم الأسنى. فحضرتُه [أيْ رئيسُ الحكومة الفرنساويّة] أبدى لنا جزيلَ امتنانه، وأعرب عن مزيد اعتباره، لحكمتكم الباهرة التي تديرون بها شؤونَ الممالك المحروسة منذ سنين طويلة، رغمًا عمّا صادفتموه من المشكلات التي حلَلتموها بذكائكم الغريب. وأثنى، خاصّةً، على ما أظهرتم من ثبات الجنان والشجاعةِ النادرة عند حدوث تلك الحادثة المفجعة التي اهتزّ لها العالم [المقصود: محاولة اغتيال السلطان العثمانيّ على يد شابّ أرمنيّ]، وأنّ ذلك زاد في قلوب سائر الملوك اعتبارَهم ومحبّتَهم لذاتكم العليّة. ولا يزال الجميعُ يَلْهجون بالثناء على جلالتكم، منذهلين من اجتماع كلّ المزايا الحسنة والصفاتِ الممدوحة في ذاتكم المقدّسة...

أمّا نحن، عبيدَكم الأخصّاء، فلم نَغْفل عن أداء واجب العبوديّة والتعلّقِ البَنويّ برفع الأدعيةِ الخيريّة لباري البريّة شكرًا على تلك المِنّة العظيمة. سيّدي ومولاي، إنّ حبَّنا لذاتكم المقدّسة، وتعلُّقَنا بأهداب عرشكم الأسنى، هما معلومان لدى جلالتكم. فنحن قومٌ نشأنا في حضرة الدولة العثمانيّة، وطُبعتْ قلوبُنا على محبّتِها من أجيالٍ عديدة، ولا نزال ثابتين على عهد الصداقةِ والعبوديّة نحو العرشِ العثمانيّ الأنور، ولا يَفْصلنا عنه مهما جرى من الحوادث وتقلّباتِ الأحوال، ولا فضلَ لنا في ذلك لأنّنا مقيَّدون بسلاسلِ الحبّ من أوجهٍ شتّى، وأخصُّها من وجه الدين الذي يوجِب علينا فرضًا مقدَّسًا: إخلاصَ العبوديّة لمن ولّاه اللهُ علينا، لأنّ كلَّ سلطةٍ هي من الله، وهو تعالى قد انتخب جلالتَكم، وسلّطكم على الأمّة العثمانيّة التي تفتخر بالانتماء إليكم....

فبناءً عليه، نستعطف مراحمَ جلالتكم أن تثقوا بصدق تابعيّتنا العثمانيّة، وتعتقدوا تمامَ الاعتقاد أنّنا لكم لا لغيركم، وأننا لا نبتغي سوى رضاكم العالي الذي نَعُدّه من رضاه تعالى، وإليه سبحانه نضرع من صميم قلوبنا أن يحفظَ لنا ولجميعِ العثمانيين الصادقين ذاتَكم المقدَّسة ملجأً وملاذًا وفخرًا وذخرًا مدى الدهر، ويُنْعم علينا أن نعيشَ في ظلِّكم ونموتَ في عهدكم..."[17]

ومن جديد، قد يعتبر البعضُ ذلك خطابًا معتمَدًا في ذلك الزمان في المراسلات الرسميّة. إلّا أنّنا إذا قارنّاه، مثلًا، بخطاب المطران طوبيا عون إلى القنصل الإنكليزيّ، فإنّنا قد نجد خطابَ عون أقلَّ اكتظاظًا بتعابير التزلّفِ والعبوديّة. وممّا جاء فيه:

"الجناب المكرّم، ذو المقام الأفخم، مسيو مور، قونسل [قنصل] دولة إنكلترا في بيروت المحترم، دام بقاؤه. انّه قد بلغني اهتمامُ جنابكم على السفر بالسلامة إلى انكلترا. ومن دون ذلك، سأكون من جهةٍ مغمومًا بسبب بعادِ جنابكم عنّي بهذا السفر القاصي [القاسي] وخسارتي - مدّةَ غيابكم - مشاهدتَكم ذاتَ الأنسِ والمسرّة. إلّا أنّه، من جهةٍ أخرى، سأجد تعزيةً لأنّي مؤمِّلٌ خيرًا جزيلًا لمجهود جبل لبنان من جملة الخير الذي سيكون ناتجًا من سفركم هذا... أرى ضروريًّا أيضًا بأن أترجّاكم أنّه، عند امتثالكم لدى جلالة دولتِكم الفخيمة، تُخْبرون بكفايةٍ عن الحال التي فارقتم جبلَ لبنان بها، وتحرِّكون مرحمتَها العميمةَ نحو إصلاحِ ما يَلزم إصلاحُه لأجل الخير العامّ الذي هو أخصُّ اهتمام هذه الدولة الرحيمة، وكيْلا تذهبَ فارغةً من الأثمار الجيّدة تلك الاهتماماتُ المبدوّةُ سابقًا ولحدّ الآن من هذه الدولة المقتدِرة. إنّه غيرُ مجهولةٍ من جنابكم الإنعاماتُ الخاصّةُ الممنوحةُ من عطوفات دولتنا الشرعيّة العليّة بتعليماتٍ مخلّدةٍ لأنّ ذلك قد كان بواسطة دولتكم الفخيمة سويّةً مع باقي الدول العظام المتحابّة. وجنابُكم قد بذلتم كمالَ الهمّة، وما برحتم تبذلون ذلك للآن لكي تكون تلك الإنعاماتُ نايلةً مفعولَها وسالمةً من السلب ليتمتّع بها اللبنانيون. ولولا هذه الاهتماماتُ لكانت أضحت تلك الإنعاماتُ كأنّها لم تكن. وهذا الشي لستُ أنا وحدي مُشْعَرًا به، بل كلُّ الوجوه وأهل التكلّم المنظور إلى كلامهم في هذه الديار اللبنانيّة شاعرون نظيري بهذه النِّعم، وممنونون أيضًا لمراحم دولتكم واهتماماتِ جنابكم، ويقولون كما قلتُه وما سأقوله.

فأنا أظنُّ غير ضروري لي بأن أشهدَ بحسن أعمالكم وساير تصرّفات جنابِكم الممدوحة لأنّ ذلك شهير. وأظنّ أنّ دولتَكم الفخيمة عالمةٌ بهذا جيّدًا. وغير لازم أيضًا أن أشرحَ لجنابكم شيئًا ممّا هو حاصلٌ بهذه الجهات اللبنانيّة، بأنواعه وأسبابه، كون جنابكم مختبِرين هذه الحقيقة أكثرَ منّي ومن غيري أيضًا لحال ملامستكم ذلك كلّه بالحواسّ الإنسانيّة نظريًّا وعمليًّا. ولمن الموكّد أنّ تقريراتكم هي المعتمَدُ عليها عند دولتكم أكثر من غيرها...

بيروت في 29 نيسان سنة 853

المحبّ المخلص لجنابكم طوبيا عون، مطران بيروت."[18]

 

مرحلة الطائف

في العام 1985، شكّل وصولُ ميخائيل غورباتشوف إلى السلطة في الاتحاد السوفياتيّ بداية مسارٍ سيؤدّي سنة 1991 إلى انهيار كتلة الدول الاشتراكيّة، ومعها الاتحاد السوفياتيّ نفسُه. واستغلّت الولاياتُ المتحدة الوضعَ لفرض هيمنتها على الشرق الأوسط الغنيّ بالنفط.[19] كما استغلّت اجتياح صدّام حسين للكويت من أجل توجيه ضربةٍ إلى العراق في العام 1991 أدّت إلى تدمير قوّته العسكريّة والاقتصاديّة، وإلى فرض الحصار عليه أكثرَ من عقدٍ من الزمن.

هذه التغييرات أقنعت الرئيسَ السوريّ، آنذاك، حافظ الأسد، بأنّ الأميركيين سيسيطرون على الساحة العالميّة للسنوات التالية،[20] فاندفع إلى تحسين علاقته بهم وإلى عدم التصادمِ معهم، بل انضمّ إلى "التحالف الدوليّ لتحرير الكويت " أملًا في أن يُسْهم موقفُه هذا في تثبيت سوريا شريكًا للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وشطبِها عن اللائحة الأميركيّة السوداء.

كما سمحتْ هذه الظروفُ لسورية بأن تطيحَ بالعماد ميشال عون، الذي كان يرأس حكومةً عسكريّةً في لبنان منذ انتهاء ولاية الرئيس أمين الجميّل سنة 1988. وكان ذلك من مفاعيل "اتفاق الطائف" الذي وُقّع بين الأفرقاء السياسيّين اللبنانيّين والنوّاب في مدينة الطائف (السعوديّة) برعايةٍ أميركيّة وسعوديّة وسوريّة، على أن تتقاسمَ دمشق وواشنطن والرياض النفوذَ في هذا البلد. وقد انتُخب رئيسٌ جديدٌ للجمهوريّة في صيف العام 1989، هو رينيه معوّض، الذي اغتيل بعد أسابيع قليلة، ليُنتخب بعده إلياس الهراوي رئيسًا. وفي العام 1992 أُجريت انتخاباتٌ نيابيّةٌ أنتجتْ مجلسًا نيابيًّا جديدًا برئاسة قائد حركة "أمل" نبيه برّي، وتشكّلتْ حكومةٌ برئاسة رفيق الحريري، وبشراكةٍ من الزعيم وليد جنبلاط.

 

مروان حمادة مخاطبًا بشّار الأسد: "إنّ لبنان... يرى فيكم يا سيادة الرئيس خيرَ خلفٍ لخير سلفٍ!"

 

كان مروان حمادة نائبًا في كتلة جنبلاط. ومن أوائل المناصب الوزاريّة التي تولّاها وزارةُ الصحّة. في أوائل العام 1994 توفّي الرائد باسل الأسد، نجلُ الرئيس حافظ الأسد، في حادث سير، فكتب حمادة مرثيّةً به تحت عنوان "كيف يغيب؟" ونُشرتْ في الصحف السوريّة، ثمّ في كتابٍ صادرٍ عن منشورات الإدارة السياسيّة في الجيش العربيّ السوريّ بعنوان: باسل الأسد - ملحمةُ فارس. وجاء فيها:

"غاب الرائد باسل الأسد، لكنّ روحَه لم تغبْ. غاب، لكنّ شبابَه استمرّ في شباب العرب. غاب، ولكنّ شجاعتَه بقيتْ تنمو في كلّ واحدٍ من أبناءِ حافظ الأسد. غاب، لكنّ فروسيّته ظلّت تمتطي التحدّيات، تقود خطى الجيل العربيِّ الواعد. غاب، أمّا حسُّه الإنسانيّ والاجتماعيّ فماثلٌ في أعماقنا، لا يمحوه الزمنُ ولا العوادي. غاب، أمّا ريادتُه فستتواصل في المُثل والقيم التي تَشبّع منها وأشاعها في مجتمعِه وأمّتِه. إذا كان لغياب باسل الأسد هذا المعنى، فهل غاب فعلًا؟ بالطبع لا! أمثالُ باسل يغيبون مادّةً فقط؛ لأنّهم عندما يرحلون يزداد حضورُهم ويتعاظم تأثيرُهم وينسحب مَثَلُهم ليشكّلَ منارةً تنير طموحاتِ أجيال الشباب العربيّ."

وتابع حمادة: "نحن لن نبكيكَ يا باسل لأنّكَ لم ترحلْ. لن نبكيَكَ لأنّ في رحمِ كلِّ عربيّةٍ قطعةً منكَ مصيرُها أن تُزْهرَ يومًا. لن نبكيكَ لأنّ أمّةً عزيزةً لا تبكي على نفسها، إنّما تستمدّ من المصيبة قوّةً ومنعةً وحياةُ تتجدّد."

وختم قائلًا: "أمّا أنتم، يا سيادةَ القائد، فلستم وحدَكم في هذا المصاب. وثِقوا أنّ كلَّ شابّ من شباب العرب هو باسلٌ آخرُ وآخر. فكيف يغيب؟ وكيف تخبو نارُ العروبة الخالدة؟!"[21]

كاتبُ النصّ أرسل إلى الرئيس السوريّ الحاليّ بشّار الأسد برقيّةَ تعزيةٍ بوالده الرئيس حافظ الأسد في الذكرى الرابعة لرحيله، وجاء في البرقيّة:

"إنّ لبنان، الذي أعطاه الراحلُ الكبيرُ كلَّ اهتمامٍ ورعاية، يَحفظ له تضحياتِه الكبيرةَ في تحقيق سلْمه الأهليّ وعودةِ العافية إلى ربوعه، ويرى فيكم يا سيادة الرئيس [بشّار الأسد] خيرَ خلفٍ لخير سلفٍ في متابعة المسيرة النيّرة التي خطاها والدُكم في تولّي قيادةِ خطّ سوريا القويّ المدافع عن الحقوق المشروعة للأمّة العربيّة، ومواجهةِ كلِّ التحدّيات والرياح التي تعصف بمنطقتنا."[22]

غير أنّ حمادة سيَتّهم القيادةَ السوريّة في العام 2004 بالوقوف وراء محاولة اغتياله. وكان مِن ضمن مَن شنّوا حملاتٍ شعواءَ على نظام سورية بين العاميْن 2005 و2010.

لكنْ، في نيسان 2010، بعد زيارة الرئيس سعد الحريري، ومن بعده وليد جنبلاط، إلى سورية، أقام السفيرُ السوريّ، علي عبد الكريم علي، حفلَ استقبالٍ في وسط بيروت لمناسبة عيد الجلاء، ففوجئ بأنّ حمادة وصل قبل ساعةٍ من الموعد، وأنّه وقف لاحقًا إلى جانبه متقبِّلًا التهاني! كما كان حمادة حاضرًا في حفل الاستقبال الذي أقامه جنبلاط للسفير عليّ في المختارة في حزيران 2010.[23]

لكنْ، بعد اندلاع الأزمة السوريّة، عاد حمادة إلى هجومه على القيادة السوريّة، التي وصفها مرارًا بأنّها "قيادةٌ مجرمة." ففي مقابلة مع قناة فرانس 24 في العام 2012 اتَّهم حمادة "المحورَ السوريّ - الإيرانيّ وأدواتِه اللبنانيّةَ" بمحاولة اغتيال سمير جعجع.[24] وفي العام 2019، شنّ حمادة هجومًا عنيفًا ضدّ الرئيس ميشال عون متّهمًا إيّاه بأنه يعيد لبنانَ إلى "زمن الوصاية السوريّة" بمحاولته الانفتاحَ على سورية.[25]

 

نموذج وليد جنبلاط

نموذجٌ آخر عن نمط الخطاب المتزلّف الزحفطونيّ المعتمَد من معظم الطبقة السياسيّة اللبنانيّة تجاه قوًى خارجيّة هو نموذجُ الزعيم الإقطاعيّ وليد جنبلاط، الذي اشتُهر بمواقفه المتناقضة.

ففي العام 1989، كان جنبلاط قد أصبح جزءًا من المعركة ضدّ قائد الجيش آنذاك ميشال عون. في تلك الفترة أجرت مجلّة فيغارو الفرنسيّة مقابلةً مع جنبلاط أعلن خلالها: "إنّني أفضّل البوطَ السوريّ على البوط المارونيّ."[26] وطوال عهد الطائف وحتى صيف العام 2004، كان جنبلاط من الحلفاء المقرَّبين والمدلَّلين من القيادة السوريّة.

 

وليد جنبلاط : "الدول الكبرى، عندما تُخطِّط أحيانًا، تَستعمل الأدواتِ الصغرى، وكنّا آنذاك من تلك الأدوات"

 

لكنْ بعد الغزو الأميركيّ للعراق (نيسان 2003)، ثم التوافق الفرنسيّ - الأميركيّ (حزيران 2004) الذي أدّى الى تباعدٍ فرنسيّ - سوريّ، اختار الرئيس رفيق الحريري الانحيازَإلى الصفّ الفرنسيّ، وتبعه في موقفه وليد جنبلاط. وكان من نتائج ذلك صدورُ القرار الدوليّ 1559 الذي يدعو سورية إلى الانسحاب من لبنان، ثم خروجُ الحريري من الحكومة عقب معارضته التمديدَ (المدعومَ سوريًّا) للرئيس إميل لحّود، ثم كان اغتيالُ الحريري في شباط 2005 - - وهو اغتيالٌ اتّهم حلفاؤه اللبنانيون والغربيون النظامَ السوريّ بالمسؤوليّة عنه. وفي الذكرى الثانية لاغتيال الحريري في 14 شباط 2007 أقيم حفلٌ خطابيّ كبير في وسط بيروت لقوى 14 آذار، المعادية للنظام السوريّ، فألقى جنبلاط كلمةً تميّزتْ بالهجوم الشخصيّ ضدّ بشّار الأسد، وجاء فيها:

"جئنا إلى ساحة الحريّة لنقول لكَ يا طاغيةَ دمشق، يا قردًا لم تعرفْه الطبيعة، يا أفعى هربتْ منها الأفاعي، يا حوتًا لفظتْه البحار، يا وحشًا من وحوشِ البراري، يا مخلوقًا من أنصافِ الرجال، يا منتَجًا إسرائيليًّا على أشلاءِ الجنوب وأهلِ الجنوب، يا كذّابًا وحجّاجًا في العراق، ومجرمًا وسفّاحًا في سورية ولبنان."[27]

لكنْ، بعد أحداث 7 أيّار 2008، التي انكسر فيها تحالفُ 14 آذار في معركةٍ عسكريّةٍ في بيروت والجبل في مواجهة حزب الله وحركة أمل، جرت مصالحةٌ برعاية قطر، عُرفتْ بـ"اتفاق الدوحة." وبموجب هذا الاتفاق حصلتْ تسويةٌ قضت بانتخاب العماد ميشال سليمان رئيسًا للجمهوريّة، وتسميةِ سعد الحريري رئيسًا للحكومة. بعد ذلك اعتذر جنبلاط عن خطابه المذكور آنفًا، وقال في مقابلة تلفزيونيّة:

"وصفتُ تلك اللحظة في خطابي بساحة الشهداء في العام 2007 بالتحديد. قلتُ لكَ كان كلامًا غيرَ لائق، وغيرَ مألوف، وخارجًا عن الأدبيّات السياسيّة، حتى في المخاصمة. أقول للقيادة السوريّة: من أجل المصلحة الوطنيّة، والمصلحة القوميّة، والتواصل العربيّ، والعلاقات الموضوعيّة اللبنانيّة - السوريّة، وعلاقات الدولتين، هل يمكن له أن يتجاوز هذا الأمر؟"[28]

وقد قُبِل اعتذارُ جنبلاط ورُتّبتْ زيارةٌ له إلى دمشق. وفي حزيران 2010 أقام جنبلاط حفلًا تكريميًّا للسفير السوريّ في دارته في المختارة، شارك فيه أسوةً بممثليْن عن عون وبرّي، ممثِّلٌ عن الحريري، فضلًا عن ممثّلي عددٍ من الكُتل النيابيّة، وضمنهم كتلةُ جنبلاط وأنصارُه (غازي العريضي، وأكرم شهيّب، ومروان حمادة، ووائل أبو فاعور،...). وألقى جنبلاط خطابًا قال فيه إنّ اعتمادَ الحياد في لبنان مستحيل، مشدِّدًا على "أنّ سلاح المقاومة مهمٌّ... اليومَ أكثر من أيّ يوم مضى في الدفاع عن الثروات الوطنيّة." وتابع:

"عام 2004 كان ثمّة صورتان: الصورة الصغرى التي كانت في الاستحقاق الآنيّ (التمديد للحّود)، والصورة الكبرى كان بعضُنا يعلم عنها، والبعضُ لم يكن يعلم، وهي ما كان يحضَّر في أروقةِ الأمم المتحدة من القرار المشؤوم الذي أدّى إلى ما أدّى اليه، القرار 1559. آنذاك، دخلنا من خلال الصورة الصغرى إلى الصورة الكبرى، وكان ما كان من تعقيداتٍ وويلاتٍ وكوارثَ أدّت إلى تلك النعرة الهائلة بين الشعب اللبنانيّ والشعب السوريّ، وبين لبنان وسوريا. الدول الكبرى، عندما تُخطِّط أحيانًا، تَستعمل الأدواتِ الصغرى، وكنّا آنذاك من تلك الأدوات. فبدأنا ندخل في النفق. ثم بفضل الحكماء في لبنان وسوريا، والمبادرةِ القطَريّةِ المدعومة عربيًّا بعد اتفاق الدوحة الذي أكّد على اتفاق الطائف، بدأت الغيومُ تنقشع رويدًا رويدًا من هذه الأنفاق (ولم يكن الأمرُ سهلاً)، وصولًا إلى الصورة الكبرى، إلى تحصين الساحة الوطنيّة والقوميّة والإسلاميّة، إلى العلاقة الموضوعيّة التي أرسيناها بالدم مع سوريا، بترجمتها العمليّة، [أي] الهدنة مع إسرائيل - العدوِّ الاسرائيلي، والعلاقة المميّزة مع سوريا."[29]

وأشار إلى أنه كان في أقصى درجات الانفعال خلال السنوات السابقة وقال: "لقد سمّيتُها ’لحظاتِ التخلّي‘، وسمُّوها أنتم ما شئتم. فقد خرجنا في هذه اللحظات عمّا بنيناه مع الجمهوريّة العربيّة السوريّة والأحزابِ الوطنيّة والفلسطينيّة بالدمِ والكفاح منذ العام 1979 إلى العام 1982 وصولًا إلى اتفاق الطائف." وأضاف: "كانت زيارةُ العاهل السعوديّ الملك عبد الله بن عبد العزيز إلى دمشق. ومن خلال هذه الزيارة، وبجهود الرئيس السوريّ بشّار الأسد، استطعنا أن نتجاوزَ مخلَّفات الانتخابات النيابيّة، ودخلنا جميعًا في حكومة وحدة وطنيّة."[30]

لكنْ، بعد اندلاع الأزمة في سورية، عاد جنبلاط إلى الخطاب العدائيّ للنظام في سورية، وصولًا إلى قوله في العام 2019 إنّ "أكبر كذّاب هو بشّار الأسد حاكم سورية."[31]

 

خلاصة

بناءً على ما تقدّم، نجد أنّ النخبَ السياسيّة اللبنانيّة كانت غالبًا ما ترتبط بعلاقاتِ تبعيّةٍ مع دولٍ خارجيّة. وقد يكون ذلك هو ما يفسِّر طريقةَ تعامل القيادة السعوديّة مع رئيس الوزراء اللبنانيّ سعد الحريري في تشرين الثاني (نوفمبر) 2017. فقد كان توجَّهَ إلى المملكة يوم الجمعة 3 نوفمبر بناءً على دعوة رسميّة عاجلة، ليَظْهر ليلةَ السبت في خطابٍ تلفزيونيّ معلنًا استقالتَه، ومحمِّلًا التدخّلَ الإيرانيَّ في شؤون لبنان المسؤوليّةَ.[32] ثمّ تبيّن أنّ الحريري كان موقوفًا مع رجال أعمالٍ سعوديّين "بتهم فساد" وفق ما تسرّب إلى الإعلام. حاولت السلطاتُ السعوديّة تبريرَ ذلك بأنّ الحريري يحمل الجنسيّةَ السعوديّة، من دون الأخذ في الاعتبار أنّه رئيسُ وزراء بلدٍ يُفترض أن يكون مستقلًّا. ولم يُطلَق سراحُ الحريري إلّا بتدخّل الرئيس الفرنسيّ إيمانويل ماكرون. وقد أكّدتْ تقاريرُ دوليّةٌ تعرُّضَ الحريري للضرب والإهانة أثناء احتجازه.[33]

هذا كلُّه يشكّل دليلًا على أنّ كثيرًا من النُّخب اللبنانيّة المهيمنة كانت، على مرّ التاريخ، تابعةً وممثِّلةً لنفوذٍ خارجيّ، ومستجديةً رضاه. وهذا قد يكون أحدَ العوامل التي تفسِّر سببَ الحؤول دون قيام دولةٍ ذاتِ سيادة في هذا البلد في العصر الحديث، ودون حصوله على حصانةٍ من النفوذ الخارجيّ ومن التقلّبات الإقليميّة والدوليّة التي كانت تنعكس دائمًا بشكل سلبيّ على الاستقرار فيه.

بيروت

 

[2] فيليب حتّي، تاريخ لبنان منذ أقدم العصور حتى عصرنا الحاليّ (بيروت: دار الثقافة، 1978)، ص 487؛ وعيسى إسكندر المعلوف، تاريخ الأمير فخر الدين المعنيّ الثاني، نصوص ودروس (بيروت: المطبعة الكاثوليكيّة، 1965)، ص 24، 31.

[3] راجع جمال واكيم، "تساؤلات حول الرواية التاريخيّة المؤسِّسة للكيان اللبنانيّ: هل وُجد أميرٌ اسمُه فخر الدين المعنيّ الأوّل؟" المستقبل العربيّ، عدد 467، تشرين الأوّل 2018.

[4]Carl Neibuhr, The Tell of Amarna Period: The Relations of Egypt and Western Asia in the Fifteenth Century B.C. According to Tell El Amarna Tablets, Translated by J. Hutchinson, (London: David Nutt, 1903), p. 25

[5]Ibid, p. 26

[6] Ibid

[7] فيليب حتّي، 482 - 483.

[8] المرجع نفسه، 493 - 494.

[9] قاسم سمحات، محمّد علي باشا والمشروع الفرنسيّ في بلاد الشام 1804 - 1850 (بيروت: دار المواسم، 2016).

[10] رياض غنام، وثائق سياسيّة من تاريخ المقاطعات اللبنانيّة: 1707 - 1873 (بيروت: دار معن، 2018)، ص 9.

[11] المصدر السابق، ص 10 - 11.

[12] المصدر السابق، ص 9.

[13] المرجع نفسه، ص 455 - 476.

[14] أسد رستم، لبنان في عهد المتصرّفيّة (بيروت: المكتبة البوليسيّة، 1987)، ص 39 - 47.

[15] رياض غنام، مرجع سابق، 445.

[17] الخوري إسطفان ابراهيم الخوري، وثائق البطريرك الياس الحويّك السياسيّة (بيروت: المركز المارونيّ للتوثيق والأبحاث، 2017)، ص 81 - 85.

[18] رياض غنام، ص 240 - 241.

[19] محمد زكريّا إسماعيل، "النظام الدوليّ الجديد بين الوهم والخديعة،" المستقبل العربيّ، يناير 1991، ص 15

[20]Graham E. Fuller, “Moscow and the Gulf War,” Foreign Affairs, vol.70, summer 1991, p. 65

[21] باسل الأسد - ملحمةُ فارس (دمشق: منشورات الدائرة السياسيّة في الجيش العربيّ السوريّ، 1994)، ص 606.

[24] المصدر نفسه.

[26]“Je Préfére la Botte Syrienne a La Botte Maronite,” Le Figaro, 23 Octobre 1989

[27] سلوى فاضل، "خريطة تقلّبات وليد جنبلاط من 1990 إلى اليوم،" جنوبيّة، 6 آب 2014.

[30] المصدر نفسه.

[31] تلفزيون سوريا، 26 نيسان 2019.

جمال واكيم

أستاذ التاريخ والعلاقات الدوليّة في الجامعة اللبنانيّة. من كتبه: صراع القوى الكبرى على سوريا، السياسة الخارجيّة التركيّة، سوريا ومفاوضات السلام في الشرق الأوسط.