عن نخبة سورية خائبة أخرى: تجربة الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري
28-01-2019

 

لعب حزبُ الاتحاد الديمقراطيّ الكرديّ في سوريا ــــ وما ارتبط به من "وحدات حماية الشعب" و"الإدارة الذاتيّة الديمقراطيّة" و"قوّات سوريا الديمقراطيّة" ــــ دورًا لافتًا خلال حوادث السنوات الثماني الماضية في سوريا. في البداية استرعى الانتباهَ بتنظيمِه، ومواجهتِه الحاسمة للإرهاب، واختيارِه خطَّ "هيئة التنسيق" إطارًا تحالفيًّا، وابتعادِه الجذريّ عمّا سيقت إليه المعارضةُ السوريّةُ "الائتلافيّة" السائدة من أسلمةٍ للخطاب والممارسة؛ وهي أسلمةٌ غدا معها المُفْتون الشرعيّون مصدرَ الرؤية والفعل.

غير أنّ هذا الحزب ما لبث أن خرج على خطّه التحالفيّ السابق، ليغدو حليفَ الولايات المتّحدة ومحميَّها، معلِّقًا عليها الآمالَ في تحقيق أهدافه القوميّة في القِسم الذي يدعوه "روج افا" (غرب كردستان) من الشمال السوريّ. وهو ما يشبه تعليقَ المعارضة السوريّة "الائتلافيّة" آمالَها على الولايات المتّحدة في إسقاط النظام وإيصالها إلى السلطة. وها هما، كلاهما، يلوكان مرارةَ الخيبة التي لاكها كلُّ مَن سبق أن انتظر من الولايات المتّحدة حلًّا لقضاياه الديمقراطيّة و/أو القوميّة.

لكنْ، في حين استغرقتْ خيبةُ المعارضة السوريّة الائتلافيّة نحو ستّ سنوات كي تتظهّرَ وتَبِين، فإنّ خيبة حزب الاتحاد الديمقراطيّ استغرقتْ أقلَّ من ذلك بكثير، مترافقةً مع خيبة المحاولة الاستقلاليّة في العراق. وها هو ترامب على وشك أن يسحبَ قوّاتِه من سوريا، تاركًا هذه التجربةَ بين مطرقة النظام التركيّ وسندان النظام السوريّ؛ الأمر الذي قد يعني، في مجمله، عودةَ النخب الكُرديّة بقضيّة شعبها عقودًا إلى الوراء.

لا تتوخّى مقالتي المقتضبة هذه تتبّعَ التجربة العمليّة الآنفة التي خاضها حزبُ الاتحاد الديمقراطيّ، بقدرِ ما تتطلّع إلى قولٍ نقديّ، صريحٍ وحريص، يتناول عددًا من الأسس المفهوميّة المختلّة التي ارتكزتْ إليها سياساتُه وتحالفاتُه.

***

أشير، بدايةً، إلى أنّ هذا الحزب، الماركسيّ، كان خلال الفترة الماضية إحدى أكثر الجهات السوريّة استخدامًا لمفردة "المكوِّنات" في قراءته البنيةَ المجتمعيّةَ السوريّة. وهو يضع المكوِّنات الطائفيّة والقوميّة على قدم المساواة، حتى في تصريحات قائده صالح مسلم،[1] من دون أن نعْلم إنْ كانت الدولةُ هي مرجعيّة هذه الجماعات أم العكس، ومن دون أن يُحْسَم إنْ كان يحقّ لكلٍّ من هذه المكوّنات إقامةُ كيانه المستقلّ أم أنّ المقصود هو إدارةٌ ذاتيّةٌ ديموقراطيّة واحدة تدير التنوّعَ القائم. يقول مسلم:

"في سوريّة أقليّات، إسماعيليّون وعلويّون ودروز وشيعة وسنّة، وهناك أكراد وعرب وتوركمان؛ لذلك فإنّ الحلّ الذي يجلب الاستقرارَ للبلاد يجب أن يقوم على اللامركزيّة."[2]

ولا تخفي تصريحاتُ بعض الأنصار على وسائل التواصل الاجتماعيّ أنْ "لا حلّ في سورية إلّا بكيانٍ للسنّة، وآخرَ للكرد، وثالثٍ للعلويين، ورابعٍ للمسيحيين، وخامسٍ للدروز... ويمكن من ثمّ أن تتفدرل هذه الكيانات"[3]... وذلك في خلطٍ شنيعٍ للقوميّة الكرديّة مع مذاهبَ دينيّة، والتعامل مع العرب كأنْ لا قضيّةَ قوميّةً لهم وليسوا أمّةً كالكرد، بل مجرّد طوائف!

***

الاتحاد الديمقراطيّ كان إحدى أكثر الجهات السوريّة استخدامًا لمفردة "المكوِّنات"

 

وأشير، ثانيًا، إلى أنّ ثمّة التباسًا، وربما اختلافًا، بين فكرة "الأمّة الديمقراطيّة" عند عبد الله أوجالان، القائدِ التاريخيّ لـ"حزب العمّال الكردستانيّ" (PKK)، وكذلك عند صلاح الدين ديمرطاش، زعيمِ "حزب الشعوب الديمقراطيّ" في تركيا، من جهة؛ وبين هذه الفكرة ذاتها في أدبيّات رفاقهما السوريّين في "حزب الاتحاد الديمقراطيّ الكُرديّ،" الفرعِ السوريّ للخطّ ذاته، من جهةٍ أخرى.

فقد اعتبر أوجالان أنّ رؤيةَ ستالين ولينين للقضيّة القوميّة باعتبارها، في الأساس، قضيّةَ بناء صرح الدولة، كانت "باعثًا أوّليًّا لوقوع الأحزاب الشيوعيّة والاشتراكيّة في بحرٍ من الغموض الإيديولوجيّ،"[4] وكانت "أفظعَ انحرافٍ وأَفدحَ خطأٍ ارتكبوه في تاريخ الاشتراكيّة العلميّة."[5] ورأى أوجالان أنّ التاريخ أثبت صحّةَ رؤية الفوضويين حتى في وجه ماركس وإنجلز، اللذيْن استمدّا من هيغل خطأ أنّ الدولة القوميّة هي النموذجُ الأساس للدولة وشكلُها الجديدُ الطبيعيّ والضروريّ من أجل العصر والحداثة؛ فالحقّ، في رأي أوجالان، أنّ "نموذجَ الدولة القوميّة المتينة، المعتمدةِ على البيروقراطيّة المغالية في المركزيّة، هو الذي قضى على الاشتراكيّة العلميّة وممارسةِ الاشتراكيّة المشيّدة، أو أنّه ــــ بالأحرى ــــ يتصدّر الدوافعَ الأوّليّة التي تسبّبتْ بتهشُّشِها وتفسُّخها من الداخل."[6]

ويجد أوجالان أنّ PKK "يعبِّر عن التفسير الديمقراطيّ غير الدولتيّ لمبدأ حقّ الشعوب في تقرير مصيرها في ما يتعلّق بالقضية الكرديّة،"[7] وأنّ منظومة المجتمع الكوردستانيّ (KCK):

"هي التعبير الملموس عن الحلّ الديمقراطيّ للقضيّة الكرديّة ــ ــ وهو مختلف عن المواقف التقليديّة. ولا يرى الحلَّ في اقتطاع حصّته من الدولة. بل هو لا ينساق وراء دولةٍ للكرد، بمعناها شبهِ الاستقلالي... ولا يتطلّعُ إلى بناء دولةٍ فيدراليّة أو كونفدراليّة؛ فهو أيضًا لا يَعتَبِرُها حلًّا خاصًّا به. ومطلبُه الأول من الدولة هو اعترافُها بحقّ الكرد في إدارة أنفسهم بأنفسهم وبإرادتهم الحرّة، وعدم زرعها العراقيلَ على درب تحوّلهم إلى مجتمع وطنيّ ديمقراطيّ."[8]

واضحٌ لدى أوجالان أنّ عصر "الدولة القوميّة" قد ولّى. وهذا يمكن أن يُقرأ، كما قرأه المحامي صلاح الدين ديمرطاش، على أنّ عصرَ اتحاد الشعوب الديمقراطيّ قد حلّ، وعلى أنّه كفٌّ عن المناداة بدولةٍ قوميّةٍ كرديّة، وخوضُ نضالٍ مشترك مع القوى التقدّميّة الأخرى، في كلِّ دولةٍ يوجد فيها الكردُ، لإقامة دولة ديمقراطيّة لا تراعي حقوقَ المواطن الفرديّة فحسب، بل تراعي أيضًا حقوقَ مجموعات المجتمع المدنيّ والجماعات والأثنيّات المختلفة. أمّا في خطابات رفاقهما السوريّين وممارستهم، فيبدو أنّ المقصود هو بناءُ دولة قوميّة كرديّة تراعي حقوقَ أولئك الذين يعيشون في كنفها، سواء أقام هذا الكيانُ الكرديُّ فيدراليّةً أو كونفدراليّة مع بقيّة مكوّنات المجتمع السوريّ في غير مناطق أو لم يُقمها.

وهذا يعني، بخلافِ ما ارتآه أوجالان، أنّ رفاقه السوريّين لا يزالون ضمن التفسير الدولتيّ لحقّ تقرير المصير. وإذا كانت هذه مشكلةً نظريّةً وسياسيّةً بين رفاق، فإنّ ما أراه هو أنّ ثمّة لبْسًا تثيره ممارسةُ "الاتحاد" وتصريحاتُه بصدد الفهم الدولتيّ لتقرير المصير ذاته. ذلك أنّ "تقرير المصير،" انفصالًا أو اتصالًا، حتى في فهمه الليبراليّ الذي عبّر عنه وودرو ويلسون وتبنّته الأممُ المتّحدة، إنّما يتمّ باستفتاء السكّان المقيمين في المنطقة المدّعاة، ولو كانوا من قوميّةٍ واحدة؛ وفي حال الاتحاد يكون السكّانُ في بقيّة البلد معنيّين بشكل الاتحاد وحيثيّاته، قبولًا أو رفضًا. وفي الحالين، لا يُفْرَض أيُّ شيء بالاستيلاء والضمّ ــ ــ كما بدا في محاولة "الاتحاد الديمقراطيّ" إقامةَ كوريدور بين كوباني وعفرين، أو ضمّ الرّقة وما تصل بنادقُه إليه، ولو في سياق مكافحة الإرهاب.

***

هذا وقد زاد هذا اللبْسَ لبسًا رهانُ "الاتحاد" على القوّة الأميركيّة في دعم قضيّته القوميّة، وهي قوّة تَحُول بنيتُها وموقعُها دون أن يُرتَجى منها أيُّ خيرٍ في مثل هذه المسائل. وهذا ما زكّى ويُزكّي الوهمَ الخطير الذي سبق إليه معارضون عرب وسوريّون: وهمَ "استغلالِ" المرء أميركا وتوظيفِها لخدمته.

وإذا كان الأميركيّون قد أطالوا خداعَ معارضين سوريّين أكثرَ من خمس سنوات، فإنّ أوهامَ "الاتحاد" (وأنصارِه المتحمّسين على وسائل التواصل) لم تَدُمْ سوى أيّام قبل أن توافق أميركا على دخول الأتراك الأراضي السوريّةَ سنة 2016 للحيلولة دون قيام كيان كُرديّ، قبل أن تتأهّب هذه الأيّام لسحب قوّاتها من سوريّة.

***

يبقى مصيرُ الكرد مأساويًّا مع إجماع الأنظمة الإقليميّة على رفض قيام كيانٍ كرديّ مستقلّ. ويزداد مأساويّةً مع رهان معظم النخب الكرديّة على ضواري العالم. وحده الإطارُ المؤمِّل هو إطارُ الشعوب الديمقراطيّ، مهما بدا بعيدَ الدرب ــ ــ وهو إطار يقتضي مراجعةَ الخيارات الخاطئة والخطيرة، المتمثّلة في المراهنة على الدعم الأميركيّ لقضية الكرد القوميّة، والكفَّ عمّا لا يزال ينشره بعضُ الكتّاب والمحلّلين الكرد بين إخوتهم من أوهام وأكاذيب مفادُها أنّ الانسحاب الأميركيّ (الذي يحصل فعليًّا) لن يحصل!

لقد سبق للسفير الأميركيّ السابق في سوريّة، روبرت فورد، أن أشار، هو بالذات، في أواسط 2017، إلى أنّ "الأكراد سيدفعون غاليًا ثمنَ ثقتهم بالأميركيين،" لأنّ "الجيش الأميركيّ يستخدمهم فقط لقتال داعش ولن يستعملَ القوّةَ للدفاع عنهم ضدّ قوّات النظام السوريّ أو إيران وتركيا."[9] ولم يمرّ وقت طويل قبل أن يعترفَ صالح مسلم، في مقابلة مع وكالة الأنباء الألمانيّة، بأنّ "التفاهمات التركيّة ــــ الأميركيّة مؤامرةٌ حصلتْ على الأكراد." وقال: "سبق أن حدثتْ مؤامرةٌ على عفرين، وتمّ السماحُ بتسليمها للأتراك مقابل رحيل فصائل مسلّحة عن الغوطة الشرقيّة... والآن هناك اتفاق أميركيّ ــــ تركيّ حول منبج." واتّهم مسلم الولايات المتّحدة بالتفريط بالمناطق التي سيطر عليها المقاتلون الأكراد لقاء "مصالح تنتزعها من تركيا، ربّما مقابل مناطق أخرى في سوريا أو خارجها… وفي هذا ظلم كبير لنا." أمّا الدرس الذي يستخلصه مسلم من ذلك كلّه فهو الآتي:

"كلّ شيء وارد… وتحالفاتُنا قد لا تتوقّف عند دولةٍ بعينها... كنّا نأمل أن تكون الأمور مختلفة… ولكنْ حدث ما حدث. وبالنهاية نحن لا نتحكّم بالقرار الأميركيّ… الأميركيّون يقرّرون حسب مصالحهم، وبالمثل نحن أيضًا لنا تحالفاتنا التي تحدّدها مصالحُنا. لسنا عبيدًا أو خدمًا لأحد… لنا سياساتُنا. وإذا توافقتْ مصالحُنا مع الأميركيين فسنسير معهم… وإذا توافقتْ مع الروس فسنسير معهم. وإذا توافقتْ مع الرئيس الأسد فسنسير معه."[10]

اللاذقيّة


[1] صالح مسلم، "الحلّ في جمهوريّة سوريّة ... ومشروعُنا يمنع التقسيم،" حديث هاتفيّ لجريدة الحياة مع إبراهيم حميدي، 24 يونيو 2015.

[3] تعجّ صفحات مواقع التواصل الاجتماعيّ بحسابات تطالب بالفدرالية والحكم الذاتي: منها صفحات طالبت بالحكم الذاتي لاقليم دير الزور نفسه. وكنموذج:

 https://www.facebook.com/%D8%AD%D8%B2%D8%A8-%D9%88%D8%AA%D8%AC%D9%85%D8%B9-%D8%A7%D9%82%D9%84%D9%8A%D9%85-%D8%AF%D9%8A%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%B2%D9%88%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%8A%D8%AF%D8%B1%D8%A7%D9%84%D9%8A-108864389794328/?ref=br_rs (الآداب)

[4]عبد الله أوجالان، مانيفستو الحضارة الديمقراطيّة، المجلد الخامس: القضيّة الكرديّة وحلّ الأمّة الديمقراطيّة، دفاعًا عن الكرد المحصورين بين فكَّي الإبادة الثقافيّة، ترجمَته من التركيّة: زاخو شيّار (مطبعة آزادي، ط2، نيسان 2014)، ص 313.

[5] المصدر السابق، ص 315.

[6] المصدر السابق، ص 314.

[7] المصدر السابق، ص 502.

[8] المصدر السابق، ص 504.

[9] "فورد: الأكراد سيدفعون ثمن ثقتهم بالأميركيين... وأوباما لم يترك لترمب الكثير من الخيارات،" حديث إلى الشرق الأوسط مع ابراهيم حميدي، 19 يونيو 2017.

[10] انظر، "صالح مسلم: واشنطن تآمرت على الأكراد.. والحوار مع الأسد ممكن،" المدن، السبت 09/06/2018 https://www.almodon.com/arabworld/2018/6/9.

ثائر ديب

طبيب سوريّ، متفرّغ للترجمة والعمل الثقافيّ. عمل مديرًا لتحرير مجلّة تبيّن بين 2012 و2014، وترأّس تحرير مجلة جسور (الهيئة العامة السورية للكتاب)، وكان عضوًا في هيئة تحرير مجلّة الآداب العالمية (اتحاد الكتاب العرب، دمشق). ترجم عشرات الكتب، منها: الجماعات المُتَخَيَّلة: تأملات في أصل القوميّة وانتشارها (لبندكت أندرسون)، والترجمة والإمبراطوريّة (لدوغلاس روبنسون)، وموقع الثقافة (لهومي بابا)، وثقافة الطائفية: الطائفة والتاريخ والعنف في لبنان القرن التاسع عشر (لأسامة مقدسي)، وتأملات في المنفى (لإدوارد سعيد)، ونظريّة الأدب (لتيري إيغلتون)، والنظرية النقدية: مدرسة فرانكفورت (لآلان هاو).