عَن بُعْد
10-11-2020

 

عبثتْ جائحةُ كورونا منذ ظهورها المستجدّ نهايةَ العام 2019 بكلِّ مقدّراتِ الإنسان. كما غيَّرتْ في شكل حياتِه وأسلوبها. وما زال هذا الإنسانُ، على الرّغم من عبقريّته في تطوير ماكينة الحرب، عاجزًا أمام هذا "الكائن" الذي ما استطاع إيجادَ قياسٍ له على مسطرة البشر!

من بين ما أتت عليه الجائحة التَّعليمُ، الذي ابتدأ وجاهيًّا، يحجُّ فيه طالبُ العلم إلى رُكنِ معلِّمه؛ وانتهى اليومَ بفُقدانه هذه الميزةَ التي أوْجَدَت فكرةَ "المعلِّم الرَّسول،" إذ بعثت التكنولوجيا "رسولَها" الخاصَّ عبْر شاشةٍ صغيرةٍ يُطلُّ من خلالها على مُريديه، غيرَ مكترثٍ بِمَن فقدوا حاسّةَ القرب.

أستطيعُ اليومَ قراءةَ الطّالع بوضوح. بالقرب من منزلي مبنًى لمدرسة الذُّكور الإعداديّة. لا أُنكر أنّ صوتَ الجَرَس الصباحيّ كان منبِّهي الأوّل، وأنَ الضَّوضاءَ كانت تدفعني أحيانًا إلى غلْق نافذتي والتذمُّرِ قليلًا، متسائلًا: "متى ستأتي العطلةُ الصيفيّةُ لينتهي هذا الكابوس؟" ثمّ تأتي العطلةُ الصيفيّة لأجدَ أنّ مَن كانوا مصدرَ الضَّوضاء، ومَن يجمعهم صوتُ الجَرَس وعصا المعلّم الناعمةُ وهو يتجوّل بينهم بكاملِ قيافته، قد اتَّخذوا من الشارع مسكنًا لهم؛ لتُمسي المدرسةُ بعد كورونا مجرَّدَ مبنًى لا تَسمع فيه سوى رجْعِ الرّيح. ولا أستبعدُ أنْ أراه لاحقًا وقد زيَّنتْه يافطةٌ من القماش، كُتب عليها: "المبنى للبيع أو الاستثمار!"

المعلّم الآن يسكن هواتفَنا الذكيّة. لكنّه سرعان ما يغادرُها عند فقدان البطاريّة قدرتَها إنْ غابت الكهرباءُ بفعل الحربِ أو الفساد. وصار بإمكان الطالب إسكاتُ المعلّم متى شاء، وخفضُ صوته أو رفعُه، وربّما تغييرُ نغمةِ هذا الصوت إذا لم يرُقْ له. ومنهم مَن لعب كرةَ القدم في وجود هذا المعلِّم، الذي حضرتْ صورتُه وغابت هيبتُه. وقد تزداد أُمِّيَةُ مَن لا يملكون ثمنَ هاتفٍ ذكيّ قادرٍ على استحضار هذه الصورة الناطقة. وربّما يدفعهم الفقرُ إلى اللجوء إلى شارعٍ يكفي لنصب حجريْن يصنعان مرمًى لا يهدف سوى إلى قتلِ الفراغ؛ أو يدفعهم إلى مغادرةِ البيت الذي أمسى مكتظًّا بِمَن فقدوا مقاعدَهم الدراسيّةَ وضاقت بهم الجدران.

لكنْ ماذا تفعل عائلةٌ مكوّنةٌ من عدّة أطفالٍ بلغوا سنَّ التعليم، وأبٍ لا يصطاد قوتَ يومِه إلّا بشقّ النفس، وأمٍّ ذابت يدُها في فرك المواعين والملابسِ حتى انْبَرَت كقطعةِ صابون؟ هل يضيرُها بعضُ الراحة من رتْق ملابسِ أطفالها المدرسيّة الرثّة لتشنقَها فوق مسمارٍ على حائطٍ متآكلٍ بحجّة أنّ الهاتفَ الوحيدَ في البيت غيرُ ذكيّ؟ وحتى لو تمكّن هؤلاء الأطفالُ من سرقة الرقم السرّيّ لشبكة الجار المُقتدِر، فالمعلّم لا يمكنه التجوُّلُ داخل هذا النوع من الهواتف. وإنْ تمكّن الوالدُ المسكين من شراء هاتفٍ ذكيّ، فذكاءُ الهاتف قد لا يحلّ مشكلةَ خمسةٍ من الطلّاب الأطفال، عليهم استحضارُ المعلّم كجِنِيّ الفانوس السحريّ في الوقت المناسب، وفي التوّ واللحظة! وإنْ حصل أن نجحوا في استخراج المارد من القمقم، فهو لا يلبّي سوى أمنية طالبٍ واحدٍ فقط.

 

المعلّم الآن يسكن هواتفَنا الذكيّة

 

هنا، أستذكر ملامحَ معلّمي الأوَّل، صاحبِ الابتسامة الخجولة التي كانت ترتسم في ذكرى يوم المعلِّم. كنتُ أتقدَّم منه بحذرٍ مُبالغٍ فيه لأُعربَ له عن امتناني لِما يفعله من أجلنا. الآن، أكادُ أرى بُرادةَ الطباشير وهي تتحوّل إلى غبارٍ منثورٍ في فضاء ملاعبِ الشارع، لأنَّ المدرسة مُقفلة حتى لقاحٍ آخر.

كنت ألملمُ ما سقط من شفتيْ معلّمي وهو يكرِّر شرحَ أمرٍ ما لأحد الطلّاب المحدودي الذَّكاء. واليوم، أفتقدُ رائحةَ عطره البسيط، لباسَه المكرَّر، نظّارتَه السَّميكة، نظرةَ عينيْه وهو يكافئ أو يعاقبُ أحدَنا. أفتقدُ وقفتَه أمام الطابور الصباحيّ، بينما يعلو جيبَ قميصه الغطاءُ الأزرقُ لقلم الحبر الجافّ. لكنّني لا أفتقدُ رؤيتَه وهو متساهلٌ مقموعٌ بعد تقديمه درسًا خصوصيًّا لطالبٍ ذي شأنٍ وجاه. وحتى هذه ضاعت، ونالت ممّا تبقّى له من سطوة، بعد أن حشرناه داخل فانوسٍ سحريٍّ، اسمُه الهاتفُ الذكي، ثم صنعنا من أوراق الدفتر قواربَ لا تُجيدُ العَوْمَ داخل مستنقعات شوارعنا الجافّة.

كلُّ هذا يدفعني إلى الحفر عميقًا في ذاكرة الأرض، والعودةِ إلى النَّقش الأوَّل، والمسماريّات، وتجلّي الأبجديّة، وفكرةِ "الكُتّاب" في البلد. اليوم، أتابع ذلك التحوُّلَ الذي لم تفرضه الحكمةُ، ولا فلسفةُ التعليم، ولا الضرورةُ الاجتماعيّة، بل فرضته أصابعُ اليد البشريّة المُنشغلة في سباقات التسلُّح والحروب. وقد أشيع، بدايةَ الجائحة، أنّ فايروس كوفيد-19 ليس سوى آلةٍ جديدةٍ من آلات الحرب التي تتسابق في صنعها دولٌ تعتقد بأنَّها متقدِّمةٌ وديمقراطيّةٌ، في حين أنها أمرَضت الكوكبَ، ومن أجل شفائه نحتاج إلى صدفةٍ طبيّةٍ قد تطول.

كما أنّها حوّلت المشاعرَ الحميمةَ إلى كتلةٍ ضوئيّةٍ على شكل مُعلّمٍ محتجَزٍ داخل إطارٍ معدنيّ، تتغيَّر ألوانُه وأشكالُه بحسب الرّغبة، وقد نُطفِئه حين نشعر بالملل، لنأخذَ بعد ذلك قسطًا من النوم أو لعبِ ورق الشدَّة، وعلى برنامج المعلّم الآليّ نفسه القابع داخل هواتفنا الصغيرة.

لم تقف المشكلةُ عند تغيُّر قواعد اللُّعبة بين المعلّم والطالب، بل ثمّة خساراتٌ متتاليةٌ تلقّاها الطرفان. فالطالب خسر تفاعلَه المعتادَ داخل الغرفة الصفّيّة بعد أن ازداد عددُ المُتابعين للحصّة الإلكترونيّة بحُكم توفير معلّمٍ واحدٍ لشريحةٍ واسعةٍ من الطلاب. كما خسر علاقتَه المباشرة بأقرانه، وهي علاقةٌ تُكمّل تربيةَ الأهل. ناهيك بفقدانه عنصرَ الاستماع المباشر، الذي يعزِّز فكرةَ احترام الآخر وتبادل الرأي معه. أمّا المعلّم، فمع أنّه يحاول تعويضَ هذا النَّقص بمُداخلاتٍ قادرةٍ على صنع الابتسامة، فإنّ هذه المُداخلات تبقى باهتةً ومصطنعةً وعرضة لسخرية الطالب المختبئ خلف شاشة هاتفه.

إذن، لا انتهاءَ لهذه المعضلة إلّا بانتهاء المسبِّب. فلا يمْكننا، وسطَ هذه التحذيرات المتلاحقة من مؤسّسات الاختصاص، سوى الاستكانة إليها، والذهابِ إلى حماية المعلّم والطالب، والبحث عن سُبُلٍ ناجعةٍ تَكْفل دوامَ الدَّور الرياديّ للمعلّم، كما تكفل مستقبلَ الجادّين من الطلّاب، قبل أن نتورَّطَ في إنتاج جيلٍ اتّسعت الهوّةُ بينه وبين معلّميه، فبات مجرّدَ آلةٍ لحفظِ ما هو "جديد" ولكنّه عاجزٌ عن استرجاع إرث أمّتنا العربيّة الإبداعيّ والتعليميّ الضخم؛ ما يسهم في تفكّك هذا الإرث وتَحلُّلِه.

عمّان

 

محمد خضير

شاعر وفنّان تشكيليّ. أمين النشر في رابطة الكتّاب الأردنيين.