الرسالة الأخيرة من إزمير
04-05-2016

 

الليل، يا أمّي، أسكنُه لكي لا يخون، وأحومُ حوله كجاريةٍ مدفوعةِ الأجر لكي لا يبعد الإيقاع عنّي، فيُرجعَني بقافيةٍ ضروريّةِ التكرار نحو بلادٍ لا تصدِّق أنّ لي أهلًا وظلًّا وبيتًا كثيرَ الشبابيك.

منذ الأمس لم يهدأ البحر يا أمّي، ولم آكل. يقولون إنّ اليونان قريبة، وإنّ كلّ الفصول هنا ربيع، وإنّ البحر خائنٌ بعيون الخائفين. وأنا أصدّق كطفل صغير تسرد له جدّتُه قصصًا ذاتَ نهايات سعيدة.

الجميع الآن يغنّي؛ رأيت عربًا يهمسون بلحنٍ حفظتُ مطالعهُ "يُمّا مويل الهوى، يُمّا مويليّا... ضرْب الخناجر ولا حُكْم النذل فيّا." رأيتُ ناسًا كثيرين يا أمّي لكنّني لم أنتبه حتّى الآن مَن أنا، فأحاور البحر:

"فلتهدأ قليلًا. احملْني يا بحر على خاصرتك. يا بحر، لم أرَ أهلي قبل هذا اللقاء، فلتسمحْ لي بوداعٍ أخير، وخذني بعدها كما تشاء. أمّا الآن، فلتُظهرِ النَّجاةَ كحمّالة المفاتيح، واضحةً بصوتٍ وأبواب. خذني بلا زفّة ولا أهل، بلا قافية أو لحن. خذني يا بحرُ واحدًا منّي، لئلّا يراني أحدٌ غيري."

الرابعة فجرًا وكلّ شيء هادئ إلّا من بقع ضوء حافية تقود داخلي مَدًّا وجزْرًا، بقعٍ ترمي ظلالًا لراعي البحر الذي بدأ بتجميعنا كقطيع نحو منحدر لزج. لقد بلغتُ العشرين يا أمّي، وصرتُ قادرًا على السفر وحدي. ابتسمي لكي لا أبكي. كم مرّةً ضعتُ على طريق مدرستي، ووجدتُكِ تبحثين عنّي بين الأزقّة؟ ابتسمتِ وأنت تتقدّمين نحوي. فلتبتسمي الآن لأنجو وأعلو!

الرابعة والنصف فجرًا. شبّان يضحكون. أطفال يتكدّسون حول بعضهم في الوسط.

أوّلُ البحر يا أمّي عرّافةٌ لا تصْدُق أبدًا. أوّلُ البحر ستائرُ لشبّاكٍ يطلّ على جدار. أخرجُ من نفسي، وأنظر نحوي من البعيد، كأنّي ذاك الواقف على البرّ مودّعًا آخرَ القطرات التي سالت على عشبٍ يابس.

أنا الآن في منتصف البحر. لا شيء معي الآن يا أمّي. سقطت حقيبتي والنظّارة. سقط صوتي في النداء. سقطتْ أدواتُ الإشارة في خوف العابرين بين هاويتين. لا شيء معي الآن، لا الأمام ولا الوراء، وكلُّ الجهات شرق. أحمل دلوًا صغيرةً لأرمي ما فاض من حنينٍ وماءٍ خارج حصّتي من القارب، فنادي عليَّ يا أمّي لعلّي مازلتُ في البيت. اصرخي باسمي بين الغرف، لعلّي أولدُ قربك سالمًا كالشعر المصفّى من الاستعارة، ولعلّي أنجو كاملًا من دون نقص في الهواء.

ثلاث ساعات في البحر، والموج يرتطم بأوّل القارب. ماذا أقول لكِ وأنا أرى الموتَ يعلو ويهبط ويحوم كصيّادٍ لا يمهل الفريسة فرصةً ثانية؟ ماذا أقول سوى ما يقول النازلون عن درجات البيوت في وداع، لعلّهُ الأخير: "افرشي الأرض التي كنتُ أنام قربها كأنّي عشبة نبتت في غير موعدها"؟

قد توسّع النشيدُ يا أمّي، وزاد الغدُ ابتعادًا عن صدى مَن غرقوا، وسقطوا مثلي في غواية الوصول نحو يابسةٍ لا تظهر إلّا لتغيب. انقلب القارب يا أمّي. والآن، لا شيء سوى الماء والملح. أدفعُ الماءَ عنّي وعنكِ، وأفضّ البللَ بالشهيق. أتخيّلُ ما تفعلين الآن وأنا أغرق؛ ما تقولين وأنا أبحث عن الحياة وسط الملح.

سواد يا أمّي. قاعُ البحر حبري حتّى آخر قطرة. لا أدري متى كانت آخر مرّة رأيت السماءَ  فيها، ولكنّني مقتنع بأنّ آخر مَن خاطبتهُ ورأيتهُ هو أنتِ.

 

المعتصم خلف

طالب حقوق فلسطينيّ ــــــــ سوريّ. كاتب ومعدّ برامج إذاعيّة.